.
حوار مع دين وايتسايد عن علم الموسيقى الماركسي
درس دين وايتسايد في جامعة الموسيقى والفنون الأدائيّة في فيينا، ولديه اهتمام عميق بإعادة دمج النظرية الموسيقيّة والماديّة.
بعيداً عن النقد السياسي المباشر والهدّام للموسيقى الشعبيّة، وعن طروحات اليسار التقليديّة تجاه النظريّة الموسيقيّة (أو غيابها)، يقترح دين وايتسايد طريقة أخرى لفهم تنظير ثيودور أدورنو في علم الموسيقى. مبدياً رأيه في ما يمكن أن تقدمه صيغة جديدة للنقد الموسيقي الماركسي.
سي. ديريك فارن: غالباً ما وضعت المناظرات حول الجماليّات والماركسية داخل إطار الفنون البصريّة والموسيقى. ربما كان هذا إرث أدورنو. هل ترى أدورنو كنقطة مدخليّة أساسيّة لعلم الموسيقى الماركسيّة؟
دين وايتسايد: لا يكفي القول أن أدورنو كان متحيّزاً للموسيقى. عند أدورنو، يقطع الاعتماد المتبادل ما بين التفكير الموسيقي والنقدي باتجاهين. لهذا السبب، تعمل العديد من أفكار أدورنو العميقة في العلاقة ما بين الموسيقى والتفكير المفاهيمي. يدّعي أدورنو أن الموسيقى الألمانية والفلسفة شكّلت نظاماً واحداً منذ زمن ]إيمانويل] كانت وبيتهوفن. لدى أدورنو نظرة نقديّة لهذه العلاقة. منهجيّته التاريخيّة عميقة، وتمتلك حساسيّة تجاه الوسائل التي تجسّد بها الموسيقى تناقضات المجتمع الرأسمالي البرجوازي، خصوصاً تصدّعاته ونقاط تلاشي هويّته. إذا وقفنا هنا، يتهيّأ لنا أن أدورنو يطرح فقط طريقة أخرى للتفكير بالعلاقة ما بين الموسيقى والمجتمع. لكن استفساره أعمق: يريد أن يستجوب محتوى الحقيقة الاجتماعيّة للموسيقى ذاتها. لا تكذب الموسيقى خارج رأس المال، ولا توفّر أيضاً ملاذاً آمناً من المنطق الجوهري، لكن لا يمكن أيضاً اختصارها بهم: هي طريقة تفكير بما هو متناقض وغير موضّح ضمن العالم. من خلال الموسيقى نكتشف احتمالية التفكير بالفكر بقدر ما يجد الفكر ذاته متغيّراً، ومحافظ عليه بنفس الوقت داخل الشكل الموسيقي (Sublated) (1)، غالباً من خلال المفاهيم والإشارات التي تمتلك السلطة الأكبر علينا، خصوصاً الأساسيّة منها مثل التكرار والهويّة–الذاتيّة. يُنقذ الفكر من قَدَر أن يحطّم وجهه أمام مرآة بشكل متكرر، وخلاصه يكمن في الكسور الدامية على الأرض– الموسيقى، إذا ما أردت ذلك (Neue Musik) بالتأكيد (2).
