.
حينما يدندن مغني فرقة جيل جيلالة محمد الدرهم في أغنيته الكناوية المذاق دندانة مغنيًا : “الصوت إلى غنى بالنَغْم الفاتن، تْهيم ْرواح فجنة ويرتاح الساكن…واليوم نْدنَدن على سر الغنا يْهَبل ويْجَنن…” فإنه يحيل الى موسيقى كناوة خصوصًا والثقافة المغربية كحوض موسيقي يجمع صيحات الإنسان الأولى في مناجاته للمجهول و”الما هنالك”. لطالما كان الإنسان الإفريقي إنسانَ الإيقاع بامتياز، ففي الفراغ الشاسع والمهول للصحراء يصبح الإيقاع طريقًا تشقه الأرواح عبر الصحارى لكي لا تجن. يزخر تاريخ المغرب بموسيقى العابرين والوافدين، فإما هم عابرون من طرق التجارة للمرور إلى الأراضي البعيدة، وإما هم هاربون من طغيان الولاة والسلاطين، أو نازحون من الدمار أو مسلوبو الإرادة من عبيد وإماء. كل من هؤلاء حمل شيئًا من ذاكرته وخياله إلى هذه الأرض في شكل معين من الأشكال.
“كناوة”، المنحدرون من سلالات العبيد التي قدمت إلى المغرب في فترات معينة، لا زالوا يحملون في أرواحهم جراح الماضي وما عاناه الأجداد. قد يجهل العديد أو يجيلون النظر عن تاريخ العبيد بالمغرب، وهم بذلك يجهلون تاريخ أحد أعرق الألوان الموسيقية في المغرب. ليس الغرض من هذا المقال التعمق في إشكالية تاريخ العبيد بالمغرب، بل اكتشاف أحد تمظهرات هذا التاريخ الرمزية من زاوية خاصة، فنحن مهتمون أكثر بالجانب الرمزي والميثولوجي لموسيقى كناوة وتحولاتها مع موجات أسلمة العبيد. عند التعمق في اكتشاف هذا الجانب، تعترض الباحث إشكالية منهجية تتمثل في الغموض الذي يكتنف سيرورة التحولات التي شهدها الموروث الإفريقي قبل أن يأخذ شكله النهائي في المغرب، وهذا يرجع أساسًا إلى شح المصادر وصعوبة تشكيل خارطة لهذا المسار من طرف الباحثين، حيث يُجمع معظمهم على أنه لا يوجد دليل قاطع يحدد أصل كناوة في منطقة جغرافية معينة.
تاريخ كناوة
تشير المصادر الاستشراقية إلى أن تسمية كناوة تعودة إلى مدينة دجيني، في المنطقة الجنوبية التي يطلق عليها الأوروبيون، خصوصًا البرتغاليون، اسم غينيا، والتي كانت تقع بجانب نهر النيجر في مالي حاليًا. كما رجّح الحسن الوزاني (١٤٩٤-١٥٥٥) في كتابه وصف إفريقيا أن دجيني أو جيني اسمان لمسمى واحد وهو غينيا، بينما يذهب الباحثون الفرنسيون أمثال روني باسي (١٨٥٥-١٩٤٢) إلى أن التسمية لها أصل أمازيغي، كما اعتاد أن يسمي به أهل المغرب العربي بلاد الرجل الأسود أو أكناو/كناوية، خصوصًا في الجزائر ومناطق جنوب ليبيا René Basset, “Les noms des métaux et des couleurs en Berbère,” in Mémoires de la. ويعتبر أقدم دليل يؤرخ لأصل كناوة هو ما أتى به عالم التاريخ الأندلسي الزهري، انطلاقًا مما جمعه من معلومات من قبائل الصحراء الصنهاجية أن أصل كناوة (جناوة) من غانا التي كانت تعتبر عاصمة بلاد السود في القرن الرابع عشر Muhammad Az-Zuhri in Hopkins and Levtzion (eds.), Corpus, 98، وأن هذه المجموعات التي جاءت مع موجات تهجير العبيد في فترات عديدة من تاريخ المغرب، وخصوصًا في عهد المولى اسماعيل