.
هذا المقال هو الأول في سلسلة نتعرض فيها إلى تجربة محمد منير من مختلف مناحيها، بمناسبة مرور أربعين عام على انطلاقته.
لم يشبه محمد منير أحدًا على الساحة الغنائية حين ظهر عليها للمرة الأولى عام ١٩٧٧. تعدى الأمر نمط أغاني ألبومه الأول، علموني عينيكِ، إلى مظهره أيضًا: شابٌ داكن البشرة، لامع العينين، ذو شعر مجعد وكثيف. كما ابتعد صوت منير، على عذوبته، عن المعايير المألوفة للصوت الجميل آنذاك، والتي كانت لا تزال كلاسيكية إلى حدٍ ما؛ فقد تزامنت بداية مشوار منير الفني مع وفاة عبد الحليم حافظ، الذي ظل متربعًا على عرش الغناء في مصر حتى تلك اللحظة.
كان علموني عينيكِ تجربة جديدة على جميع الأصعدة. مثّل الألبوم بداية الثلاثي الفريد المكون من منير والشاعر عبد الرحيم منصور والملحن أحمد منيب، ومعهم هاني شنودة، الذي كان يبدأ مسيرته الموسيقية هو الآخر، فقام بتوزيع كل أغاني الألبوم، كما لحّن بعضها. بدا صوت منير حينها يافعًا، خجولًا، يغني للحب بمفردات غير معتادة. فحبيبته -أو بالأحرى عيناها – هي الفاعل، والفعل الذي تقوم به ينطوي على سلطة ليست بهينة: حبيبته تعلّمه.
ترسم كلمات أغاني منير في بدايات مشواره صورة لنساء متشابهات، يشتركن في صفات محددة تميزهن، أو ربما هي امرأة واحدة، تبدأ صبية بريئة مثله، وتكبر معه عبر السنوات. هي بشكل أو بآخر مرآة له. عيناها بهما غربة وغرابة؛ لأنها مثله، لا تشبه الآخرين في المدينة: “أنتِ أنا… وبكرة ليَّ وليكِ.”
في هذه الأغاني تستقي المرأة صفاتها دومًا من المكان؛ تحمل ما يحبه من طفولته في أسوان، وتعينه على حياته الجديدة في العاصمة. في أغنية سيلي، من ألبومه الثاني بنتولد (١٩٧٨)، حيث الكورال نسائي بالكامل، يعبر منير عن امتنانه: “أنتِ قمرة في ليل مدينتي، وأنتِ في التوهة سفينتي.” لو تخيلنا تلك الحبيبة التي يغني لها، لرأينا شابة سمراء، لطيفة الملامح، ذات ضفائر سوداء طويلة، وهو الشاب الناشئ في النوبة، الذي لا يزال متأثرًا بطبيعة أرضه في وصفها، فيناديها في نفس الأغنية: “يا ابتسامة سمرا نيلي، تسلمي لي.” يلجأ إليها المرة تلو الأخرى كي تؤنسه في ليل القاهرة، فيرجوها أن “تمد يدها” في إحدى الأغاني على نفس الألبوم: “دي المدينة عيون حزينة ما بتعرف تنام.”
من الملفت أيضًا في تلك المرحلة المبكرة من مسيرة منير الربط الدائم بين الحب والسفر. فالرومانسية في أغانيه، وهي وثيقة الصلة بالنساء فيها، تستحضر شعورًا دائمًا بالحركة، على عكس التصور السائد الرابط بين الحب والاستقرار أو السَكَن. ففي ألبومه الأول، عينا حبيبته تعلماه “السفر” و”الهجرة”، كما يشبّه صبيته بـ “سفريةٍ ليلية”. ورغم أن الفتاة تعطي دومًا انطباعًا بالبراءة، بضفائرها التي يشير إليها باستمرار، إلا أنه يحثها دائمًا على الانطلاق، ويتوق إلى رحلتهما معًا. سويًا يتعرفان على الحياة، خائضين دربًا مشتركًا نحو الحرية؛ فالبراءة هنا نابعة من طزاجة الشباب، لا من نزعة محافظة. يتجلّى ذلك في ألبوم بنتولد، حيث يشجع منير حبيبته في أغنية أخرى (من كلمات سيد حجاب) أن “تحلّ ضفائرها“؛ أن تترك نفسها لجمال الحب الذي جمعهما، مرة أخرى مشبهًا علاقتهما بالرحلة: “مركب هوانا في الهوا حالّة الشراع، رايحين سوا لبلاد ماتعرفش الخداع.”