يواجه التفكير المفاهيمي إذاً عناء فهم صورته المحطمة. القلق الذي تثيره بنا موسيقى القرن العشرين الكلاسيكية هو عدم استطاعتنا التعرف على أنفسنا في الشظايا. على “عودة الفكر إلى ذاته” أن يتغلّب على لحظة سوء– التعرّف هذه. العديد من المستمعين لا يتجاوزون جملة “اللعنة، هذا ليس لي” المبدئيّة. ردّة فعلهم هذه خاطئة لكنها مفهومة. بمواجهة ذلك، يريدنا أدورنو أن نُمشكل لحظة التعرّف الخاطئ التي يختبرها المستمعون البرجوازيون أثناء استماعهم لموزارت وبيتهوفن. يصر أدورنو على أن موسيقى بيتهوفن هي فلسفة هيغيليّة بوعاء أصدق مما يمكن أن تطمح إليه أن تكون فلسفة هيغل ذاتها. هذا ليس تماثلاً؛ إذ يؤكّد أنه على الرغم من أننا لم يعد باستطاعتنا كتابة موسيقى مثل بيتهوفن، يجدر علينا الاستمرار بالتفكير والعمل مثل موسيقى بيتهوفن. ذلك يساوي مثاليّة التطبيق التي أظن أن أدورنو وحده يستطيع أحيانا أن يرقى إلى الالتزام بها. لكن يكمن قصوره بالعادة على جانب النظريّة الموسيقيّة، وتحديداً الفهم المبسّط للانسجام والمقاميّة الموسيقيّة (3). لذا، جواباً على سؤالك: نعم ولا.
فارن: تم التركيز بشكل غير اعتيادي على نقد أدورنو لموسيقى الجاز، وتحديداً شجب نقده لمركزيّته الأوروبيّة، أو لتقشفه. لكن ما هي القضايا الرئيسيّة التي تظن أنّها كانت موجودة في نقده للموسيقى الشعبيّة؟ وهل تظن أنّها ذات صلة الآن؟
دين: أظن أن حجة أدورنو أُخرجت من سياقها واستخدمت لأغراض آيديولوجيّة. هذا النص يُهاجَم عادةً كمثال على النخبويّة الثقافيّة والمركزيّة الأوروبيّة، وحتى التفوّق العرقي الأبيض. حتى لو لم يكن أدورنو يمتلك المعرفة الكافية بموضوع نقده– لم يكن واضحاً ما نوعية “الجاز” والموسيقى الشعبيّة” التي تعرّض لها– ليست مهمتنا أن نكرّر أذواقه، أو أن ندافع عن جهله، بل أن نفهم منطق نقده. لا يجب أن نأخذ تمزّق مجتمع يعيش فيه بوليز (4) وبريتني سبيرز جنباً إلى جنب أمراً مسلّماً به؛ فكلاهما مُنتجان في مرحلة الرأسماليّة المتأخرة. بل كون بوليز غير مفهوم لمعظم الناس، بيما بريتني سبيرز سهلة للكثيرين هو شرط اللحظة التاريخيّة التي نعيشها.
يجب علينا أن نتنكّر للخيار الخاطئ ما بين النخبويّ والحداثيّ من أعلى لأسفل، وما بين الشعبويّ والفن الشعبيّ من أسفل لأعلى. طبقاً لهذا المنطق، أنت إما نخبويّ أو رجل الشعب. لا ينبغي أن يكون تحرّكنا النقديّ الأول في الاختيار ما بين جهة أو أخرى من دون تأمّل، بل الرجوع خطوة وتقييم الظروف السياسيّة والتاريخيّة– الاجتماعيّة التي أنتجت هذا الخيار الخاطئ: تعايشهما يعكس حالتنا التاريخيّة المتعاديّة. إدعاء أن كل “الفن الراقي” متفوّق بذاته هو انعكاس للنخبوية. هناك مؤلفات ذات 12 نغمة (5) سيئة مثلما هناك أغاني “بوب” عميقة. من الواضح أن أدورنو حدّد بحثه بأعمال فنيّة مقاومة أو معقّدة الشكل، ولا يجدر علينا اتباع ذلك. خطورة صناعة الثقافة أنّها تعيد إنتاج الآيديولوجيا الحاكمة وتغلق منتجاتها بوجه الارتباط النقدي. يرى المرء هذا في احتراز عدم التفكير ضمنيّاً في ادّعاء “أنّها مجرد أغنية“.
