.
“أخجل من أنّه ما يزال يتوجّب عليّ أن أكون شاعرًا“
– نيتشه، هكذا تكلّم زرادشت
“لأنّي إذا متّ أخجلُ / من دمعِ أمّي“
– محمود درويش، عاشق من فلسطين
هناك سؤال مثير وشاغل لا يفتأ يطرح نفسه منذ طوفان الأقصى في السابع من تشرين الأوّل / أكتوبر: هل علينا أن نمارس الفن في زمن الإبادة التي يشهدها قطاع غزّة من قبل قوى الاحتلال الصهيونيّ؟ إذا كان علينا أن نمارس هذا الفنّ، فماذا عساه يكون؟ أيّ فنّ هذا الذي يمكنه أن يترجم الألم الذي لا يمكن ترجمته؟ قد يبدو إذًا سؤال الفنّ، في زمن الإبادة، مخجلًا مرّتين: مرّة لأنّه مربوطٌ في سياقنا العربيّ بالأكثر نعومةً وثراءً، وبالتالي بالأكثر تفاهةً، ومرّة أخرى لأنّه ترفٌ في وجه الموت، أو لنقل لأنّه سلاح مَن لا سلاح له، وبالتالي فهو مُخجِل، ويُشعر مَن يمارسه بالخزي؛ سواء أكان كتابةً أو صوتًا أو رسمًا.
لا يمكن معالجة سؤال الفنّ من حيث الجدوى؛ لأنّ الفن لطالما كان يتحرّك خارج المجال النّفعيّ للمعنى، حتى وإن كان مشدودًا ولا بدّ بالإطار الماديّ والفكريّ الذي ينطلقُ منه بالأساس. هكذا، فكما يمكن للفنّ أن يكون عبورًا إلى المقاومة الرّمزيّة بما يحمله من قوّة وشجاعة، فيمكن له أيضًا أن يقف عند عتبة الشاعريّة الباردة بلا أيّ معنى: كأن يحوّل الإبادة الحاصلة في غزّة إلى معاناة مترجَمة في لغة الفنّ، ليجد الفنّان نفسه قد أرضى ضميره الأخلاقيّ وروحه الميتافيزيقيّة بتحويل صور القتلى وأراضي المشافي الغاصّة بالدماء إلى خيال فنيّ مُلهم، دون أيّة قدرة حقيقيّة على تشبيك فنّه بالحدث-الإبادة، ومن ثمّ خلق مقام مناسب من الفنّ يكون بمثابة مقاومة بسبيل أخرى، حتى ولو كانت هذه المقاومة حِدادًا.
تبدو غالبًا الكلمات الرنّانة حول مسؤوليّة الفن أو الموسيقى حيال الأوضاع الكارثيّة التي تحصلُ في مشرقنا العربيّ بالعموم مثل الجعجعة بلا طحين، لأنّ طرح فكرة المسؤوليّة ينطلقُ من مفهوم أخلاقيّ عقيم، غير منجِب لفكرة راديكاليّة يحملها الفنّ في مكنونه، حتى وهو يمارسُ فعلًا رمزيًا بامتياز. إنّ الموسيقى – باعتبارها أكثر الفنون تجريدًا – هي مثلها مثل كلّ ضروب الفنون والترجمة والمعرفة، إنّما هي ملوّثة ولا بدّ بالسّياق، إنّها ابنةُ سياقٍ من جهة، ووالدة لسياق من جهة، لكنّها لا تنفك أبدًا عن سياقيّة تدفعها، ثوريّة أو رجعيّة، كما إنّها بإمكانها أن تكون كلّ شيء، ولا شيء على الإطلاق.
إنّه ما من فنّ هكذا، أو موسيقى، خالين من السياق: بل يُولد الفنّ دائمًا نتيجة تنازعٍ ما مع شيءٍ خارج عليه، شيء هنالك له ماهية ضاغطة بأسئلتها. لا يبحثُ الفنّ عن الجمال، ولا عن القبح، إنّه يسبحُ فيما وراء الجمال والقبح، إنّه بالأحرى فعلٌ يحصلُ في زمان ومكان ومجتمع ولحظة تاريخيّة محدّدة جدًا، وبالتالي لا يمكن فصل الفنّ عن السياق حتى وهو يحاولُ دائمًا أن يخترق هذا السياق ليدمّره عن بكرة أبيه، ليخلق سياقه الخاصّ.