قد نستدل على ذلك أيضًا في “اتكلمي” (١٩٨٣)، ألبوم منير الرابع، وثاني تعاون له مع فرقة يحيى خليل، التي بدأ معها ربما أغنى مراحل مسيرته المهنية في ألبوم شبابيك عام ١٩٨١. في أغنية اتكلمي، يغني منير لحبيبته أم الضفاير من كلمات جمال بخيت، ولكنه إلى جانب ضفائرها يغني لجسدها؛ يغازلها بإجلالٍ وبوضوحٍ متقد في آن واحد: “وفوق جبيني المقدّر، القد ملفوف وفاير”. فالبُعد الجنسي في العلاقة بالحبيبة موجود من البداية، لا يُنكَر ولا يختبئ.
في ألبوم وسط الدايرة (١٩٨٧)، الذي يعد آخر ألبومات تلك المرحلة، يسافر منير مرة أخرى في عشقك ندى (كلمات عوض بدوي): “رحّال أنا من كام سنة، في بحور عينيكِ المزروعين بالسوسنة”. بالرغم من تركيز الأغنية على “الحضن” والـ”دفا” والراحة، إلا أن الحركة لا تزال حاضرة، كما تستمر الإشارة إلى الطريق المشترك والخطوات المتكافئة: “خطّي الأحلام بيّ، خطاويكِ خطاويَّ.” لا يزال منير يرى نفسه في حبيبته التي تشبهه، لا تزال ندًا وإلهامًا، ولا يزال متأثرًا بطبيعة موطنه الأصلي في خطابه الرومانسي، كما نسمع نداءه في صفصافة، من كلمات نفس الشاعر: “افردي شراعِك حنان، أفرد أنا نيلي.”
يمثل ألبوم شيكولاتة، الصادر في آخر عام في الثمانينات، نقلة في مشوار منير، فهو بمثابة تلك السلمة الأخيرة التي يعتليها قبل أن ينتقل إلى مرحلة جديدة من النضج في التسعينيات، كمن يصطدم بواقع يغيّر شيئًا بداخله. لو كان نقاء الأغاني الأولى شبيهًا بطبيعة النوبة، فهنا ولأول مرة تصير الأغاني أشبه بالقاهرة، ويحل شيء من الجزع مكان الحنان المتدفق سابقًا. هنا تظهر أول أغنية يعاتب فيها منير حبيبته، في بداية تعاونه مع الشاعر عبد الرحمن الأبنودي: تحوم السحب فوق العلاقة للمرة الأولى، وينظر الشاب برّا الشبابيك ليرى الغيوم والأمطار. يترك الحلم ويخرج للحياة، والحياة تجعله قلقًا، مترقبًا. الموسيقى نفسها متوترة، توحي بتهديد قريب.