من المحتمل أن أدورنو استخفّ بمدى احتماليّة أن تصبح إعادة تدوير احتياجاتنا ورغباتنا، من قبل وسائل الإعلام الجماهيريّة خدمة لرأس المال، طريقاً رئيسيّاً للتحكم بحياتنا المغرّبة. جميعنا نشتهي موضعاً لائقاً في الثقافة الشعبيّة، سواءً كانت هوليوود أو إم تي في، ولا يجدر علينا (دائماً) أن نشعر بالذنب تجاه ذلك. ليس الأمر أن جميع مستهلكي الإعلام الشعبيّ هم (روبوتات) من دون عقل، وصحيح أيضاً أن باستطاعة فرق الموسيقى الشعبيّة التجاريّة إنتاج أمور مثيرة للاهتمام. لذا، على الرغم من أن أدورنو بالغ من جانب الإنتاج وتجاهل خصوصية الأمور الفنيّة الفرديّة، خصوصاً الشعبيّة منها، لا يجب علينا أن نلقي الطفل مع ماء استحمامه. تَرَكَنا أدورنو بأدوات مفيدة لنتمكن من صياغة نقد مادي للموسيقى.
فارن: ما الذي تراه كأسس محددة لهذا النقد المادي للموسيقى؟
دين: لا أعتقد بإمكانية تحديد الشروط. سيساوي هذا مجموعة من البديهيّات والوصفات المحددة عن كيفيّة نقد الموسيقى، وهو ما أرغب بتجنّبه. نحتاج إلى ما هو أكثر من سجل تأريخي بالكاد يروي بموضوعيّة مزعومة السياقات التاريخيّة أو السياسيّة–الاجتماعيّة لإنتاج عمل وتلقيه. تحدّد بعض علوم الموسيقى علاقات الأبويّة والآيديولوجيا، أو الحيويّة ضمن الموسيقى نفسها. علينا أن نشعر بالامتنان لأن هذه الطرق نقدت وقلّلت من سلطة مفهوم العمل، وسلّطت الضوء على اعتماد الموسيقى على التاريخ والثقافة، وجعلتنا ندرك بأن المعنى الموسيقي تَشَكّلَ ذاتيّاً، وليس فقط ضمن النصوص الموسيقية ذاتها. علينا أن نرفض النقض الخام لهذه الأساليب لامتلاكها “أجندة سياسيّة“، أو علينا الرجوع إلى نقد جوهري أو غير تاريخي للموسيقى.
بعد قول هذا، أظن ان الأسلوب التأريخي ليس سياسيّاً بما فيه الكفاية، وليس دقيقاً تاريخياً أيضاً. في العديد من الأحيان يفترض أن موقفنا التاريخي متميّز وخارج التاريخ. في بعض الأحيان يتخلى عن التحليل الشكلي أو البنائي للنصوص الموسيقيّة تماماً، بادعاء أن الإشارة إلى النص المستقل بذاته هو شكلي وغير معني بالتاريخ والثقافة. هذا خطأ. تتحدّث النصوص بشكل مشترك من خلال لغة دائماً ما نُفِيَت نواياها من قبل الثقافة التي جعلتها مشردة. بقدر ما تعمل الموسيقى على جعل نواياها غير الهادفة مقنعة، تصبح مبهمة في لحظة وضوحها المسببة للعمى (اسأل مُحبة للموسيقى أن تحدد شعورها عند نهاية السمفونية التاسعة لماهلر، أو (Götterdämmerung (6: ستصبح عقدة لسانها المتلعثمة غير القابلة للتحديد دليلاً، بدلاً من حجّة، ليقين وصدق ردها العاطفي). لذا، النقد كمجرد طريقة لتفسير أعمال اجتماعيّة أو لرسم ارتباطات تاريخيّة ليس غير كافٍ فقط، بل عنيف أيضاً: يستخدم إيجابيّة التأريخية لإعادة الموسيقى إلى عالم لم تنتمي إليه أبداً. إنه يصالح الموسيقى مع مكانها التاريخي. الموسيقى كعارض لرأس المال البرجوازي هو تاريخي بالضبط في عدم انتمائه للتاريخ. بالعادة، ترث مستقبل ماض غير مشبع (برامز أو ماهلر)، وفي أحيان أخرى، تتطلّع إلى مستقبل سيدفن ماضيه ويُنتهى منه بيرليوز (7) أو ستوكهاوزن (8). فقط في حالات نادرة، كما يقول ماكس ريجر، تكون مهتمّة بالحاضر.
