.
لا تخفق القلوب من دون مواجع ودندنات، لا يكون الحب حبا بلا اغنية تشبهك وتقول عنك، حتى وان كنت تتخيل أنك قادر على القول (كالشعراء مثلا)، فالحبُّ في الاغنية مثالٌ، اكتمالٌ، سواءٌ في الهجر أو الوصل، بينما يرجِّحُ الحبّ، في الواقع، كفَّة النقصان، لأنه حبٌّ لم يعش، في بوحه العالي، الا في الأغاني. إنه تمرينٌ على الحب في باحة الأغنية. كم مرة قلَّد الحبُّ في الواقع (حبُّ المراهقين والناضجين على السواء) ذلك الحبّ الذي تتفطّر به الأغنية وتتفتق مواجعها؟
كأنَّ الحياة، دائما، تقليدٌ لمثالٍ غائب، أو مثالٍ غير متحقق، أو كأنها ذكرى وترجيع أصداء.
قبل أيام كنت أستمع (للمرة الألف) الى شريط لنجاة، فكرَّ شريط ٌ من الذكريات الى الوراء: “سكة العاشقين” اعادت تذكيري بـ “سحر“، ومريولها المقلَّم بالأخضر وشعرها الطائر في الهواء، ووجهها المذعور من احتمالين متناقضين: أن اقترب منها فيرانا أحد أقاربها، أو أن ابتعد عنها فينقطع ذلك الخيط السريُّ الفاتن الذي يربط بين خطوينا على طول شارع “السعادة” في “الزرقاء” المتوَّجة على عرش الغبار. كما ذكرتني “ع اليادي” بيدٍ غضَّةٍ تلامس وردة جورية في حديقة علي حافة الصحراء، صاحبة اليد الغضة التي تلامس الوردة الجورية داكنة الحمرة كانت تترجم حرفيا أغنية المغنية المصرية التي تتحدث عن الورد الذي طالما جرح أيادي حتى أيادي “الجناينية” وتتطلع الي، تحت شمس شرسة تميل الى الانكسار عصراً، عندما تصل “نجاة” الى القول “لا يا ألبي كلو الا دي ما نستحملش أسيه“! عندما يتذكر الناس وجوهاً أحبوها تقفز الى الذهن أغنية مرتبطة بتلك الوجوه التي غادرتنا أو بقيت، بمعجزة فذة، معنا، فالحبُّ ليس ممكناً من دون الأغاني التي يتمرأى (..أو يتمرغ) فيها، فإن لم تكن الأغنية مرآة لاحوال العاشق فهي مرساله الذي ينوب عنه وشِّعره الذي لم يكتبه وصوته الذي يصدح به المذياع في بيت الحبيبة المسوّر عليه دونه.
كثيرمن الأغنيات عنت لي شيئاً محدداً وارتبطت بوجوه بعينها وأحداث لا يمكن تذكّرها من دون أن يكرَّ شريط الأغنية مرة أخرى كأنَّ زمناً لم يمر، ومياهاً كثيرة لم تجر تحت الجسر.
أم كلثوم، مثلا، لا تذكرني، أنَّى وأين سمعتها، بوجه معين بقدر ما تذكرني بمقاهي “الزرقاء” في العصريات التي تنكسر فيها حدة شمس مصلتة على الرؤوس ويخلي الصهد موقعه الراسخ لنسمات لا أعرف مصدر طراوتها سوى المياه التي كان يدلقها الناس أمام بيوتهم أو محالهم التجارية.
لا أدري لماذا لا أتذكر “الزرقاء” إلا في صيفها الصهدي حيث يتراقص الغبار والسراب في الفراغ الذي يلي “السبعة جسور“، حيث دفنّا “أم يوسف السليم” أول ميت أتذكره من أقاربنا في سفح الجبل الذي يلي “سكة الحديد” وصولا الى معملي الدباغة والورق، آخر نقطة كانت تبلغها أقدامنا الحافية في بحثنا عن أشياء ثمينة (أسلاك نحاس، زجاجات كازوز، خردة يمكن بيعها)، ورغم بردها الذي “يقص المسمار” فأنا لا أتذكر شتاء “الزرقاء“، ولا ثياب الشتاء، حتي إنني أشكُّ بارتدائي معطفاً أو “جرزيات“، فالصور التي أتذكرها لنفسي، خصوصاً في فترة المراهقة، هي لشاب أسمر نحيل ذي شعر طويل وشارب مكسيكي بقمصان مزّمومة، مفتوحة عند صدر تكاد تبرز عظام قفصه الصدري وبطن ضامر وبنطلون “شارلستون” يكنس غبار الظهيرات القائظة!
