fbpx .
أحمد وهبي و بلاوي هواري في وهران

عن العصري الوهراني وولادات الراي الملتبسة

صلاح باديس ۲۰۱٦/۱۲/۰۹

بينما كان الرّاي يحاول أن يخرج من مجالس الشيخات نحو آلات أكثر عصرية وسوق كبير أسمته الشركات بوب راي، كان هنالك موسيقى وهرانية تقع وهران في الغرب الجزائري، على بُعد أزيد من ٤٠٠ كلم من الجزائر العاصمة. قد تشكّلت منذ الخمسينيات، غرفت من أصول الرّاي الأولى (وغرف هو منها لاحقاً، بل وصهرها فيه مع استعادات الشاب خالد ورشيد طه وآخرون). ملأت هذه الموسيقى الشاشات القليلة وقتها والراديوهات الكثيرة، ودخل نجومها كل البيوت. على رأسهم كان الثنائي الشهير أحمد وهبي وبلاوي الهوّاري.

كان هذا في وهران الستينيات، أي قبل ظهور الشاب خالد وجيله بحوالي عقدين. سميت هذه الموسيقى بـ العصري، وكانت فورة الغليان الموسيقي الوهراني. بين فترة توهّجها قبل عقود، وفترة استعادتها من قبل شباب الرّاي لاحقاً في التسعينيات، تأسست قراءات كثيرة لتاريخ الرّاي تجاهلت أهم الأحداث والأسماء في تاريخه، لذلك سنحاول هنا التعرّض لتاريخ موسيقى العصري بالموازاة مع ولادة الرّاي الأولى، وصولاً إلى شبه انصهارهما مع وصول الرّاي إلى ذروته في منتصف التسعينيات.

ثلاثي العصري الوهراني

وُلد أحمد وهبي في سنة ١٩٢١ في مدينة مارسيليا من أم إيطالية فارقت الحياة وهو رضيع، وأبٍ جزائري مهاجر. يُعتبر وهبي من أشهر الفنانين في الجزائر، وأكثر أبناء جيله حظاً من حيث الانتشار. المقصود بجيله هو اسمين اثنين: بلاوي الهواري، وأحمد صابر، المُسقَط من كل السّيَر (هنالك أيضاً، محمد بن زرقة الذي توفّي في سن مبكرة، جرّاء حادث بالدراجة النارية). هؤلاء الثلاثة كانت لهم مصائر متقاربة، أودت بهم من أزقة وهران ومقاهيها ونشاطهم السياسي إبّان ثورة الجزائر، إلى صفوة شعراء وهران. غنى ثلاثتهم، كل بطريقته، قصيدة بختة بعد لقائهم بالشيخ عبد القادر الخالدي صاحب القصيدة ومؤديها الأول. ثم تفرّقت مصائرهم بعد الاستقلال، مواصلين عملهم في عصرنة الأغنية البدوية بعد أن صار يُطلق على غنائهم اسم العصري.

إن كان أحمد وهبي قد تأثّر بفريد الأطرش ومحمد عبد الوهاب في العديد من ألحانه، فإن بلاوي الهواري عازف القويطرة جيتار صغير وأحمد صابر تأثروا بالألحان الغربية والاسبانية التي كانت تنبض بها وهران، حاضنة الإسبان والأندلسيين منذ قرون. هناك أيضاً الموسيقيون اليهود الذين كانوا سبباً رئيسياً في نهضة الموسيقى الجزائرية عامةً في تلك الفترة، فأغاني الفرانكوآراب والأندلسي كانت رافداً مهماً، من ليلي بونيش وليلي العباسي في العاصمة، الشيخ ريمون في قسطنطينة، إلى عائلة المديوني في وهران وابنها عازف البيانو الشهير موريس المديوني الذي شكّل مع بلاوي، عشيّة الإنزال الأمريكي في وهران سنة ١٩٤٢، ثنائي يعزف ويغني أشهر العناوين الغربية والأمريكية.

الموسيقى الجزائرية (والمغاربية عموماً) انفتحت على المشرق، وانفتح هو عليها في المقاهي المغاربية والكباريهات في فرنسا، من دحمان الحراشي إلى وردة إلى محمد عبد الوهاب إلى الشيخ طاهر الفرقاني، أي أن التأثير المشرقي الواضح على وهبي كان إضافة ضمن إضافات عديدة إلى مختبر الأغنية في الاقليم الوهراني، ولم يكن عامل حسم.