يبدو أنني قدمت أساليباً لعدم النقد فقط. لذا ها هي طريقة أخرى: النقد الذي يشير شكليّاً إلى علاقة تاريخية ما بين النظرية والتطبيق من دون توفير أي مادة إلى ذلك الجدل (كما يبدو أنني أفعل الآن). لذا ليس لدي أي صيغ سهلة. أظن أن على النقاد (والمؤدين) البدء بالموسيقى التي تؤثّر بهم، ومحاولة توضيح ردّة فعلهم الشخصية. نقد الموسيقى يعني أولاً الاهتمام بها: دون ذلك، يكتفي المرء بتقيّؤ خطاب أكاديميّ. هناك حقيقة في الموسيقى، والفهم الشكلي لسطح الموسيقى، لنواياها المحبَطة، هو في العادة أفضل طريقة لفهم حقيقة العالم التي فشلت في إدراكها.
فارن: هل أنت معنيّ بمشاعر اليسار المعادية للجماليّات (كما في ضد–نيتشه لمالكولم بول)؟ هل تظن أن تجذير الفن دفعنا بعيداً في تجذير الجماليّات؟
دين: ما يهمني هو ميل يسار اليوم إلى استخدام فرجة الجماليّات كبديل عن العمل السياسي. هذه المبالغة في تقدير وظيفة الفن هي عارض لسياسة فاشلة أو غير موجودة. حركة احتلال وول ستريت، على سبيل المثال، استخدمت الفن لتقديم رسالتها السياسيّة الواضحة في الواجهة، بالعادة من خلال شعارات جذّابة على اللافتات وعروض الفيديو. أولاً، السياسة المتبنّاة في عروض المقاومة الثقافية هذه عادةً ما تكون فاترة وبسيطة. تطلب من الناس في كثير من الأحيان أن يستيقظوا ويغيّروا من موقفهم الذاتي تجاه النظام، أو الإنسان، كما لو أن المسألة السياسيّة التي على المحك هي مسألة “موقف“. ثانياً، محاولة الفن الأدائيّ في مزج الفن والسياسة هي في ذاتها محاولة خاطئة ودالة على فقداننا للسياسة الحقيقيّة. اليوم، في الساعة الثاثة والنصف، نستمتع بالأعراض التي نعانيها لمدة ساعتين، نشارك في مجتمع تضامن استمنائيّ، ثم نعود إلى المنزل. من أعراض ظرفنا التاريخي أن السياسة أصبحت فرجة سريعة للغاية في غياب التنظيم السياسي الحقيقي. “الفرجة“، في محاولتها أن تكون إعادة تمثيل للسياسة، في الواقع تخدم كمحطتها الأخيرة، آخذة لحظة سياسية فشلت في تحقيق ذاتها في العالم ثم إعادة تدوينها داخل عالم مغلق على ذاته بحدود موصوفة بدقة، بداية ونهاية. يتهجّر فشلنا السياسي إلى (فرجة/ استعراض) عندما لا يمكن ضغط ادّعاءاته داخل العالم. الفرجة هي حيث تذهب السياسة لتموت، لكن يحتفى بها من خلال هذه المسابقات كشئ حيوي ومنتعش.