حيث تزايدت أعداد العبيد الذين يعيشون في ربوع المملكة العلوية والذين يشغلون مهام الجيش خصوصًا كانت أعداد كبيرة من العبيد في المولى اسماعيل تشغل مهام الجيش، فلقد تكونت في عهده أحد أقوى وحدات الجيوش في تاريخ المغرب والتي تسمى بجيش البخاري المكونة من عائلات العبيد وكان يعرف الجيش بقوته في العتاد والرجال.. يقول شوقي الهامل في تحليله لأصل كناوة : “يذهب تحليلنا هذا إلى القول إن أصل تسمية كناوة أتى على لسان المؤرخين من شمال إفريقيا الذين استعملوا هذه التسمية للإشارة إلى الإنسان الأسود عامة، و لوصف مجموعات العبيد والرجال السود القادمين من جنوب الصحراء الشرقية” Chouki El Hamel, Black in Morocco History of slave and race in Islam, Africain Studies, Cambridge University Press, 2014 p 280.. بهذا تأخذ التسمية على مر التاريخ طابعا عرقيًا، أي إن العلاقة التي كانت تربط شمال إفريقية بجنوبها كانت ترتبط بتصنيف عرقي يجمع جميع الاختلافات الإثنولغوية والثقافية تحت تسمية واحدة. يمكننا هنا القول إن أصل مجموعات كناوة تنحدر من عائلات العبيد التي قدمت للمغرب لغايات غير تجارية. ولقد تطورت هذه المجموعات على هامش المجتمع المغربي مما خولها المحافظة على نوع من الاستقلالية الثقافية والحفاظ على الموروث الأصلي عن طريق الموسيقى والتقاليد التي امتزجت بطريقة عضوية مع الثقافة السائدة بل و واكبتها في جميع التحولات التي عاشتها إلى يومنا هذا، ذلك ما سنتطرق إليه في الفقرة القادمة لنتحدث عن الموروث الإثنوموسيقي الكناوي وتحولاته.
إن ما يميز موسيقى كناوة هو طابعها العلاجي والروحاني الخاص، حيث يصعب تصنيفها على أنها موسيقى صوفية والسبب في ذلك يرجع إلى النسق الرمزي الذي يميز هذا اللون الموسيقي، فالطابع الكناوي هو طابع “ميثولوجي” بامتياز. تعتبر “الليلة” مناسبة طقسية يجتمع فيها موسيقيو كناوة والمرضى الذين يشتكون من مشاكل صحية نفسية أو عضوية ترتبط بالعين وغيرها، حيث تعتبر هذه مناسبة لاستدعاء الضيف الخفي الذي يسكن الأبدان والأمكنة لكي تحضر بركات العلاج والفرج. إن هذا الوصف السريع من ناحية ظاهرية لا يساعد على التعمق في رمزية الأهازيج والكلمات وكذا الآلات الموسيقية المستعملة. في حين يتمثل غنى هذا الموروث على المستوى اللغوي في استعمال كلمات من لغات إفريقية متعددة والتي تحمل في معناها آهات تناشد الأجداد، بما في ذلك من رموز الجذور والأصل عند معظم القبائل في مناطق إفريقيا الشرقية كالبامبار والفلاني.
أما على المستوى الموسيقي فكناوة تعتبر موسيقى إيقاعية بامتياز يحضر فيها نظام متناسق من القرع على الطبل والقراقب والتي تحاكي إيقاعات روحانية لدى قبائل جنوب الصحراء الغربية، غير أن ما يميز كناوة كموسيقى روحانية هو الكنبري وهي آلة وترية تصدر نغمات عميقة ذات تردد عال، حيث يمكن أن تسمع من بعيد بدون الحاجة إلى مكبرات صوت، ويطلق أيضًا عليها إسم الهجهوج لأنها “تهيج”، وبالدارجة المغربية “تهجج” الجن (الروح) الساكن في أعماق المريض.