لكن من بين هؤلاء الثلاثة، كانت حياة وهبي التي امتدت على ٧١ سنة. الأكثر ثراءً. ليس فقط على مستوى التجربة الشخصية والفنية والتنقل بين ضفتي المتوسط، فلقد كان كشّافاً ثم دخل الفن وسجّل أغنيته الشهيرة وهران وهران، مؤسساً للعصري الوهراني ومعبراً عن الحنين والغربة لوهران، تماماً كما كان يفعل دحمان الحراشي على مستوى آخر بموسيقى الشعبي مع مدينة الجزائر، محتلاّ كل المقاهي بآلة البانجو ولهجته العاصمية القويّة. وهبي شارك أيضاً في الثورة وكان أحد مؤسسي الفرقة الموسيقية لجبهة التحرير الوطنية، ثم تصدّر المشهد الموسيقي في وهران بعد الاستقلال. سافر إلى فرنسا وعاد منها في نهاية الستينيات ثم ترأس الرابطة الوطنية للفنون الغنائية، ثم ترك وهران إلى المغرب، ليعود منها بعد سنة ويتسلّم الإدارة الموسيقية لمسرح مدينة وهران. في خضم كل هذا كان منزله مقصداً للفنانين الصاعدين، طلباً للحن والكلمة.

أحمد صابر. سيرة موازية.

الحظ لم يسعف أحمد صابر ليعيش طويلاً ١٩٣٧-١٩٧١ مثل أحمد وهبي أو بلاوي الهواري وموريس المديوني. توفي بجرعة مضاعفة من الأمفيتامين معلومة لا نجدها في المواقع الرسمية، هو الذي جاء إلى الأغنية بعدما كان كاتباً عمومياً يقضي نهاراته على أبواب المحكمة في وهران، ثم من المسرح الهزلي والمسلسلات الإذاعية الساخرة، والذي بعد أن جرّب صوته، مثل بلاوي ووهبي، في قصائد الملحون اتجه بعد الاستقلال إلى نوع آخر من الغناء وأنتج أغانٍ خفيفة الإيقاع لكن بنصوص تتراوح بين المونولوج والقصيدة، تنتقد مجتمع ما بعد الاستقلال وهفوات النظام الاشتراكي من بيروقراطية ومحسوبية. ظهر أحمد صابر صاحب الابتسامة الساخرة على غلاف الديسكات مرّة يركب سيارة مكشوفة آخر طراز، ومرّات، كما على غلاف بيّاع البطاطا، كبائع خُضرٍ وسط الزبائن. عندما غنى الخاين، ثم أغنيته الشهيرة الخدمة التي انتقدت المحسوبية في التشغيل مع مريم عابد، استدعته الشرطة وتم سجنه ومصادرة أسطواناته. أفرج عنه بعد ذلك بأمر من الرئيس بن بلّة.

اختار صابر طريقاً آخر غير الظهور على الشاشة وهو يغني للوطن والحب وحنين المهاجرين، وعاش خارج المؤسسات الثقافية الرسمية، فلم يحظى بمسؤوليات في قطاع الثقافة والمسرح مثلما كان الحال مع وهبي، ولم يصِبح مايسترو اوركسترا الإذاعة أو ترأّس وفوداً ثقافية في الخارج كما كان الحال مع بلاوي. لكنّه أيضاً وعلى عكس الصورة الثورية التي تلصقها به الصحافة الجزائرية، كان يحمل في نصوصه ازدراء البدو للمدينة. فرغم أنه ينتقد محسوبية الإدارة وفسادها، إلا أنه يسخر في قصيدته الشهيرة الوقتية من الرجال الذين لا يراقبون نسائهم في خروجهم ودخولهم، بل وغنّى قصيدة كاملة بعنوان اللي طالق مرته. أقول هذا، لأنّه في نفس الوقت وفي نفس الإقليم كانت الشيخة الريميتي ووراءها فيلق كامل من الشيخات والشيوخ يفجرون الإيروتيكا في الكلمة، على وزن القلّال والبندير كانت الريمتي تغنّي منذ سنوات طويلة يشَعّلها كيما يشعّل القارو (السيجارة)”… وهاك السرّة هاك، عمّرها بالريكار هاك“.

تركة آباء الرّاي الأوّلين

أبناء هذا الجيل هم أول من خرج بالراي من تحت الأرض. انشغلوا بمعاركهم الخاصة (بعيداً عن بدلات مطربي العصري والبدلات المقلّمة والبابيونات التي يلبسونها على الشاشة)، حملت اسطوانتهم تصنيف بوب راي، أدخلوا عليه الكمان والترومبيت، ولحقتهم في السبعينات فرق الروك من سيدي بلعباس. عزف الجيتار الكهربائي للطفي عطّار في بداية يا الزينة ديري لاتاي أفضل شاهد على روح تلك الحركة.