علينا أن نلاحظ أنه دائماً ما يكون شكل هذا الفن ممتعاً ومفهوماً. شكله، على هذا النحو، عرضي، والمحتوى الذي يمثله مستقل عنه– مستقل عن التمثيل، أي أن نقول أنه شكل غير فني على الإطلاق. ما البديل؟ لا أقوم بالمرافعة عن الفن المستقل بذاته، أو الشكلي، بحد ذاته، أيضاً: يبدو هذا موضع جدال، ولو أن ذلك ربما كان بطرق يمكن تعويضها.
فارن: هل أثّر غاي ديبور (9) على توجهّك في علم الموسيقى؟
دين: ليس بشكل محدد، لا.
فارن: ما هي السياسة التي يمكن استخراجها من الموسيقى الشعبيّة في هذه اللحظة؟
دين: أنا مهتم بصيغة هذا السؤال. تقترح الصيغة أن مهمة الناقد هي النظر إلى العمل الموسيقي، وإثارة محتواه الاجتماعي الكامن، وتغيير هذا المحتوى إلى مجموعة وصفات سياسية. من يقوم بهذه المهمة، ولمن؟ أحياناً، المهمة سهلة وسريعة عندما تملك القطعة محتوىً تافه واضح ورجعيّ سياسيّاً. إيجاد هذا المحتوى السياسي يخدم كطريقة لتجنب التفكير بها بشكل أطول: نطلق عليها وصف “كيتش” و“ارتدادي” وحتى “مقرف“، ويمكن أن يحمل أيضاً حكماً سياسيّاً، ويعفى من أن يتفاعل معه مجدداً. هذه المفاهيم تخدم كما جملة “شخص متشرد” – يطلبون منّا إهمال الأمر الذي يخضع للتساؤل متى حدّدناه على أنه كذلك. من العدل القول أنه أحياناً يستدعي ذلك، مثل قطعة تسمى“Pussy Be Yankin”. السياسات التي يمكن استخراجها هي واضحة منذ البداية من العنوان.
العملية ذاتها أكثر صعوبة مع القطع الموسيقيّة العميقة، التي لا أظن أنه يجب تصنيفها إلى “بوب” و“كلاسيكيّة“. تنادي الموسيقى الطوباويّة بسياسة مساواة واضحة، وهي خاطئة بالضبط لوضوحها ويقينها. يكتب أدورنو أن “التعبير الأصيل ربما يوجد فقط كتعبير النفي، للمعاناة“. يتخلص الفن من الكينونة الموضوعيّة والإيجابيّة، ويأخذ ملجأه بالشكل الغامض. ولهذا السبب تكون أكثر استحقاقاته قوة صمّاء وخفيّة بدلاً من أن تكون سياسيّة وتعليميّة. الفن قابل، بشكل لافت للنظر، للنجاة داخل حدود حالتنا التاريخيّة – لا يجدر علينا أن نقلل من قيمة ذلك– ويستمر في امتلاك سلطة واهنة علينا. “ويبيرن“، وهو ليس مؤلف “بوب” بأي مقاييس، لا يقدّم سياسة. الموسيقى تجسّد الاستحواذ والتكامل كما التأمل والعمق. خطاب ويبرن الصامت الوحيد، والمراوغ والمغرّب عن التمثيل المعنوي، يثابر بشكل طيفي. يمثل هذا انعكاساً لحالتنا السياسيّة، لكنه دليل على غياب السياسة الحقيقيّة لا حضورها. على الفن، الذي يؤكّد السياسة والأخلاق العالميّة (10)- بالعادة أحدهما ينطوي على الآخر– أن يدقّ ناقوس الخطر.
دائماً ما يأتي التفكير بالفن بعد الواقع، بعد أن قام الفن بتمثيل العالم مسبقاً. على النقد أن يستوعب أولاً تمثيلات الفن ذاتها، بدل أن يقوم بفرض تمثيلاته الخاصة. الفن والفلسفة كلاهما نوع من التفكير، أي القول بأنهم أشكال من التمثيل، لكنها منفصلان، وإن كانا لا يقبلان المساومة. أفضل نقد عن الموسيقى هو النقد الموسيقي، كما أن أفضل الموسيقى هي المفاهيميّة بصرامة.