إن طابع الموروث الإفريقي حاضر بشدة، فالموسيقى الإفريقية الروحانية هي موسيقى استدعائية بامتياز. هذا إذا نظرنا إلى المحيط الطبيعي الذي نشأت فيه، “فالفلكلور” الإفريقي مرتبط بامتياز بطبيعة الجغرافيا، حيث يزخر المخيال الجمعي الإفريقي بصور وأشكال وأرواح تسكن البراري والصحاري والأشجار المقدسة، فتارة هي تحمي الأراضي وتارة تدل المسافرين وتارة تسكن وتتمكن من الأجساد وتسحرها وترمي بلعناتها عليها. ولطالما كانت قبائل جنوب الصحراء الشرقية تتوجس من الزائر (الزار) حيث كانت معظم الطقوس الشعبية ذات طابع “شاماني” تحاول ترويض الزائر (أو طرده) وذلك بالدخول في حالة من المفاوضات مع الساكن يتم فيها التنازل عن مجموعة من المبادئ بغرض التودد له لأجل العلاج أو التحرير اعترافًا بعظمة وشدة القوة والسلطان.
“الله ا بابا ميمون
أبا و با اش كان سبابي من غير صحابي
الله الله ابا با ميمون
انا انا انا الكناوي بوتارزة
الله الله ابا با ميمون
والكناوي السلبني هاهو جا بابا ميمون“.
فتتم الليلة بذلك وفق احترام دقيق لطبائع الجن ومزاجه حيث يتم احترام جميع المدعوين وإعطائهم حقهم من الآداب والاحتفالات والترحيب، إذ يبدأ استدعاء الشُرَفة أي الأعيان أولًا أو الجن السماوي توسلًا بمولاي عبد القادر والجيلالي بوعلام مرورًا بالجن الأرضي والجن الناري (بابا حمو) انتهاءً بالجنيات (لالة عيشة، لالة مليكة) ملكات البحار والوديان والشرفة الأولياء الأدارسة. ولا تمر الليلة ولا يكون لها مفعول إلا إذا كان الاستدعاء كاملًا شاملًا لا يُفضل فيه فريق من الأرواح والجن على آخر كلهم تحت حكم أولياء الله الصالحين الذين سكنوا الجبال والكهوف والواحات، وعُرف عنهم الحديث مع الملوك والأولياء واستقصاء الأحوال في السماء والأرض. Lapassade Georges. Les gnaoua d'Essaouira : Les rites de possession des anciens esclaves noirs au Maghreb, hier et aujourd'hui. In: L'Homme et la société, N. 39-40, 1976. Tiers-Monde économie politique et culture. pp. 191-215
هذا حقي فالله ونبي
يالحبيبة صلي عن النبي
…
أمولات الكيفان الألة عيشة
أمولات الويدان ألالة عيشة
أنا داخلت عليك ابالقاضي عياض
بمولاي علي الشريف
أعيشة قنديشة
…
يا عيشة يا عيشة
مولات الواد
كاعدة في الجبال
تسيح كي الغزال
فإذا كانت قيمة موسيقى كناوة تكمن في “ميثولوجيا” قائمة بذاتها تعتمد نسقًا صارمًا في التعامل مع قوى الملوك في علاقة تقديس وتبجيل، فهذا إنما يدل على عمق جذور هذه الثقافة في المخيال الرمزي الإفريقي الذي عُرف بتقديس القوى الطبيعية وقدرتها على التأثير المباشر على الروح وعلى الأحوال في الحياة الشخصية والاجتماعية. وليس هذا فقط بل إن هناك اعترافًا واضحًا بخضوع الإنسان لصيرورة الموجودات وضرورة خضوع الإرادة البشرية إلى النظام الميتافيزيقي الكوني لتلكم الموجودات. إنه حال جميع المجموعات البشرية منذ البداية غير أن ما يميز الموروث الإفريقي الموسيقي هو حضور الرمز المتنوع للقوى الطبيعية المتفاوتة التي تتعايش في علاقة تكامل وتوافق. وهنا يشير بول باسكون في إحدى مقالاته Paul Pascon, « La formation de la société marocaine », Bulletin économique et social du Maroc, 1971 عن الإسلام المغربي إلى الصعوبة التي تعترض الثقافة المغربية في التعامل مع لاهوت غير متمثل في أيقونة معينة وهذا ما يفسر وجود تعايش أشكال ميثولوجية قديمة مع إسلام الفاتحين، فالثقافة المغربية هي ثقافة رمزية تخشى التجريد.