لمّا كان سياقُنا العربيّ الحالي (بل وربّما منذ أن وعينا على فكرة العربيّ الحديث) سياقًا كارثيًّا بامتياز، حيث تقتلُ آلة الموت الإسرائيليّة بكلّ غشم وضراوة الفلسطينيّ، الكائن الأكثر استباحةً اليوم، لايف على أجهزة هواتفنا وشاشاتنا، نرى الدمَ يسيلُ على شاشة الآيفون ونحن نتناول وجبة الغداء، وما إن نصل المساء إلى السرير لنقلّب صفحات الإنستجرام، ندخلُ كَمَن يحضرُ فيلمًا أو لعبة حربيّة مع الكاميرات لايف إلى مشفى الشفاء، والصهاينة قد تحوّلوا إلى كلاب حرفيّة تمرغ أسلحتها وجسدها في دماء الموتى والجرحى والشهداء، أو مَن يجدُ بقيّة حياة في ركن من مترٍ واحد في هذا الركن أو ذاك في المشفى. أقول لمّا كان سياقنا كارثيًا، فإنّ الفنّ يجب ألّا يكون تعبيرًا عن الهول والدمار والكارثة، بل يجب هو أن يكون فنًّا تدميريًّا وكارثيًّا من حيثُ هو فنّ أصلًا: أي ألّا يكتفي بفكرة الانعكاس (reflection)، بل أن يصير كارثيًا، ضاربًا بـ “التعبيريّة” الباردة عرض الحائط.
هناك مقولة للفيلسوف الفرنسيّ المهمّ جيل دولوز في الكتاب المهم ما هي الفلسفة، الذي أعده بالاشتراك مع المحلّل النفسيّ الراديكاليّ فيلكس جوتاري، يقول فيها: “لسنا مسؤولين عن الضحايا، ولكنّنا مسؤولون أمام الضحايا.” أجدُ العبارة عزاءً واسعًا لحداد الفنّ والمعرفة والبشر عمومًا تجاه الكوارث والقتل والتدمير. هكذا، فالفنّ عليه أن يكون مسؤولًا أمام الضحايا أيضًا، بما أنّه فعلٌ إنسانيّ، نابعٌ من كائن اجتماعيّ، هو الإنسان. كيف يمكن للفنّ إذًا أن يكون مسؤولًا عن ضحايا غزّة في هذا الظرف الاستثنائيّ المرعب من القتل المجانيّ أمام العالم أجمع؟ أن يخلقُ مقامًا مناسبًا للحداد. أي أن يكون فنًّا حِداديًّا، لا يكتفي بأن يقف عند حدود التعبير بـ “تضامن” عن الموقف، بل أن يُشبِكَ نفسه في غضون الحرب، مُطلقًا نذيره الأبديّ بعار البشريّة تجاه الدَّم الغزّيّ، وأنّه دمٌ يطاردُ وجوه العالَم الأبيض واللامع وسيلّطخ كلّ الجمال الممكن في هذا العالم، ليكون العالم بمثابة خيمة كبيرة لحداد على أجساد تُنتهَك بآلات الموت الإسرائيليّة العدوانيّة.
إذا تفهّمنا هذه النّظرة الجذريّة للفنّ، ومن ثمّ للفنان، فإنّ شعارات مثل مسؤوليّة الفنّ ودور الفنّ وكلّ الشعارات الرّخيصة ستمسي بلا معنى على الإطلاق. ببساطة لأنّها شعارات ليبراليّة ساذجة جدًا. فما هو أقصى ما تريده؟ ببساطة: أن يستشعر الفنان بآلام الصور التي تصله على هاتفه من أطفال. هراءٌ محض. إنّ الفنّ، والفنان بالتالي، من موقع الجذريّة التي نحياها منذ السابع من أكتوبر عليه أن يتدرّع بالحداد، بإشهار صفير الدّم المستباح موسيقى وكتابةً وبكلّ وسيلة في أُذن العالم الأصمّ، العالم الأخرس، العالم الأعمى عن كلّ ما ليس “أبيضَ”. لا بمعنى أن يغدو وسيلة بين الضحيّة والعالم والمتقدّم، كما يحاول الكثيرون اليوم، بل أن يهدم الوسائل كلّها، لا لإيصال الصوت، بل لطرح الحقيقة الفجّة: الموت، ثمّ الموت، ثمّ الموت.
في سياق الإبادة الحاصلة في غزّة، بوسع الفنّ أن يتخلّى عن نظافته المريحة، وأن تتّسخ قدمه ويدُه بالدّم، ليكون فنًّا فعليًا نابعًا من المذبحة، وكأنّه شهادةٌ أخرى لا تقلّ عن شهادة الجسد على القتل والإبادة العنصريّة الممنهجة من قبل الإسرائيليين تجاه الشعب الفلسطينيّ.