ولأن الحبيبة في أغاني منير مرآة له، فهي أيضًا تنضج. لم تعد الفتاة ذات الضفائر، بل – وكأنها استجابت للنداء – حلت ضفائرها، وانطلق معها شعرها. يتغنى منير بطوله ولونه وحريته في الأغنية الثالثة (من كلمات عصام عبد الله) على الألبوم الصادر عام ١٩٩٢: “بالظبط الشَّعر اللي بحبه، في الطول واللون والحرية”. تغيرت ديناميكيات العلاقة، فلم يعد هو وهي على صفحة واحدة في تناغم تام. كبرت الفتاة، صارت تغويه عن وعي وصار هو يخشاها بعض الشيء مع هذا التغير، على قدر انبهاره بها: “مش عايز أحبك مش عايز، مش داخل سجنك مش جايز”
شهدت التسعينيات أيضًا خطوة مهمة في تاريخ تطور تجسيد المرأة في أغاني منير، تمثلت في بداية تعاونه مع الشاعرة الغنائية كوثر مصطفى في ألبوم افتح قلبك (١٩٩٤). تعد تجربة مصطفى مع منير هامة لأكثر من سبب. أولًا، هي من التجارب النادرة في الموسيقى المصرية المعاصرة التي انتظمت فيها شاعرة غنائية في العمل مع مطرب معين، منتجين معًا مجموعة متماسكة من الأعمال ذات خصال وملامح مميزة؛ فالشاعرات لطالما كن نادرات للأسف على الساحة الغنائية المصرية. ثانيًا، لأنه وبالرغم من تنوع التصويرات النسائية في أغاني منير من قبل، لا يمكن أن نغفل أن جميعها كانت من منظور شعراء رجال، فمصطفى هي الشاعرة الوحيدة التي عمل معها منير، باستثناء هند القاضي التي كتبت له عنقود العنب في ألبوم الفرحة (١٩٩٩). ثالثًا، لأنه بغض النظر عن جنسها، فقد كتبت مصطفى لمنير بعض من أهم أغانيه وأقربها إلى محبيه، مثل ساح يا بداح، شتا، وعلّي صوتك (من أغاني فيلم المصير ليوسف شاهين، ١٩٩٧). كما كتبت مصطفى أكثر أغاني منير إروتيكية، وهي أغنية ليلة واحدة، من فيلم البحث عن توت عنخ آمون (١٩٩٧) للمخرج يوسف فرنسيس. بالرغم من أن الجانب الجنسي لم يغب عن أغاني منير السابقة واللاحقة، إلا أن ليلة واحدة مكرّسة بالكامل وبوضوح لوصف تجربة جنسية، ومع أنها مليئة بالرموز، إلا أنها تظل أكثر أغاني منير صراحةً في تعاملها مع الجنس.
لكن القيمة الحقيقية لتجربة مصطفى مع منير في هذا السياق تكمن في بعض أغانيها التي أخذت تمثيل المرأة في أعماله إلى مستوى آخر، حيث انتقل من منطقة مخاطبة الحبيبة إلى التعليق أو النقد الاجتماعي الصريح لوضع النساء في المجتمع. يبدأ ذلك في ألبوم ممكن (١٩٩٥)، حيث كتبت مصطفى أغنيتين متقاربتين في المحتوى، إحداهما، أجمل حكاية، بطلتها “بنت حلوة بتجري م الحرّاس”، بينما في الأخرى، “يا بنت ياللي” – نداء لنفس البنت ربما – يصفها منير بـ “غنوة خايفة تغني”. تغزل البنت قفطانًا بالنهار، فقط لتحل خيوطه كل ليلة، فيسألها طوال الأغنية، لمَ تخشى الليل؟ “ضيعتِ الليالي، والقمر مستني… ضيعتِ الليالي، تغزلي وتحلّي”، وكأن عزوفها عن الليل، بكل ما يفوتها فيه، يمحو كل ما تنجزه أثناء اليوم.
قد نعتبر “يا بنت ياللي” تمهيدًا لأغنية بنات (“أحمر شفايف”، ٢٠٠٤)، والتي كتبتها أيضًا مصطفى؛ فهي تأتي بالإجابة على السؤال المطروح في الأولى. “في بلد البنات، كل البنات، ماشية وظابطة في إيدها الساعات.” البنات مرغمات على الهرولة إلى بيوتهن مع غياب الشمس. البنات مجروحات، مخنوقات، رغم قدرتهن على الثورة والمعاندة، وعدوهن الأول هو دقات الساعة. وبنات هي ربما الأغنية الوحيدة من نوعها، فلا توجد أغانٍ أخرى لأي من معاصري منير تتعرض بشكل مباشر للقمع الممارَس والمشرَّع اجتماعيًا على الفتيات، والذي كثيرًا ما يبدأ من الأهل، في هيئة فرض مواعيد معينة للعودة إلى المنزل، ما يعد فعليًا شكلًا من أشكال حظر التجوال. قد يؤخذ على الأغنية إضفاؤها جوًا رومانسيًا حالمًا على المعاناة الموصولة بتلك المشكلة، إلا أنها لا تزال مفعمة بشجنٍ ملموس، إن لم تكن غاضبة.