فارن: ما رأيك بالعديد من الماركسيين غير المتأثرين بمدرسة فرانكفورت (11) الذين سيقولون أن هذا يعني إدخال المثاليّة من باب جماليّ خلفي؟
دين: جيّد، سأشير إلى الجدال ما بين أدورنو ولوكاش كطريقة لمعالجة هذه المسألة. كان لوكاش معارضاً للأدب الطليعي بقدر تمثيله للتشقّقات والتمزّقات التي تعرِّف وعي المواضيع البرجوازيّة. شعر لوكاش أن هذه الصورة المشوّهة للتجربة الفردية كانت مخلوطة بالواقع ذاته، وبالتالي تعادل المثاليّة. هذا الجدال مجذّر في قراءة لوكاش الهيغيليّة لماركس. إذ يجادل أن ماركس وضع الفلسفة الهيغيليّة في التطبيق عن طريق بيان كيفيّة أن العلاقة بين الكوني والمحدد تجد تعبيرها في شكل السلعة التي تدّعي أنها تمثّل الشكل الأكثر تطرفاً للتجريد ضمن الإنتاج الرأسمالي. بعكس الإقتصاديّين الفجين الذين يبقون منغلقين في عالمهم المجرّد (الفتيشي)، وهو نقد ماركسي – وهنا يأتي الفن كذلك – ينظر إلى عملية إعادة الإنتاج الاجتماعي الكاملة. لذا على الفن، بالنسبة للوكاش، أن يحفر بعمق، ويعبّر عن المحتوى الاجتماعي للعالم كما هو. من غير الكافي أن نصف شبكة العلاقات المجردة التي تمثّل سطح المجتمع. مجرد وصف حالة البرجوازيين (تدفّق الوعي، على سبيل المثال)، يعادل وجهة نظر فوضويّة ومتشظيّة. بذلك: غير ديلاكتيكية عن الواقع الاجتماعيّ.
بالنسبة لأدورنو، يسيء لوكاش فهم الطريقة التي يُمثَّل بها الواقع الاجتماعي (من حيث أن الواقع ليس قابلاً للوصول إليه مباشرة لوعينا). ومحتوى الأعمال الفنية ليس حقيقيّاً كما الحقيقة ذاتها (في الواقع، هو أكثر واقعية). يكتب أدورنو: “إذا ما زال هذا الفرق، أصبحت كل المحاولات لتوفير أساس حقيقي لعلم الجماليات تحاكم بالفشل“. يقرّ أدورنو أن الفن موجود في العالم، وأن له وظيفة فيه، وأن العالمين لديهما صلات وسيطة قوية، مع ذلك: “كفنّ يبقى نقيضاً لما هي عليه الحالة” بالنسبة للمثاليّة، يقول: “ليست جريمة مثالية للفن أن يقدم جوهراً، صوراً، حقيقة أن العديد من الفنانين نزعوا نحو فلسفة مثاليّة لا يقول ذلك شيئاً عن محتوى أعمالهم“.
يستطيع المرء أن يفسّر نزعة المثاليّة عند أدورنو عن طريق ما يفهمه كـ(عدم–هويّة) ما بين الوعي والواقع الاجتماعيّ. الواقع ليس (تجريبيّاً)، بل لا يمكن فصله عن المفاهيم التي نستخدمها لوصفه، وهذه المفاهيم وسيطة اجتماعيّاً. تسعى طريقة أدورنو الديلاكتيكيّة إلى استجواب المحتوى الاجتماعي الكامن في هذه المفاهيم، لا مراقبة العالم كما هو موجود – هذا مستحيل. يمكن الوصول إلى الماديّة عن طريق ثَقبْ المثالية، بتعريض مفاهيمنا للنقد لكي نستطيع أن نفهمها وأن نعود لها. لتوضيح ذلك بشكل سياسي أكثر: تحويل الواقع المادي سيحدث فقط عن طريق حدوث انفراج في وعينا الذاتي.