العصاري إذن كانت لأم كلثوم بامتياز.
صوتها هو الذي يحدد الوقت.
تستطيع أن تعرف أنها الساعة الرابعة لأن صوت أم كلثوم انطلق من الاذاعة الاسرائيلية التي فشلت في اجتذاب المستمعين العرب اليها إلا في هذه الساعة المخصصة لأم كلثوم، وقد دخلت “اذاعة العدو“، كما كنا نسميها آنذاك (يا للغرابة أليس هو كذلك اليوم وغداً؟) في منافسة مع الاذاعات العربية الأكثر شهرة كالقاهرة ودمشق وعمان من خلال أم كلثوم التي كانت تخصص لها الاذاعات الأخرى ساعة غنائية كاملة.
وساعة غنائية لأم كلثوم لم يكن كرماً من تلك الاذاعات، فأم كلثوم هي نفسها التي تحدِّد الوقت وتفرضه على السماع، لأن أيّ أغنية لها كانت تستغرق، ببساطة، ساعة كاملة.
لمراهق مثلي، آنذاك، لم تكن أغاني ام كلثوم تعني الكثير، كان خطابها في العشق يحتاج نضجاً وتأملاً في أحوال لم أبلغها، غناء مسهبٌ ولازماتٌ صوتية متكرّرة ومقدمات موسيقية طويلة ولا صبر لي عليها. “نجاة” و“عبد الحليم “هما بطلا مراهقتي، “شادية” قليلاً، “فايزة أحمد” أقلّ، ولكن يمكن لمحرم فؤاد أن ينافس “عبد الحليم” أحيانا بصوته الذي يتقطر ألماً وسكَّرا: يا غزال اسكندراني يا غزال.. يا غزال الشوق رماني.. ع الحليوة الأسمراني.. وكان يحلو لي، أنا الأسمراني، الظنّ، في تقمّص كامل للحالة، بأنّي المقصود!
أستطيع الآن أن أستعيد عشرات الاغاني لنجاة التي عبرَّت، تقريباً، عن كل اللوعات والمرارات والحلاوات التي يتقلب بينها قلب العاشق الصغير.
ولا أدري هل كان استماعي الى برنامج تبثه أذاعة القاهرة عن المغتربين بعنوان “الطير المسافر” يستمدُّ عنوانه، فضلاً عن مقدمته الموسيقية، من أغنية لنجاة بنفس الاسم، مجرد مصادفة أم تنبؤ مبكِّر بما تخبئه لي الأيام؟
فوقتها لم أكن قد وصلت أبعد من عمان.
لم تكن هناك بلاد بعيدة تلوح لي.
ولا فكرة في ذهني عما سأكون: ربما ضابطاً في الجيش كما هو شأن والدي.
لكن الطير المسافر الذي تنّده عليه أغنية “نجاة” كان يشبهني رغم أنني لم أبرح حارتنا المسكونة بوطأة العيش لا بمواجع القلوب ولا بالسفر الذي يأخذ الناس الى بعيدٍ لا يردَّهم.
سمعت الأغنية نفسها قبل أيام واكتشفت أنني أشبه أولئك الذين كانوا يهدون سلاماتهم وأشواقهم الى ذويهم في الأوطان، وأن ذلك البرنامج الاذاعي وتلك الأغنية كانا يتنبآن بمصيري في بلاد تسقط فيها الأمطار على رؤوس الناس، على أيديهم، على قلوبهم، على جروحهم السرّية كعقاب سماوي.