لكن دعنا نحكي عن الستينات، عن آباء الرّاي الحديث الأوائل، أسماء مثل بلقاسم بوثلجة، العازف بلمّو والعظيم بوطيبة الصغير الذي بدأ مشواره مع الريميتي. شباب في سن المراهقة عبروا بالرّاي فترة الستينات والسبعينات، قاوموا الرقابة التي فُرِضت طيلة عصر بومدين على هذه الموسيقى، وكانت صرختهم ها راييمن مُدنهم الريفية المحيطة بوهران وداخلها، إعلاناً على ولادة هاته الموسيقى وسبباً في تسميتها على نطاق واسع. على وقع أغانيهم – وبها سيبدأ الشاب خالد مشواره، على تركة هؤلاء الكبار، المنسيين دائماً في الروايات الرسمية (وليس عند مستمعيهم) سيصنع الشاب خالد مجده.

لكن خالد اعترف بهم لاحقاً عكس الكثيرين من أبناء جيله هؤلاء اللذين هرموا ولم يكونوا شباباً يوم رُفع الحظر عن الرّاي مع منتصف الثمانينات، وصار يجب لماكينة الدولة التي تبنّت الرّاي بعد طول مقاطعة أن تعمل وتصنَع نجومها وشبابها. “كان خالد حاضراً لهذا وصغيراً في السنكما يقول بوطيبة الصغير بحسرةٍ في أحد حواراته.

بصوته وجرأته وبجرعة كبيرة من الحظ اكتسح الشاب خالد الجميع، نجوميته من أول نجاح عالمي له ألبوم كوتشي مع الموسيقار صافي بوتلة سنة ١٩٨٩ كانت قائمة على مدرسة بلقاسم بوثلجة وبوطيبة الصغير وغانا المغناوي، الشيوخ الذين لم يلبسوا عمائم ولم يحملوا قصبة، بل كانوا يدخلون السهرات ببدلات لامعة حاملين الترومبيت والأكورديون، ولعنتهم الوحيدة هي أنّهم جاءوا بين أصوات فناني العصري على الراديوهات ووجوه شباب الرّاي على التلفزيونات.

بدأت استعادة خالد للعصري الوهراني بعناوينه الكبيرة مثل بختة ووعلاش تلوموني ووهران وهران (بالتوازي مع العمل الرائع لرشيد طه على العصري في ألبومات مثل ديوان أو أغنية ما أطول ذا الليل كي طوال) في منتصف التسعينات، أي بعد موت أحمد وهبي سنة ١٩٩٣، واستمرت طيلة الألفينات سنة ٢٠٠٣ استدعى الشاب خالد بلاوي الهواري وموريس المديوني إلى باريس لإعادة تسجيل أغنية حمامة التي كتبها بلاوي في الخمسينات حتى وصلت ذروتها عندما نحَتمن قصيدة بيا ذاق المُّر قصيدة الشيخ بنسْمير، لكنه أخذها بنسخة بلاوي أغنيته الشهيرة البابور، وغناها في فيلم أنديجان للمخرج رشيد بوشارب، هذه الأغنية هي أقصى ما وصل إليه خالد في مزجه بين مختلف الطبوع الوهرانية، خاصة عندما تعامل بمنطق الرّاي مع قصيدة من الشعر الملحون وشَذّرها.

بالرغم من فقر المحتوى المعرفي حول موسيقى الرّاي، والموسيقى الوهرانية إجمالاً على الإنترنت، إلاّ أنّه علينا تحرّي الدقّة عند التعرّض لهذا التاريخ الموسيقي، لأنّه غالباً ما يبدو العصري والرّاي التسعيني كقمتي جبلٍ في هذا التاريخ، وتحاول القراءات مدّ جسرٍ بينهما بحُكم الاستعادات التي قام بها رشيد طه والشاب خالد وآخرون، قراءات تغفل أنّ ولادات الرّاي الملتبسة كانت بعيدة عن هاته القمم، بل كانت هناك في الأسفل، في الواد الذي يمر بين الجبال، والذي دائماً ما كان مكاناً للقاء العشّاق في مخيال أغنية الرّاي.


أخذت صورة الغلاف في وهران. على أقصى اليمين يقف بلاوي هواري والثاني من اليسار أحمد وهبي.

المزيـــد علــى معـــازف