.
خبران قلبا الإنترنت اليوم. الأول والأهم والذي يشغل الجميع هو إطلاق سراح حسام بهجت وبشكل مفاجئ. خرج في الساعة الثانية ظهراً تقريبا والجميع في فرحة عارمة وشعور بالنصر نتيجة للضغط الذي مارسه الناشطون على الشبكات الاجتماعية. الخبر الثاني لا يمس الكثيرين. ولو تكلم أحد بجدية عنه لربما سمع ما لا يرضيه. لا أدعي وجود مؤامرة لتمرير الخبر في خضم ضجة حسام بهجت، الا أن الخبر هذا كان على الأغلب سيتسبب في الكثير من الضجة لو صدر في وقت آخر. بالمناسبة مبروك حسام
الخبر هو تسلّم هاني شاكر نقيب الموسيقيين الضبطية القضائية من وزير العدل أحمد الزند. تناقل مستخدمو الفيس بوك من المهتمين بالموسيقى وصناعتها الخبر مع صورة مرافقة من جريدة اليوم السابع وبها هاني شاكر مبتسماً ابتسامة مرهقة وذقنه خضراء قليلا، بينما أحمد الزند في حالة ليست أفضل بكثير. في وجهيهما نقرأ ساعات اجتماع طويل ملتهب قد يكون استغرق الليل بطوله. يقول الخبر إن هاني استلم الضبطية القضائية من وزير العدل. الضبطية تجعل من الموكلين من نقابة المهن الموسيقية مأموري ضبط قضائي. الشخص الذي يحمل هذه الصفة يحق له تقصي الجرائم ومرتكبيها وجمع الدلائل التي تلزم عملية التحقيق في الدعوى، ويخضع لإشراف النائب العام. يحمل الشخص بطاقة تثبت أنه “مأمور الضبط القضائي” وله حق دخول جميع أماكن العمل وتفتيشها للتحقق من تطبيق أحكام القانون وفحص دفاتر وأوراق المتعلقة وطلب مستندات وبيانات من أصحاب الأعمال أو من ينوب عنهم.
الكثير من الاصدقاء والزملاء من العاملين في المجال الموسيقي وكثير من الموسيقيين الذي اتابع صفحاتهم هالهم هذا القرار وتباينت آراؤهم ما بين الاضطراب والاستفهام والذهول والقلق. الشارع الموسيقي ليس في نفس مقدار سعادة شارع هاني شاكر مع انه من المفترض انه في كل شارع من الشوارع مشي، ومع اللي رايح واللي راجع حكى وبكى من قلب قلبه على حزن الناس.
وظيفة النقابة هي أن تكون مفيدة لأعضائها. فقط. النقابة هي تجمّع من أشخاص يمتهنون نفس المهنة لتقرير مصالح مشتركة وتوفير مقتضيات أساسية مثل التكافل وتوحيد الصفوف لاكتساب حقوق وامتيازات لأصحاب هذه المهنة.
لكن الأمر مختلف في نقابة الموسيقيين. كل ما تفعله هذه النقابة هو منع أي موسيقي من أن يعتلي خشبة المسرح دون تصريح نقابي ليتمكن أي شخص من الصعود على خشبة المسرح لابد أن يكون معه تصريح نقابي. إذا كونت أنا واصدقائي فريقاً وقررنا تأجير مسرح في ساقية الصاوي لندعو جمهوراً صغيراً، لابد من أن يكون لدى كل منا عضوية في النقابة. للحصول على العضوية لا بد للفنان من اجتياز امتحان أمام هيئة من النقابة. لك أن تتخيل موظفي النقابة المسؤولين عن إقرار أهليتك الفنية من عدمها. لك أن تتخيل مدى سعة صدرهم وحداثتهم التي شاع التندر بها منذ عشرات السنين عبد الحليم حافظ تم رفضه لأنه لم يكن ملتزما بشكل كافي. هو غير أهل بتلقيبه موسيقياً بالفعل ولكن هذا ليس موضوعنا هنا.الموضوع هنا هو حجم الهوة بين النقابة والجمهور. هذا يدر دخلاً على النقابة وليس له أي هدف آخر. لا تقوم النقابة بجهود تذكر من أجل تحسين وضع الموسيقيين في مصر. في معظم الحفلات يظهر مندوب عن نقابة المهن الموسيقية ليأخذ رشوة تحت مسمى تصريح نقابي. يأخذ المندوب حصة من المال مقابل ألا يقوم بمنع الحفل. “أتاوة” لكي لا يتصل بالأمن ويبلغ بأن هؤلاء المعتلين المسرح ليسوا أعضاء نقابيين. عدا عما سبق، ليس هناك أي علاقة بين النقابة والفنان.