قرأت أسماء الشعراء والملحنين على الشريط، فاكتشفت أن تلك الأغنية لبليغ حمدي فعرفت لماذا ظلت، تدندن بصوتٍ خفيضٍ في ذاكرتي، كل هذي السنين.. إنَّه أيضا بليغ حمدي!
بليغ حمدي ونجاة، بليغ حمدي وعبد الحليم حافظ، بليغ حمدي وأم كلثوم بليغ حمدي ووردة، تلك هي الأغاني التي لا تزال قادرة حتى الآن على إثارة مواجع قديمة امّحت تقريباً الوجوه التي ســـببتها ولكن بقيت الأغاني.
يا لبليغ حمدي عندما يفتِّت قلبه على النوتة الموسيقية.. إنه شيء لا يحتمل.
سكة العاشقين
I
وراءَ مريولِ “سحر” المقلَّمِ بالأخضر وشَعرِها الأشقرِ المتوهجِ تحتَ شمسٍ
تطبخ الرؤوسَ أمشي بخطى مدروسةٍ بالمنقلِ والفرجار.
المسافةُ بين خطوينا المرتبكينِ أمامَ محالَّ يَغُطُ أصحابُها في قيلولةٍ قاهرةٍ
فيما صبيانُهم يكْرعونَ المرطباتِ خلسةً، ضروريةٌ لدرءِ شهامةِ العابرين.
لفتاتُها للوراءِ المحسوبةِ بالضلعِ والنبضةِ، والأغنيةُ التي تنبعثُ من جانبيّ الطريقِ
تكفيان كي أمشي وراءَ مريولِها الُمقلّمِ وشَعرِها الأشقرِ إلى الأبد.
لفتاتٌ لهفى تخشى افترارَ همّةِ العاشقِ أو عدمَ وصولِ الرسالة:
أنتَ
نعم أنتَ
لا أحد سواك!
وأغنيةٌ مغناةٌ لنا وحدَنا في فراغِ الدنيا العظيمِ تندبُ مصائرَ العشقِ رُغمَ أنّي لم أجرحْ قلباً ولا هجرتُ بلداً، بعدُ، كما هو حالُ حبيبِ المغنيةِ الخؤون.
II
بعد سنينَ لم أعدْ أحصي تَكَسّرَ نصالِها وضعتُ شريطاً في مسجّلِ سيارتي على الطريقِ السريعةِ من غرب لندنَ إلى وسَطِها (لا أدري بأيّ معجزةٍ نجا من تنقّلِ المنازلِ والقلوب) فانسابَ الصوتُ:
“رندا فون” تقدِّم
صوتَ القلوبِ الهامسة
صوتَ السحر: نجاة،
وكرَّ شريطٌ آخرُ مثقلٌ بالخدوشِ إلى الوراء.
……………………
في السنة التاليةِ ارتدتْ “سحر” مريولاً أطولَ.
شَعرُها الأشقرُ خفَّ تَوَهجُهُ تحتَ شمسٍ تواصلُ طبخَ الرؤوسِ،
المسافةُ بين خطوينا تقلّصتْ حتى صرتُ أسمعُ نبضَها المتسارعَ،
لكنَّ النظراتِ أخذتْ تنحرفُ عن الهدفِ قليلاً،
لم تعدْ تؤكدُ بلهفةٍ:
أنتَ
نعم أنتَ
لا أحد سواك!
……………
في الإجازةِ الصيفيةِ علمتُ من كاتمةِ أسرارِها أنها تزوجتْ جندياً قريباً لها ورحلتْ معه إلى الجنوب. غير أن الأغنيةَ التي كانت تنبعثُ من صناديقَ عظميةٍ مُجللةٍ بالأقمشةِ
وتعاويذَ عينِ الحسودِ على طولِ “شارع السعادة” ظلتْ تندبُ مصائرَ العشقِ
والحبيبِ جارحِ القلوبِ الخؤون.
من معسكر الزرقاء
إلى قصر شبيب
وبالعكس،
الأغنيةُ التي تدندنُ لي وحديَ، الآنَ، تهوّنُ عليَّ الطريق:
طويلة
طويلة
يا سكة العاشقين.
لندن صيف 2003