من ثمّ، هل يمكن فعلًا أن تكون هذه الإبادة هي بمثابة نذير للفنّ من حيث أنّ عليه أن ينأى عن سجون الترفيه التي حبسه فيها أرباب المال والسّلطةِ والقوّة، وبمثابة بشرى أيضًا بأن يتموقع من جديد طبقيًا في الجنوب العالميّ المحاصر من قوى الهيمنة، وأن يخلق موقعه المناسب ضمن ساحات العالم القائمة على العدوّ/الصّديق، ليغدو الفنّ هو الآخر ويكأنّه ممارسةٌ للسياسة لكن بوسائل أخرى؟ يمكن أن يغضب الفردانيّون ههنا، الذين لطالما ظنّوا الفنّ تعبيرًا فردانيًُّا عن الذات البشريّة المتوحّدة حول ذاتها. لكن، ولا بأس بالمقاومة النظريّة أيضًا هنا، إنّ الفنّ وهو يمارس الفردانيّة أيضًا يعكسُ سياقًا فكريًّا واجتماعيًّا بالأساس مهيمنًا، ولا ينطلق هكذا من محض خيال الفنّان المبدع. إنّ الفنّ، كالأدب والنّقد والسينما، ملوّث بالواقع رغم أنفه، ورغم محاولات الكثيرين لأن يرتقوا به ميتافيزيقيًا إلى مقام الهوى الفردانيّ الليبراليّ الساذج.
تاريخيًّا، لطالما اختُزل الفنّ في العالم العربيّ بعد تهشُّم المقاومة وبزوغ المعجم الناعم الليبراليّ، واختفاء قاموس العداوة، ولغة الخشونة، إلى أنّه ضربٌ من الترفيه الذي تُعقد له المواسم والاحتفالات. هناك شيءٌ حقيقيٌّ لا بدّ من تلمّسه في هذا التاريخ العربيّ وعلاقته بالفنّ، فالأمر لا يتعلّق بـ سلعنة الفنّ كما يحلو للكثيرين، بل في تفريغ الفنّ من فنيّته، ومن ثمّ ملؤه بكلّ ما ليس فنيًّا وجعله هو نفسه بابًا إلى التسليع والاستهلاك، وكأنّه ساندويتش من ماكدونالدز، ما إن تتجرّعه حتى تتقيّأه في الحمّام. إنّ فنيّة الفنّ دائمًا كانت في هذا الذي “لا يُشترى”، في موقعيّته كممارسة حرّة وحيّة في تمثّلها للمعاناة البشريّة الجماعيّة والفرديّة، وفي فرداته التي تتأتّى من أنّه “يخجلُ” من الموتى، فيهرعُ إلى العزف، الكتابة، القصّة، القصيدة، كتعبير عن خجله من الضحيّة التي هو مسؤول أمامها. إنّ الفنّ يخجلُ، وخجلُه في زمن الإبادة هو حداده؛ أي عودته إلى قوّته، وما يحمله من طاقةِ حياةٍ وموتٍ معًا، في تجاوز لكلّ ثنائيات العالم المريض. يخجلُ الفنّ، كما خجلَ نيتشه، ومحمود درويش، بيد أنّ خجله هو حداده، هو إمكانه للعمل، طاقته الصّافية لأن يتمترس كدبابّة رمزيّة في وجه العدوّ، كحجرٍ يأمل أن يصيب رأس جنديّ إسرائيليّ، لكنّ صدفة الرياح تسقطه بعيدًا.
لعلّ من مفارقات التاريخ، ونحن نتحدّث عن إبادة صهيونيّة إسرائيليّة للشعب الفلسطينيّ في القطاع وغيره، أن نعود تاريخيًا إلى أوشفيتز، معسكرات الاعتقال النازيّة الضارية. العودة هنا لا للمقارنة، بل لفكرة الحداد نفسها، وللكلمة المثيرة التي قالها المنظّر الألمانيّ اليهوديّ الرائد ثيودور أدورنو، حين قال: “إنّ كتابة الشعر بعد أوشفيتز هي بمثابة عمل بربريّ.”
قلبًا للتاريخ، وبعد الإبادة العنصريّة الجماعيّة لغزّة، هل يغدو الفنّ، إذا فكّرنا عربيًّا، ضربًا من ممارسة عملٍ بربريّ؟ لربّما علينا كعربٍ الآن أن نفكّر بعيدًا عن المركزيّة الإمبرياليّة الأوروبيّة والأميركيّة فكريًا، لنقول إنّ الحِداد الذي علينا ممارسته فنيًّا لا يعني انقطاعًا عن ممارسة الفنّ، لأنّه “عمل بربريّ” بتعبير أدورنو، وأن لا نكتفي بالصّمت الفنّيّ. بل يجب أن نحوّل الحداد إلى ضربٍ من فعل المقاومة بالفنّ، وأن يكون الفنّ خلّاقًا في تشكيله لنفسه ولما يطرحه في أبعاده المجرّدة.
