.
يبدو وضع “الصوت” مربكاً للفن المعاصر، فلئن كان من السهل وضع مارسيل دوشان (أو دوشامب كما يكتب أحياناً) في إطاره فأين يمكن تصنيف شغل جون كيدج، أفي الفن المعاصر وألعابه المفهومية أم في الموسيقى؟ مع الوقت، يبدو أن المتاحف ومعارض الفن المعاصر تتجه أكثر نحو استقبال أوسع للأعمال التي تُسائل الصوت والصمت والايقاع في إطار معروضاتها، فمنها ما يسعى لنحت الفضاء من خلال قوة الصوت الصادرة عن مكبرات موضوعة بحسب الصالة وحساباتها، ومنها ما يريد أن يكون مصاحباً لأعمال أكثر تقليدية كالرسم مثلاً، ومنها ما يقف على الحدود ما بين الصوت والفيديو والسير على غير هدى في المدن على خطى دوبور جي دوبور منظر ماركسي وصانع أفلام وأحد مؤسسي حركة الستيواشنست إنترناشنال وأصحابه.
ربما في إطار مثل هذه التساؤلات، والموضة، يمكن إدراج معرض إسمع الذي يستضيفه مركز بيروت للفن المعاصر الذي يسعى الفنانون المشاركون فيه بحسب كاتالوغ المعرض إلى “تخطي فكرتَي الصمت وتوسيع الطيف السماعي اللتين أشاعهما جون كيدج إلى اختبار كوامن وحدود الإدراك أو إعادة اختبار الثقافة المادية والأداتية لتقنيات التسجيل والبث بغية استكشاف المخزن العاطفي والسياسي الذي تحتويه تجربة السماع”. أي، إذا ما خرجنا من الكلام المفخم كالعهن المنفوش للفن المعاصر، فقد يكون المقصود الخروج من تحدي المادة المسموعة نفسها وكيفية ومعنى إنتاجها، إلى ماديات التسجيلات من اسطوانات ومكبرات صوت وما شابه واكتشاف تراكمات تشابكها مع المجتمع والسياسة وتواريخ مثل هذا التراكم.
إضافة إلى سؤال “المادة المسموعة” في مقابل “تجربة السماع وأدوات التسجيل“، هنالك أيضاً تحدٍ آخر مرتبط بذلك، في مجال قاعات الفن المعاصر، ألا وهو التساؤل عن كيف يمكن “زيارة” visit معرضه؟ أليس في الـ visit شيء من الـ visu؟ Visite: from Latin visitare - to go to see, come to inspect ترتبط تجربة زيارة معارض الفن المعاصر عموماً بالجانب البصري من ناحية (كيف يرتبط المفهوم بالتجهيز أو بالعمل “المعروض” أي المتاح للعيان) وبجانب آخر هو القراءة (قراءة النصوص الشارحة لهذه المفاهيم التي تبدو الجانب الأهم أحياناً في العمل). في كل ذلك، يبدو وضع الإبصار، في وصفه الحاسة الأساسية للبشر بحسب بعضهم (ليفيناس) Emmanuel Levinas، متميزاً وفريداً، وهو ما ينبغي بأعمال تتناول السماع والصوت أن تتحداه، وفي ذلك كل الصعوبة.