دائماً ما كان الواقع الاجتماعيّ بالنسبة لأدورنو بالفعل وسيطاً في الفن. لذا، خذ ادّعاء لوكاش أن رواية “تدفق الوعي” غير ديلاكتيكيّة بقدر ارتداد تجربة الفرد المباشرة: لا، يقول أدورنو، من خلال هذا، صورة الشئ مذابة في الفرد، وهو ما يساوي توافقاً بين الشيء والفرد. هذا النوع من الأدب – وأدورنو كان مدافعاً عن الأدب الطليعي، خصوصاً بيكيت – يُبقي الشيء، الذي بالكاد يثابر في العالم، بحالة تشييئيّة (12). من هنا يأتي تناقض هام بين الشيء الفعلي (غير مساوٍ) في العالم، والشيء الذي تم تمريره من خلال فرد. تولد صيغة سلبيّة للمعرفة من هذا التناقض الذي يجعل النقد مستحيلاً. لذا، البعد الجمالي عن العالم ضروري لنوع أدورنو النقدي، مجرد تمثيل الواقع الاجتماعي، كما يظن أن لوكاش يعنيه، هو غير ديلاكتيكيّ.
فارن: لماذا تظن أن هناك العديد من وارثي حجج لوكاش؟
دين: لا أريد أن أبدو وكأنني أصرف لوكاش عن طريق إعطاء أدورنو الكلمة الأخيرة، على الرغم من أننا يجب أن نعترف إنه كان محدوداً كمنظّر في الفن. العودة إلى نموذج “لوكشي” كما ينادي به جيمسون، على سبيل المثال، هي محاولة لمعالجة علاقة الفن المتغيّرة برأس المال. إذا ما كانت نظرية لوكاش، وفق نقّاده، تقدم مجموعاً كليّاً مغلقاً ومتعاضداً، كغطاء للمثاليّة الألمانيّة، من خلاله الأعمال الفنية التي حُكم عليها بأن تمثّل العالم بطريقة غير ديلاكتيكيّة، البديل، سمّه الطليعي، يركز بدلاً عن ذلك على التمزّقات داخل التجربة، عاكساً بذلك، كما يمكن أن يقال، التشقّقات والانهدامات الداخليّة والأساسيّة لإعادة إنتاج رأس المال. يدّعي جيمسون أنه في داخل الرأسماليّة المتأخرة، استحوذت صناعة الثقافة على التقنيات الطليعيّة للتمزّقات والتغريب. حتى أنها تصبح الوسيلة التي تعيد تسويتنا كذوات ممزَّقة للرأسماليّة. أفكّر بالطرق التي من خلالها تستفيد الكليبات الموسيقية والبرامج التلفزيونية، على سبيل المثال، من التقنيات المعقدة المقتبسة من الأعمال الفنيّة الراديكاليّة السابقة, الذي يتبع من ذلك هو فكرة أنه يجب علينا العودة إلى نوع من المجموع الكلي بالمعنى اللوكِشي الدقيق، العودة إلى الواقعيّة التي تجسّد وتصنع لحظات الصراع الطبقي الواضحة. أظن أنه يجب علينا استجواب مفهوم “المجموع الكلي” للعمل عند جيمسون بدقّة. لا أعتقد أنّها تستحوذ على الفحص النقدي. مع قول هذا، لست واثقاً ان هنالك العديد من وارثي حجة لوكاش كما تقول، جيمسون هو الأبرز الذي أعرفه.