حجم الرشوة يعتمد على قدرة المندوب التفاوضية. إذا كنت ترتدي بدلة فسوف يقرر أن تصريح النقابة قيمته ١٠٠٠ دولار عن كل موسيقي على الخشبة، وإذا كنت ترتدي بنطلون جينز تصبح قيمتها ٥٠٠ جنيه عن الفرقة، كما أنها تختلف أيضا حسب مكان إقامة الحفل. أتذكر أنني سألت أحد المندوبين عن طريقة تحديد هذه القيمة، فتلعثم وتورط من فرط تضارب إجاباته وتضادها. تسأله اذا كانت تتحدد حسب أجر الفنان فيقول نعم، ثم ينكر ذلك إن اكتشف أن أجر الفنان ليس كبيرا. تسأله اذا كان بقدر المكسب من بيع التذاكر فيوافق ثم ينكر إن عرف أن التذاكر لا تكاد تغطي مصروفات الحفل، ثم يقرر إنه بقدر “جودة الفنان“. إذا كان فناناً كبيراً نأخد منه فلوس كتير وإن كان صغيراً ناخد منه فلوس قليل. تدخل معه في نقاش أن الكبر والصغر معايير غير دقيقة. فالفنان إما كبير مقاماً فيقاس بأجره مثلاً، أو كبير جماهيرياً فيقاس بالعائد من التذاكر، أو كبير حجما فيقاس بالليتر. في كل الحسابات لم تكن النتيجة في صالحه ولا في صالح الرشوة التي يرجوها. بعد الاتفاق على حجم الضرر تحصل على إيصال هو عبارة عن “وصل استلام نقدي“، لا يحمل أي إثباتاً أنك حصلت على تصريح.
هذه بعض علامات الاستفهام حول النقابة وجدواها ودورها. بعد سنوات طويلة من الصراع مع نقابة المهن الموسيقية على قدر الرشاوي، يصدر اليوم قانون مثل الضبطية القضائية الذي يمنع أي شخص يسب ويقذف مصطلحات شديدة الاتساع. مشكلتي هي ليست بتقييد الحرية الشخصية وحرية الإبداع وما إلى ذلك من شعارات براقة، لأن الحقيقة هي أنه لا يمكن منع أي حرية إبداع. حرية الابداع موجودة في كل مكان ولن تقدر هيئة بهشاشة نقابة المهن الموسيقية أو غيرها المساس بها. يومياً يضع الموسيقيين إصدارتهم على ساوند كلاود ويوتيوب وفيس بوك، ولن يعني منع أي من تلك الاصدارات سوى دعاية مجانية لها.
المشكلة الحقيقية هي ظهور ورقة جديدة على طاولة المفاوضات اليومية في أي حفل موسيقي. هذه الورقة تُقر بأن الموكل من النقابة يمكنه أن يزج بي في السجن. مرة أخرى ليست المشكلة هنا هي الخوف من الحبس. أشك أن يُسجن أحد إثر هذا القرار. الحكومة تعرف جيداً أن إشهار الحرب على أشخاص جزء من عملهم هو حشد الجماهير لن تكون خاتمته سعيدة.
المشكلة هي أن هذا القانون ينال بالدرجة الأولى من مطربي الأفراح والطبالين والآلاتية. فالفن الجماهيري، من أمثال انتاجات السبكي التلفزيونية والتي يقع أيضا محتواها الموسيقي تحت طائلة نقابة الموسيقيين، عنده من المال ما يمكنه من سداد أتاوته لم نسمع عن حالة منع واحدة تمت لأي من تلك الافلام التي احتوت على كل انواع الغناء الشعبي الذي قد لا يفضله مدرس الكونسيرفاتوار المحافظ. أما الفن المستقل بصورته المبسطة مثل سلالم ومسار اجباري ودينا الوديدي، فلدى جمهورهم من الوعي والاتصال بالوسائط ما يجنب النقابة التصادم معهم. لكن مندوبي النقابة يتوافدون أيضا على قاعات الأفراح وما تبقى من الكاباريهات التعيسة، والموسيقيين هناك ليس لديهم متابعين يتبنون لهم هاش تاج ويغيّرون صورة البروفايل بصورة لاعب الأورج عبد السلام مثلا. هؤلاء هم من سوف تنال منهم الضبطية.
النقابة تُمثّل الآن بجثة مشهد موسيقي هامدة سوف يكون من الصعب جدا امتهان الفن أكثر مما هو عليه الآن، سواء كان الفنان مؤديا على مسرح او مغني مهراجانات أو ديجي في فرح شعبي . المشهد الموسيقي المستقل كان بالفعل مصابا بتصحر ابداعي كافي نتيجة ان ممارسته مقتصرة على فئة واحدة تمارس الفن لهوى شخصي وبقدر من النزاهة. فلا يتكسب من الموسيقى حقيقة سوى نسبة لا تتعدة ال3% من الموسيقيين على افضل تقدير. استبدلوا طاولة المفاوضات بطاولة تشريح. لم يبق لدي الموسيقيين شيء آخر يتفاوضوا عليه. لا توجد رشاوي أكثر مما تم دفعه، ولا عائد مادي أو فني يستحق الدفاع عنه. لذلك، إذا حاولنا الآن أن نطلق حملة لوضع الأمور في نصابها أو هاشتاج نلجأ إليه فسيكون #عيد_وفاة_الموسيقى