ربما لهذا السبب بالذات بدا المعرض كله مُنحصراً، بحسب كاتالوغه تحديداً، لا في “إنتاج مادة صوتية” خاصة بهذا الفن المعاصر، بل في حالة من اثنتين تتيحان كلتاهما إبراز عامل بصري ما:
– “الاستشعار” أو ما قد أسميه حالة “التقاط” الذبذبات وتحويلها إلى حركة ميكانيكية كما في عمل فارتان أفاكيان مثلاً، المعنون في بلاغة التكرار، والذي يسعى من خلال قطعة معدنية إلى التقاط ذبذبات نهر بيروت القريب من المركز، أو العمل الشهير لألفين لوسير المعروض أيضاً في المركز، بعنوان موسيقى على وتر طويل رفيع والذي يستخدم مكبرات صوت لالتقاط اهتزاز وتر معدني طويل تبعاً لموجات المغناطيس الموضوع تحته مما يتيح لنا أن نستشعر هذه الاهتزازات،
– أو “وصف المادة الصوتية” كما في عمل بيير ويغ مقطوعة الصمت، الذي هو إنشاء تدوين موسيقي (تنويط) لعمل كيدج الأشهر ربما أربع دقائق وثلاثة وثلاثون ثانية (حيث يفتح العازف البيانو ويجلس امامه لهذه المدة دون حركة، فتتآلف مقطوعة كيدج من الأصوات المحيطة في الصالة ومن جمهورها في هذه الدقائق)، أو في ترجمة النقد الموسيقي للصم بلغة الإشارة وعرض هذا الفيديو في شغل كريتسيان ماركلاي بعنوان آراء متباينة، حيث يشرح ممثل أصم بالإشارة تجميعاً من مقتطفات من نصوص نقدية يحاول مؤلفوها وصف مقطوعات موسيقية سمعوها.
أما الثقافة المادية والأداتية لتقنيات التسجيل والمخزون العاطفي والسياسي في ذلك، فيبدو أن من علاماتها فرش ماركلاي نفسه لأرضية الممر بالأسطوانات القديمة “التي تحمل مخزوناً كبيراً من الزمن الماضي” داعياً العابر إلى المشي عليها (عمل بعنوان أربع ملايين دقيقة) والاستماع إلى صوت التكسير، أو عمل لورنس أبو حمدان كل ما تسمعون، حيث التقى بخطيبين في مساجد القاهرة ودعاهما لتناول موضوع التلوث السمعي في خطبتيهما بحيث نرى أيضاً إسهامهما في هذا التلوث السمعي من خلال مكبرات الصوت التي تحتل فضاء القاهرة، ذلك في حين يتناول فرانسيس أليس في عمل درابزين لندن كيف تطرق على أسوار حدائق هذه المدينة وشرفاتها بمطرقة خشبية كعصا الدرامز ويصور نفسه متنزها في شوارعها محولاً هذه العناصر الهندسية إلى آلة ايقاعية.
ليس من أغراض هذه المقالة القصيرة تناول الأعمال كلها واحداً فواحداً، بل عرض لمحات تكاد تكون مشتركة أو عامة وتشير في مجموعها (بما في ذلك كبسولة صوت شريف صحناوي وموسيقاه الفوضوية وعروضها الضيقة المحسوبة بدقة) إلى التوتر الكامن في تناول الفن المعاصر لمسالة الصوت والصمت. وأحسب أن إزاحة الاهتمام من المادة نفسها (الصوت والصمت) التي لا نكاد نجد في المعرض إنتاجاً جدياً لها، إلى تجربة السماع ومادية التسجيلات قد يبدو أيضاً إعلان هزيمة أمام المادة الصوتية، وتفضيلاً لما قد يبدو أكثر قابلية للرؤية والالتقاط (أجساد الذين يدوسون على الاسطوانات، أو تصوير الجسد المغني في البرية ـ في عمل سينتيا زافين الصوت والغابة ـ أو ذاك الذي يولد الإيقاع بالطرق على شرفات المدن وأسوار حدائقها).
من ذلك التوتر أيضاً الإفساد الدائم الذي يولده حضور الزائر لتجربة العرض نفسها. ألا تفترض قاعات معارض الفن المعاصر، بيياضها الناصع كالمستشفيات وغرف العمليات، عزلة هذه التجارب التي يفترض أن يمر بها الزائر عن أي تأثير آخر (عزلة القاعة ومنع المساس بشريط لوسير المعدني مثلاً)؟ لكن ألا يفسد صوت مكيف الهواء في القاعة هذه الرؤية، ويفسدها أيضاً صوت الكلمات ـ والكلمات نفسها أصوات ـ تلك التي يهمس بها الزائر لنفسه؟ الصمت الصافي ما لا يوجد. هنالك دائماً ذبذبة، إيقاع داخلي، حركة جسد، نبضات قلب، كلمات ترن في الدماغ. الأصوات تشتبك مع كل هذا في كل مرة، ولذا كل تجربة استماع للموسيقى، أو لمادة صوتية جدية، تكون تجربة مختلفة وفريدة في كل مرة. لكن الأعمال في أغلبيتها الساحقة، كما ذكرت، كانت تتفادى المادة الصوتية وتبحث في ما يمكن إبرازه للعيان.