ثمة تمظهر آخر من تمظهرات الموروث الإفريقي في موسيقى كناوة أيضًا، وهو المتعلق بالجانب الذي يدخل فيه القربان للساكن والهدية المقدمة له للوصول إلى المبتغى الذي هو العلاج، ويعتقد أن نوعًا من الجن الساكن يعشق رؤية الدم (لالة عيشة…القايد حمو) ويصبح اللون الذي يرمز لحضوره هو اللون الأحمر حيث قد تصل الممارسات إلى إلحاق الأذى بجسد المريض من جرح وضرب، دون الحديث عن مراسيم ذبح بعض أنواع المواشي بمواصفات معينة ترضي الضيف، وتتسم بعض الممارسات الشامانية في إفريقيا بجانب تطهيري ملحوظ (الفودو مثلًا) حيث يذهب روني جيرار إلى أن التطهر (catharsis) المتمثل في مراسيم القربان والأضحية يخدم وظيفة ترويض العنف البشري والشحنة النفسية السلبية وتقنينها وتصريفها في مواقيت ومراسيم معينة. فهذا التنظيم الثقافي للعنف الجمعي والفردي هو ما يؤسس تلاحم الأفراد فيما بينهم كجسد واحد يواجه القوى السحرية الخفية أو المصائب التي تحيط بهم وهو محدد مهم للثقافة البشرية. إن هذه الممارسات تخلق سنكرونية إن ممارسة طقس ما تأخذ وظيفة سنكرونية بمعنى أنها تخلق حالة وحدوية وتمازجية بين الأفراد الذين يشاركون في الطقس حيث يذوب الفردي في الجمعي ويصبح هناك حالة من التناسق الإيمائي. وتمازجية بين الأفراد الذين يشاركون في الطقس حيث يذوب الفردي في الجمعي ويصبح هناك حالة من التناسق الإيمائي فتطبع موسيقى كناوية كلون فني متجذر في العمق الثقافي الإفريقي لم ينسَ قط طريق العودة إلى الأصل، خالقًا لنفسه فلكًا خاصًا من المعتقدات المتمازجة بين القديم والحديث والمستحدث الشيء الذي خول له الاستمرار عبر الأزمنة بألوان وعباءات مختلفة تحمل نفس الهوية، هوية المسلوبة حريته الذي يستنجد بالأجداد في أرض الاغتراب.
