.
هذا المقال جزء من ملف مشترك في الذكرى الخمسين لهزيمة حزيران ١٩٦٧، تعده ثماني مؤسسات إعلامية عربية مستقلة هي: اتجاه، دون تردد، الجمهورية، حبر، صوت، مدى مصر، معازف، ومنشور.
يحيي ذكرُ النكسة، أو هزيمة الجيوش العربية سنة ١٩٦٧ مخيالاً مركّبا وإشكالياً في آن، لناحية طبيعة الرؤية إلى كلّ منتجات تلك المرحلة والتعاطي مع ترسّباتها سياسياً واجتماعياً وثقافياً وفنياً. ترسبات من شأنها إنتاج وعي مبني على أسئلة تلك المرحلة وأجوبتها. وإذ نخوض في تلك الحقبة فنيّاً فقد لا يسع الواحد إلا استحضار أعمالٍ بارزة من تلك الحقبة من غير الممكن إغفالها. إنّها اعمال ساهمت في بلورة ذائقة فنية عامة فضلا عن كونها قد أنتجت تأثيراتها الواضحة فيما يتصل بأمزجة الراي والتفكير من خلال ثيماتها المغنّاة، عند جيل بأسره. بهذا، لم تزل الرؤية بحياد إلى منتَج تلك المرحلة عند جيل سابق من أشقّ الأمور، بمعنى كونها حساسية فنية فردية وجمعية ضامرة ودائمة. فاقم تلك الإشكالية العجز عن فصل ذاك المزاج الفني والثقافي عن مجمل مآلات الحقبة السياسية والثقافية، لناحية تحميل ذلك المزاج بطوباويته ومثاليته شطراً من مسؤولية الهزيمة.
بطبيعة الحال، لا نبتغي في هذا النص تكرار ما خيض من كلام في موقعية فيروز والأخوين في مزاج تلك الحقبة، فما يشغلنا هو التفصيل نقديّاً في الدلالات المرحليّة لتلك الغنائيات الفائقة الجودة، فضلاً عن محاولة الرؤية إليها من منظور متلقٍّ يعيش في العمق كلّ تفسّخات الحاضر التي تعاكس بالضرورة وعود وجماليّات تلك الايقاعات والأمزجة المؤسسة لحقبة الخمسينات والستينات.
يمكن القول إن اسم فيروز (نهاد حداد ١٩٣٥) هو اسم حاسم في مزاج تلك الحقبة الغنائيّ، حقبة ما قبل النكسة وما بعدها من خلال مجموعة قصائد مغناة هي ألبوم القدس في البال الذي صدر مجموعاً للمرة الأولى سنة ١٩٧١.
تقيمُ تلك الايقاعاتُ الفائقة في زهرة المدائن والقدس العتيقة وسنرجع يوما وسيف فليشهر القدسَ وفلسطين عموماً في قلب الوعد باستعادة الأرض السليبة.إنه الوعد الغنائيّ الذي كان مفترضاً به أن يطابق واقع التحرير والعودة بقوة السلاح وبالمعركة. وهو وعد بالغناء يقترب من قدرته على توصيل فلسطين\القضيّة بالصوت على أنها البقعة السماوية الطهرانية التي لا سبيل لها عاجلا أم آجلا إلا الانعتاق من قيد المحتل. إنه في العمق انعتاق بالكلام المغنّى الذي يقيمُ صاحبته في دائرة من التقديس تبعاً للخامةِ الصوتية، منبعِ هذه العذوبة. نتحدّث عن هالة ساهم الصوت في تغذيتها حول شخص ومكانة هذا الكائن المنحاز بالغناء\الموقف إلى الحقّ المصبوب في الأغنية. إنها الأغنيات التي لا جدال في مساهمتها العميقة، وقتذاك، في تزخيم الوعي بقرب استعادة الأرض والتي لا جدال في كونها قد تخللت مفهوم النكبة والحق السليب عبر القدس في البال. ومن خلال هذا الصوت تقوم قصة فلسطين في جماليَّة تطمر في مستوى من المستويات بؤس الوقائع ومرارتها التي أصابت شطراً من فلسطين: مريت بالشوارع\ شوارع القدس العتيقة\ قدام الدكاكين\ لبقيت من فلسطين\ حكينا سوا الخبرية\ عطيوني مزهرية\ قلتلن هيدي هدية للناس الناطرين\. كتبت الكلمات بعد زياة فيروز والرحابنة للقدس سنة ١٩٦٤
إذاً، ثمة خبريةٌ وانتظار. انتظار سوف يغشاه الصوت بعذوبتة ويليّنُه، صوتٌ سوف يبقى معجوناً بتلك النبرة وتلك الكلمات، بعيون النازحين من أهل فلسطين والعرب عموماً. يمكن القولُ إن هذا الصوت قد يرقى إلى كونه قد شكّل في حقبةٍ مستوى من مستويات الخطاب العام على نحو ضمني وتلقائيّ وعفويّ. فبما لا تباشره السلطة قصداً وواقعاً من أفعال تُنجز وعود القضية، يصبح من شأن هذا الإيقاع الكلاميّ المتعالي أن يمارس وظيفة القول الذي يسكّن بعقمه الدافئ وحدّته العذبة كلّ تساؤل أو تشكيك بحتمية الخلاص: “سيفٌ فليشهر\ في الدنيا وتسطع أعلام تسطع\ الآن الآن وليس غدا أجراس العودة فلتقرع\ أنا لا أنساك فلسطين\ ويشد يشد بي الوعد”.