فارن: هل هناك نقد موسيقي يبدو لك متماشياً مع نظرتك للنقد الموسيقي المادي؟
دين: بالتأكيد. هناك الكثير من النقد الموسيقي الذكي، لكن يبدو الكثير منه للأسف مقدّراً للمجال الأكاديمي. أحب عمل جوناثان نيوفيلد لأنه يحاول الاشتباك مع الممارسات الموسيقيّة الثابتة، رغم أنني أظنّه، بما يتعلّق بالمصطلحات السياسيّة، كثيراً ما يضع نظريّته في العلاقة مع الديمقراطيّة وليس مع رأس المال بما فيه الكفاية. كموسيقى ممارس، عوضاً عن منظّر، من المهم لي أن يساهم النقد في التطبيق العملي الموسيقي. أظن أن الادعاءات المثيرة والمحرّضة تستطيع فعل هذا أيضاً، مثيرة حواراً حول الأعمال الموسيقيّة لمنعها من التحجر. يعتمد هذا على المستمعين القابلين للخوض نقديّاً مع ما يستمعون إليه. لذلك، أحبّ المفكرين الذين يكتبون موسيقيّاً، ويتضمن ذلك أنواعاً منحرفة مثل بيتر كيفي، سوزان مكلاري، مايكل روز، وتشارلز روزين. أحب كتابات باديو عن الموسيقى، خصوصاً عن فاغنر، يشعر المرء أنه يحبه فعلاً. جيجيك، بشكل أقل. من الصعب التكلم عن الموسيقى لأنها مجرّدة بالأساس. والجدل حول معناها أبقى النقد الموسيقي في حالة نقد ذاتي، بخلافات لا تزال تقع حول تعريفات أنطولوجيّة أساسيّة تم الاعتراف بها في مجالات الفن الأخرى. هذا يفسّر الندرة المتعلّقة بالنقد الموسيقيّ الماركسيّ. تجرّد الموسيقى، رغم ذلك، ليس بالضرورة شيئاً سيّئاً. صعوبة الموسيقى، انعدام شفافيّتها ومقاومتها للتفكير، هي ميزات ثمَّنها أدورنو. يمكن أن ترى هذه الصفات كأنها تحمل فرصة ديلاكتيكيّة للنقد.
فارن: في الختام، هل تريد قول شيئاً أخر؟
دين: أظن أن قلق الفيلسوف من النهاية يتم تخطيه فقط من قبل الموسيقي. يواجه المؤلفون الحداثيّون مشكلة كيف أن تنهي القطعة دون إعطاء خاتمة أو أن تؤكّد الطبيعة الهويّاتيّة للكائن. أصبح المقطع الختامي الهادئ ومفتوح النهاية أحد كليشيهات الموسيقى الحديثة. وبالعكس، وغالباً ما كبح تثبيط الفلسفة عن الانتهاء الثابت عن فعل ذلك فقط. آمل أنني لم اقترح أي خط حزبي حول الطريقة الصحيحة والخاطئة للتفكير بالموسيقى. ما اقترحه هو طريقة لا تعتبر موضوعها النقدي موجوداً خارج الشكل الذي تعتمده نظريّاً. هذا يعني أن التفكير بالموسيقى ليس شيئاً مفهوميّاً، لكن عمليّة متّسمة بالتقليد. بأداء هذا، على التفكير مواجهة ما هو غير شبيه وآخر للفكر. بهذا المعنى، تعتمد الفلسفة الأصيلة على الفن. نجاة الموسيقى كنشاط اجتماعي محكوم بالحديث عن هذا. من المؤسف أن الموسيقيين والنقّاد بالعادة لا يكترثون بشعور زملائهم تجاه الموسيقى. لنجعلهم أكثر اهتماماً بهذا المستوى الشخصي: هذه، في العادة، أفضل طريقة لبدء حوار.
تمّت ترجمة الحوار بصيغته الأصليّة بالإذن من موقع The (Dis)Loyal Opposition to Modernity.