يمكننا القول أخيرًا إن كناوة، كثقافة تشغل مكانة معينة وسط الثقافة المغربية السائدة، تحيلنا الى مفاهيم أساسية كالرمز وعلاقة الإنسان “بالأسطورة” والعالم، فالموسيقى هي طريقة من بين العديد من الطرق التي يعتمدها الإنسان كي “يستضيف” الوجود المهول في داخله، فيرتب الفراغ والصوت بحسب ما توحيه الطبيعة والوسط. فيمر عبر الأذن والجسد، ليصبح للوجود معنى لا يدل إلا على نفسه، وكأنه حينها يتكلم عبر الموسيقى وتتقمص القوى العمياء شخصيات وألوانًا وقصصًا كي تظهر للنفس البشرية، فتبدي نفسها كغاية تخضع لإرادة العالم. وبهذا يربط الإنسان، عبر تتالي الفراغ والصوت المنتظم الذي يكلم الوجدان مباشرة، علاقات تحكم القوى وفق نسق الوجود. حيث لا يتكلم الوجود في ذات الإنسان إلا عبر تجزيء نفسه وربط تلك الأجزاء بمحددات معينة قد نسميها هنا الأخلاق. وهنا تأخذ الأسطورة في اللون الموسيقي أدورًا مرتبطة بتموقع الروح والذات في علاقتهما مع حقيقتهما ومع العالم أيضًا. وهي بذلك، وبعلاقة سببية حتمية، تطرح نظامًا أخلاقيًا يفرض احترام المقتضيات الخاصة بالنسق الكوني المعطى والموضح في الرسم لكي لا يختل النظام المتكامل المحاكى في الشكل الذي تقدمه الأسطورة كموضوع للقالب الموسيقي. ولعل الموسيقى هي إحدى الأشكال التي قد ترسم بوضوح هذا التموقع، إذ يعتبر الطقس الموسيقي الروحاني قنطرة يمر عليها الإنسان لكي يعيد نفسه ولو بطريقة مؤقتة إلى موقعه الأصلي ضمن تراتبية الموجودات. وأيضًا يمكن الدخول في علاقة لا-زمنية من حيث هي عودة إلى الأصل، وزمنية من حيث هي استحضار للتحولات عن طريق تبيانها عبر التاريخ. إن الموسيقى التي تستحضر الأسطورة في مركز اهتمامها هي الموسيقى التي تقود بمن يشاركون في طقوسها ويعتقدون في حقيقتها إلى الوصول إلى الحالة التي تقع بين ثابتين، الأولى عودة لأصل العالم والثانية تكمن في الوعي بنظامه والدخول في علاقة وحدوية معه، وبالتالي الإحاطة بمعناه وبالنسق الأخلاقي الواجب اعتماده للحفاظ على تناسق هذا الأخير.
لقد كان المرور عبر المصادر الاستشراقية ضروريًا لهذا المقال، فلا بد للقارئ أن يقترب من الظاهرة ولو عن طريق مصادر إثنوغرافية، غير أن هذه الأخيرة قد فشلت كما هو حال الدراسات الأنثروبولوجية الأولى التي تغلغلت في ثقافات ما وراء البحار بطريقة إقصائية وتفتقد لشيء من البراءة العلمية الضرورية لسبر أغوار الظاهرة الإنسانية. حيث أن النظر إلى موسيقى كناوة “كفلكلور” يفرغ الموسيقى من مكانتها الاجتماعية وفائدتها في الحفاظ على التوازن النفسي الاجتماعي بما تنعم به هذه الموسيقى من خصائص علاجية تطهيرية. إن “متحفة” الطقس يعبر عن فهم مغلوط لروح المغاربة، الروح المتوجسة التي تبحث عن خلاصها في ربط العلل بمسبباتها ولو كلفها ذلك التيه في عالم الرموز والحكايات. إن الطابع الفارقي (بين الأسطورة والدين) المستعمل في اللغة التحليلية والعلمية لهذه الظاهرة لا يساعد أيضًا على فهم أعمق لدور موسيقى كناوة في واقع المغاربة، فالنسق العقائدي للمغاربة يعايش الأسطورة والدين معًا في لوحة واحدة، وهي عبارة عن تراتبية حاضرة يتربع الله عرشها والملائكة والرسل والأنبياء والأولياء والأرواح، وهو كلٌّ يسير بمشيئته. لا يجد المغاربة ضيرًا في المرور عبر تلك الوساطة لأن مخلوقات الله ما هي إلا دلائل على الخالق، كما يجدر الذكر أن جدلية الحقيقة والخرافة لم تقنع عقل المغاربة الجمعي وبقيت الحكاية والشعر والزجل حاملات لرموز قد تتعدد أشكالها وألوانها لكنها تدل على الحقيقة الواحدة وعلى السر الأحادي.