لذا يلوح لي أن الانحراف عن البحث في المادة الصوتية نفسها كان سبباً لجعل فكرة الأعمال تستنفد الأعمال كلياً ولا تترك منها أثراً يفيض عن الفكرة نفسها. أعني أن الإلمام بوجود فيلم فيديو يصور عابراً في المدن يطرق جدرانها وشرفاتها بعصا الدرامز، مرفقاً بشرح كتالوغي وتأويلي، أليس ذلك كافياً للزائر ومغنياً له عن الوقوف والاستماع لثلث ساعة مثلاً؟ وشأن ذلك شبيه بخطبتي شيخي المسجدين الذين ينتقدان التلوث السمعي ويساهمان فيه في آن واحد، أليس في هذا الوصف مثلاً ما يغني عن الاستماع إلى تفاصيل الخطبتين؟
هذا الغياب للمادة الصوتية يجعل السؤال التالي أكثر إلحاحاً، لأنه مبني على الغياب: متى يكون هذا العمل أو ذاك موسيقياً ومتى يكون فناً معاصراً؟ لعل النقطة السابقة بداية جواب. ربما كان الفن المعاصر، في علاقته بالصوت تحديداً، هو ما تستنفده فكرته. في حين أن الفن الموسيقي هو ما لا يستغني عن مادته الصوتية (حتى وإن استغنى عن أية أفكار أخرى)، أي عن بحث علاقة المستمع بالزمن، بضرورة أن يقف وينصت لفترة معينة إلى حين اكتمال المادة الصوتية نفسها، أو المقطوعة الموسيقية، إذ لا فكرة تستنفدها أو تلخصها أو تحل محلها أو تغني عن تلك التجربة الفريدة، أي إدراك التعارض او الكونتربوانت بحسب سترافنسكي، ما بين مرور الزمن النظامي وبين الوقت الخاص بالمقطوعة الموسيقية وأدواتها.
أين تبدأ الموسيقى؟ يرى دولوز، معلقاً Gilles Deleuze: 'Périclès et Verdi; La philosophie de François Châtelet' على شاتليه François Chatelet، أن الموسيقى تكمن في إدخال علاقات إنسانية في الأصوات، في ترتيب الأصوات في شكل إنساني. هذا طبعاً قد يؤدي إلى نفي كيدج من عالم الموسيقى، اذا افترضنا أن الإنسان قصدي في علاقاته وأن الصدفة والحظ عوامل محيطة موجودة دائماً في كل تجربة استماع وليست، أو لا ينبغي ان تكون، جزءاً من مادة الموسيقى نفسها. لكن مثل هذا التناول يفرض تساؤلاً حول ما إذا كان كل ترتيب متعمد للأصوات موسيقى، أم أن علينا تأويل “علاقات إنسانية” لتستدخل أيضاً علاقات تاريخ الإنسان في ترتيبه لهذه الأصوات، مستمعاً كان أو مرتباً (مؤلفاً أي خالقاً للإلفة والتوليف) لها، وهو أي التاريخ ما يبنى عليه السماع، إذ أن السماع دائماً محكوم بالإرث السابق على العمل نفسه؟
يخرج الزائر من المعرض بتساؤلات بعيدة كل البعد ربما عن مواضيع الأعمال المطروحة، متحسراً أنها لم تُسائل السماع عن الإرث الحاكم له، وهربت نحو تناولات أخرى، ثم يسأل إن كان ذلك عيباً للمعرض أم نجاحاً له، وإن كانت المشكلة في الأعمال نفسها أم في هوى نفسه هو وما يتحكم بها، ويستذكر قول أبي الطيب: إنما تنجح المقالة في المرء / إذا صادفت هوى في الفؤاد.