إنّ الفنّ الذي يُعدّ بربريًّا اليوم بعد الإبادة الجماعيّة لغزّة هو هذا الفنّ الذي تكلّمت عنه آنفًا؛ أي الفنّ المُفرغ من فنيّته وموقعه في العالم، ويُستخدم كوسيلة للترفيه والاستهلاك. وبالتالي، فإنّ هنالك مهمّة كبرى تجثم على عاتق المتمترسين تحت راية الفنّ، ألا وهي تخليص الفنّ من بربريّة الكثيرين الذين يمارسونه. أوضحت المقاطعة الاقتصاديّة في العالم العربيّ مؤخرًا بعد أحداث الإبادة في غزّة أنّها ليست مجدية فحسب، بل هي فعلٌ في جوهره ينطوي أيضًا على حدادٍ ما، حداد مع عالَم لا يمكن أن يفهم ألم غير الأبيض. إنّ المقاطعة هي بمثابة حداد اقتصاديّ في وجه الرأسماليّة الشّنعاء التي تزوّد الجيش الإسرائيليّ بوجبات الطعام والمشروبات والأغذية، بينما لا يجدُ “الإنسان” (والمزدوجتان مقصودتان) الفلسطينيّ سوى ماء الموت يشربه، غدقًا.
ضدًّا لأدورنو، فإنّ العربيّ عليه أن يمارسَ الفنّ الآن فعليًا، وإنّ البربريين اليوم هم الصهاينة وفنّانو العالم برمته الذين لم يبنسوا ببنتِ شفةٍ حيال الجرائم الإسرائيليّة. البربريّة اليوم صريحة أكثر من ذي قبل: لا يمكن لألمك وموتك أن يُترجَم ما لم تكن مـ”نّا”؛ أي من حظيرة المتحضّرين، والبِيض، وكلّ ما يمكن لأن يُسمَع. إنّ الفلسطينيّ اليوم هو “تابع”، وبالتالي لا يُسمع صوته. لكنّه لا يُسمَع ليس لأنّه يتكلّم بغموض، بل بالتحديد لأنّه يتكلّم لغة لا يعرفها عالم المُهيمنين؛ لغة المقاومة والذهاب إلى حدّ الموت، باسمًا، في سبيل الأرض.
لعلّ الإبادة في غزّة قد أعلنت للقاصي والداني أنّ العولمة التي بشّرت بأنّ العالم كلّه هو قرية صغيرة، وبالتالي الفنّ العولميّ الناشئ عن العالم-القريةِ هذا، قد أفلَت بلا رجعة. عليه، إنّ الفنّ اليوم في زمن الإبادة عليه أن يعود من العالَم-القريّة إلى القرية-العالم، أي أن يتموقع في القريةِ التي هجرها باسم العالَم، وأن يخلق ذاته صوتًا للحياةِ في أتون عالمه الاجتماعيّ الجنوبيّ، متخليًا عن النظافة والنعومة والجمال، وكلّ ما أفرغه من فنيّته، ليعود إلى القرية-العالَم دون أيّ خجلٍ من المكان أو الزمان المترفين برائحة الدم والموتى والضحايا والشهداء.
هكذا، في مقابل الفنّ السعيد، يكون الفنّ في زمن الإبادة فنًّا كارثيًّا، ذا عدميّة نَشطة لا عدميّة كسولة لا تفعل سوى تغذية الذات المتضخمة الأنانيّة. إنّ الصراع على الفنّ وسرقته هو ملمحٌ آخر لما يحمله الفنّ من قوّة؛ قوّة قد تبدو خجولة أمام الشهداء والموتى والمستشفيات التي تُقصف، لكنّها قوّة أخرى تقاوم البربريّة والمال وآلات الموت والإبادة الممنهجة. ليس على الفنّ أن يقف مع الضحايا، بل أن يتّسخَ بهم ضدّ عالم النظافة القاتلة. بالتالي، البربريّة الحقيقيّة اليوم هي أن يُمارَس الفنّ بلغة عالم المهيمِن، وهو ما يتوجّب على الفنّ الحقيقيّ الجذريّ أن يواجهه في مهمّته المضاعفة حقيقةً في زمن الإبادة هذا.