لا جدال، غالبا في الحضور الحيويّ لذلك المنتج الغنائيّ وفي تأثيره الراسخ بالذائقة الفنية العامة. تأثير بما لخامة الصوت الفيروزي من جاذبيّة استثنائية وصفاء وما له من قابليّة قصوى لأن يكون مستثمرَا في المساحة الفكرية النخبوية عموما وفي الثقافة خصوصاً، ومن ضمن مناخات كان يخيّل للمتلقّي أنها متعالية وطهرانيّة وعصيّة على النقد. إنه الحضور الحيويّ الذي استولد مع الوقت ومع تفسّخ آمال تلك الحقبة ووعودها أسئلة جمّة عبر اشتباكه أو تماسه مع أذواق جديدة. أذواق تنحو في الغالب إلى مساءلة الذائقة الفنيّة العامة وتنحو إلى إعادة التفكير في مجالات الخامة الصوتية نفسها وفي عزلة حاملتها، لا بهدف إبخاسها بل في سبيل نقد أطروحة هذا الصوت الفائق بمجالات تأثيره وتالياً نقد الحقبة برمّتها، أو ربّما في سبيل استدخال اغاني تلك الحقبة ومعجمها في مزجيات أسلوبيّة موسيقيّة تجربيّة، شأن استدخال كل قديم.
إذن، فقد أضحى ذلك الحضور الحيويّ شائكا لناحية كونه يحيل مرارا وتكرارا ومن ضمن السياقات الفنية الشائكة والمتحولّة إلى سؤال بديهيّ فيما يتصل بكيفيات استقبال منتج تلك الحقبة راهنا من قبل متلقّ لم يعد مطمئنّا بالضرورة لأطروحة ذلك الصوت الخلاصية المتعالية ولأطروحة الحقبة برمّتها.
لا يغير ذلك التساؤل البتة في جودة منتَج فنيّ كـ القدس في البال، بل يستولد جدالات سوف تظل تستدخل الهالة الفيروزية بشخصها أو بفكرتها في مجمل السياقات السوسيو-ثقافية الجدلية فضلاً عن منتجها الضخم في المسرح الغنائي وآرائها النادرة في الحيز السياسيّ. فالمنتَج الغنائي عند فيروز، برمزيته العالية، وبسلطة الخامة الصوتية يظل أرضية خصبة لاستثمار معناه في الزمن الراهن، لأنّها الأغاني التي تظلّ تردف بالغناء تيارات أو تفريعات ثقافوية (من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار) بالانتماء إلى ذوق وخيار محددين ويستبطن في العمق انحيازات واضحة تضعه بالضرورة في قلب ذاك التساؤل.
في كلّ الأحوال، يبقى ألبوم القدس في البال حاضراً وبالغ الشياع، محيلاً إلى واقع بسيط ومعقّد في آن، وهو واقع الحق الفلسطيني المهدور. نتحدّث عن صفاء صوتي مطمور تحت يقين ذلك الحق الذي طال زمانه والذي يتجلّى في كلّ مفصل حيويّ في سياق المعركة مع الاحتلال. إنها الأغنياتُ التي، وإن أحالت إلى حقبة الانكسار الكبير والهزيمة، فإنها تحتمل، بجدّتها وجودتها، وبرغم حدة الجدل المتصل بالحقبة ذات الصلة، قدراً وازناً من الحميمية من غير الممكن إغفالُ تأثيراته عند جيل سابق عايش الحقبة أو لاحق تغريه الحقبة بإشكالياتها وتفاوتاتها وشخوصها البارزين.
في المقابل، يصير الحديث عن طبيعة نوستالجيا هذه الأغاني من ضمن الميراث الرحباني الأوسع إشكالياً. بمعنى عدم قدرتها بحال من الأحوال، وبرغم جودتها الحاسمة على البقاء في عليائها المثالية الحصينة وفي قلب دلالاتها وتأثيراتها المباشرة في حقبة النكسة سابقا. نتحدث عن معنى ينزلق بالضرورة شيئا فشيئا بحدود معيّنة إلى مربّع نوستالجيّ يحيل في الوقت عينه إلى مكونات أساسية من المخيال الجمعي عند جيل راهن مهجوس في غالبيته بأسئلة الهوية المتفسّخة التي لم تعد أسئلةً قابلة للحسم و للإحالة اليسيرة إلى أمزجة مثالية، ولا تستحضر حالاً وبالضرورة سيفاً عربيّاً واحداً ليشهر مصوباً نحو العدوّ الرابض على فلسطين من بحرها إلى نهرها.
يبقى أن نشير إلى أنه قد قيل الكثير في تمرحل تجربة فيروز فنياً بين الأخوين وزياد الابن وما بينهما. وهو تمرحل قابل بالضرورة أن يفكَّك وأن يحيل إلى فهم التمايزات التي طرأت على التجربة الثريّة لناحية استثمار الخامة الصوتية او لناحية التحولات في الإيقاع اللحني وفي أنماط المتون المغناة. هذه كلها تحيل بالضرورة في شطر منها إلى ما يفترض أن يدل عليه الوارد أعلاه في هذا النص. ونعني الدلالات الحيّة والحادة للانزياحات في النبر والمعجم بين مرحلة ألبوم القدس في البال وما تلا ذلك في المراحل اللاحقة. هي ليست، بحال من الأحوال، انزياحات عفويّة أو مزاجية إنما تؤشر في العمق إلى تحولات قد أنتجتها البنى السوسيو-ثقافية اللبنانية والعربية وقد أتبعها لزوم أخذ الخامة الصوتية المتفرّدة في تأويليّة أمكن وصفُها مع الابن بالواقعية. الواقعية التي ندر، في مرحلتها، أن احتفت بالقضيّة غناءً أو تمجيدا على نحو ثيمات ومزاجات البوم القدس في البال، والتي صارت تعكس في الغالب ذلك الالتباس الشعوريّ الذاتيّ في منحاه العاطفي المنكسر والخاسر … ايه فيه امل.