ككل شعب متجذر في الأرض والتاريخ، يعتبر المغاربة أهل الملاحم والتراجيديا التي تتمخض عبر الأزمنة والأجيال لصنع انفراد متطير وساذج في بعض الأوقات، لتلد أرواحا عنيدة ومجذوبة لا تريد أن تتخذ لنفسها خطًا حداثيًا يأخذ منحى متصاعدًا بل تتغذى على ملاحمها في اجترار مستمر مقاومة بذلك أشكال التفريغ والتجويف الحداثية والمابعد حداثية.
إننا بحكم الاحتكاك بفن كناوة وحضور بعض المناسبات، نلاحظ أن التغيير الذي حصل في السنوات الثلاثين الماضية على مستوى الممارسات كان جذريًا. فكناوة أصبحت حرفة يحترفها “المعلمون” أكثر من كونها انتماءً ثقافيًا أو نظام معتقدات. وذلك يرجع إلى التماهي والاندماج في المحيط الثقافي المغربي. ولعل مرور المغرب من عدة تحولات سياسية جعلت أيضًا الدولة والحكم يتعاملان مع الأشكال التعبيرية الدينية بطريقة قد تتسم بطابع البراجماتية، فلقد اعتمدت الدولة العلوية منذ بداياتها الدين كوسيلة لتكريس صورة السلطان الشريف الأب الحاضن والمعاقب المقوم في الآن ذاته. ومن الجلي أن علاقة السلطة بالموسيقى كانت علاقة متشنجة عبر تاريخ المغرب، فهي تارة علاقة صراع خطابي تحريضي تحمل طابعًا التزاميًا تكون فيه الموسيقى طابورًا ثانيًا يتحدث بصوت المقهور، وتارة هي صوت يبارك السلطان ويدور في فلك السدة العالية متغنيًا بالمكاسب والغنائم والأمجاد، فموسيقى كناوة، و إن كانت جميع القراءات في هذا المقال لا توحي بذلك، قد كانت موسيقى المقاومة والتصدي و لعل هذا ما يفسر أيضًا نموها وتطورها في البؤر المظلمة للمجتمع على عكس الموسيقى الأندلسية مثلًا أو فنون أخرى كانت تحظى باهتمام كبير من طرف السلطة. وبلغت هذه المقاومة أوج التجديد في الوقت الذي صارت فيه كناوة مصدر إلهام للموسيقى الشبابية المناضلة في النصف الثاني من القرن العشرين، كفرق ناس الغيوان وجيل جيلالة التي استقت من كلمات موسيقى كناوة والملحون وألحانهما الشيء الكثير، للتعبير عن القهر والاضطهاد وإعلاء صوت الشباب المناهض لجميع أشكال التهميش.
فإذا كان من شبه المُسلَّم به عبر الأزمنة أن مع موسيقى كناوة ظلت رابضة في طي الغامض والمسكوت عنه، ولا يدخل مجالس كناوة إلا المقربون من أهل الحال والمعرفة الروحانية والمرضى والمحميون بالبركات، فإن ما يلاحظ في السنوات الأخيرة يقول عكس ذلك. فالجدير بالذكر أن كناوة أصبحت من بين أحد الألوان الموسيقية الأكثر شعبية بين الشباب المغربي، فلقد جعل مهرجان الصويرة من كناوة فلكلورًا شعبيًا يحتفل به المغاربة والقادمون من جميع دول عالم. مع هذا التحول، فقدت موسيقى كناوة غايتها الشامانية المتعالية لتتحول إلى لون يحتفل به الجميع. فالسؤال يبقى مطروحًا عما إذا ما قرر أسياد الأرض والمكان وبعد نهاية وظيفتهم التخلي عن كنبري، آلة معلمي كناوة، أم أن هناك بعض المُعَلمين يفضلون الاختباء ومجالسة الأسياد بدل الخروج إلى أضواء الحفلات المفتوحة والمهرجانات.
المراجع
Société de linguistique de Paris (Paris: Impr. Nationale, 1895), tome 9, 87.
GIRARD René, La violence et le sacré, Pluriel, Paris, 2011.
GIRARD René, La violence et le sacré, Pluriel, Paris, 2011.