حبيبة منير السمراء، وهي الآن امرأة، لا زالت تنضج وتتغير، كما تتبدل صورتها في أذهاننا: بعد أن انسدل شعرها، هي الآن تكحّل عينيها بكثافة، وتزين ثغرها بـ أحمر شفايف يصير محل حَسَد حبيبها. كما تخلصت من قيودها؛ لم تعد في حاجة إلى تشجيع منه، بل أصبح حبها حرية، كما يقول: “في العشق، ولا شيء ممنوع.” إلا أن الألبوم يحتوي على ما قد يعد بداية نسق مزعج في أغنيات منير التالية، في أغنية ابكي (كلمات أمير طعيمة)، ألا وهو نسق التوقعات. فبينما طغت على أغاني الحب المبكرة فكرة المشاركة، تأتي هذه الأغنية سلسلة من أفعال الأمر المعبرة عما ينتظره منير من حبيبته. هي هنا تظل مرآة له، ولكن مع مغالاة غير منطقية في الأمر: “ابكِ لو في عيني دموع، اضحكي لما أكون فرحان” يبدأ منير هنا في التحول إلى رجل عاجز، يشبه الطفل، ينتظر من امرأته أن تأتي هي فتصلح كل شيء.
ولأن فكرة المرأة الكاملة التي تحوي العالم في صدرها لا وجود لها في الواقع، وما هي إلا محض خيال شعري ذكوري بالأساس، تأتي كلمات مثل تلك الأغاني مبالغة وخاوية في آن واحد، وركيكة كذلك، كما تثبت أغنية صوتِك، إحدى أغنيات ألبوم امبارح كان عمري عشرين (٢٠٠٥). تزدحم صوتك، وكأنها امتداد لأغنية ابكي، بأفعال الأمر التعجيزية: “املكيني، إإسريني، اعبري بيّ الزمان”، وشبه الكوميدية أحيانًا: “خليني أصرخ جوا حضنك م الحنان، وكل ما أصرخ زودي الأحضان كمان.”
يترك منير خموله بشكل مؤقت في ألبومه التالي، طعم البيوت (٢٠٠٨)، والذي أعده جزء كبير من جمهوره بمثابة عودة من نوع ما بعد إحباط ألبوم امبارح كان عمري عشرين. في طعم البيوت، تصل الحبيبة إلى أوج نضجها وامتلاكها لذاتها، فتخبره هي بمشاعرها، آخذة ما تريد دون تردد: “من غير كسوف، قلتِ أنا عاشقاك، أنا بعترف بهواك.”
ولكن الحزين في الأمر أن أغنية من غير كسوف (من كلمات نصر الدين ناجي)، تعد آخر ظهور مؤثر أو ذي قيمة لهذه الأنثى في أغاني منير. فقد اختفت بعد ذلك، تحديدًا في ألبومه الأخير (والأول بعد الثورة) أهل العرب والطرب (٢٠١٢)، وكأن غيابها – وهي الكيان الموازي لتطوره عبر السنوات – كناية عن توقف نمو منير عند هذه النقطة. لم يعد منير يحاول، لم يعد يسأل ولا يجيب. أقصى ما استطاع كان محاولة بائسة لإعادة إحياء سحر قديم، عن طريق إصدار توزيع جديد لـ في عينيكِ غربة، يفوق توزيع طارق مدكور (مشوار، ١٩٩١) سوءًا. تفقد في عينيكِ غربة – وهي إحدى أيقونات منير بلا شك – معناها حين تفقد صدقها. يتحول اللحن إلى نسخة باهتة من الأصل، موسيقى التانجو المصاحبة -حتى مع تداخل العود – لا علاقة لها بالسياق، ومنير، بكل بساطة، لم يعد غريبًا. هجرته امرأته ومرآته في النهاية، ربما لأنها، هي أيضًا، لم تعد تصدقه.