عهد الله ما نرحل | لماذا المقاومة بالغناء
بحث | نقد | رأي

عهد الله ما نرحل | لماذا المقاومة بالغناء

لبنى الشرفاتي ۱۳/۱۲/۲۰۲۳

“سوف نبقى هنا / سوف يحلو النّغم” عبارة أنشدها طاقم طبّي في غزّة، محاولًا رفعَ معنوياته وسط مستنقع القصف والتجويع وغياب المستلزمات الطبية.

ساهمت الأغاني والفنون بمختلف أنواعها في بلورة هوية سياسية ووطنية جديدتين للفلسطينيين، عوّضت فكرة الإبعاد الذي يتعرّضون له من طرف إسرائيل بفكرة الصّمود أمام الاضطهاد؛ كما كرّست هوية تجمع مختلف فئات الشعب الفلسطيني بالتقليل من الصفات الخاصة لكلّ مجموعة والتركيز على النقاط المهمّة والمشتركة بين كل الفلسطينيين. حتى أنه يمكننا رؤية كيف استعملت حركة المقاومة الوطنية الفلسطينية الفلكلور الشعبي للوصول إلى أهداف استراتيجية، مِن ترسيخٍ وإعادة الاعتبار لطريقة العيش والتقاليد الفلسطينية الأصلية، وإعطاء الفلكلور البدوي قيمة كبيرة لدى مثقفي الطبقة المتوسطة الحضرية.

لا أتحدث هنا حصرًا عن أغاني المقاومة، مثْل أعمال مصطفى الكرد وفرق البراعم والعاشقين وصابرين بل عن المقاومة بالغناء أيضًا، فقد تجتمع القلوب حول أغنيّة غرامية لفيروز أو أم كلثوم أو أهازيج شعبية تهتزّ لها الأقدام والأجساد. أيضًا، لا يتوقف الأمر على ما يسمّى بـ الأغاني الملتزمة فقط، بدليل أن سلْطة الاحتلال الإسرائيلي تطارد حتى فِرَق الدّبكة، ليتحوّل الرّقص وارتداء الملابس التقليدية رمزًا للعمل البطولي المقاوم للاحتلال، وتكريسًا لسرديّة مختلفة تفنّد قصّة الإسرائيلي في عدم أحقّية الفلسطينيين بوطن. ثمّ إنّ إحياء التراث الفلسطيني، ولو ما يبدو بسيطًا كأغاني الأعراس والمناسبات العائلية والحياة اليومية، لها أهميّة مفصليّة في ترسيخ فكرة أن أرض فلسطين لها تاريخ وسكّان صنعوا ثقافة وفلكلورًا متجذّريْن في مدن فلسطينية عتيقة وتقاليد تطوّرت وترسّخت طيلة قرون، ما يدحض الأكذوبة الصهيونية بأنّ فلسطين كانت أرضًا بدون شعب، ومن هنا خوف المحتلّ من الغناء.

هذا ما يؤكّده د.جوزيف مسعد: “الكثير من هذه الأغاني كان له دور أيضًا في تسجيل جغرافيا تغيرت بشكل لا رجعة فيه، حيث قام الاحتلال الإسرائيلي بإزالة القرى والاستحواذ على المدن الفلسطينية. مدن مثل عكرا، جفا، لدة، مجدل، رملة، صفد، طبريا، والعديد من القرى تم ذكرها في أغانٍ مكرّسة لكل واحدة على حدة أو كلّها، ليس كأسماء مجرّدة وإنما إشارات ملموسة إلى المنازل التي لا يمكن لأهلها العودة إليها. بتسمية هذه الأماكن المفقودة، لا تعبّر هذه الأغاني فقط عن الحنين وإنّما ترسّخ كذلك وجود هذه الجغرافيا في ذاكرة العرب.”

لم يمتلك الفلسطينيون الإمكانيات الإعلامية المتوفرة للكيان، ومحرومون رسميًا من كتابة تاريخهم، واعتماد الأغاني كوسيلة توثيق هو فعل حيويّ، وبالتحديد العودة إلى الأغاني الشعبية أو المعاد صنعها على ألحان شعبية، التي تتميّز بسهولة الحفظ والتداول، للجمع ما بين إنهاء الاحتلال كغاية سياسية، والغرض الثقافي البحت وهو الحفاظ على شعور بالأمة الفلسطينية التاريخية في ظلّ المحو الذي تتعرض له من طرف الاحتلال.

لذلك لطالما استخدمت إسرائيل الأفلام السينمائية لرسم صورة الضحيّة التي تبرّر موقفها في الغرب، لوعيها بفاعلية الفن، بالإضافة إلى ملاحقة المغنين الفلسطينيين، فهي ما فَتِئَت تمنع التظاهرات الموسيقية الفلسطينية العموميّة خوفًا من إثارة الشارع.

الغناء أيضًا مواجهة للهيمنة الإسرائيلية. يفسّر الفيلسوف الإيطالي جرامشي أنّ “الهيمنة” هي قبول الناس واقتناعهم لحكم طبقة معينة دون حاجة الحاكم إلى استخدام العنف طول الوقت، لذلك فسؤال: “من نحن” الذي يطرحه الشعب الفلسطيني من خلال الأغاني هو تقويض لسلطة وهيمنة المحتل.

تكمن قوة الأغاني أيضًا في قدرتها على تشكيل تصوّر الناس ووعيهم بذاتهم وبالمجتمع. شهدنا ذلك على الأرض في فترة الانتفاضة، مع أشرطة الأغاني التي كانت تجد طريقها للوصول إلى الضفة الغربية رغم الرقابة الإسرائيلية، حين شكّلت جسرًا للتواصل بين سكان غزة وسكان الضفة، ووسيلة لنقل الأخبار والتشجيع على النزول للشارع ضد الجيش المسلّح، كما أتاحت لهم فرصة ابتكار أفكار واستراتيجيات جديدة.

يتوق الإنسان إلى الفن ويتفاعل مع النغم والإيقاع، فالغناء الجماعي للحشود على نفس الإيقاع يعطي إحساسًا بالتضامن ووحدة في الهدف والتاريخ والهوية، وهذا ما أدركه بالفطرة أطفال غزة عندما أنشدوا عهد الله ما نرحل، من كلمات الغزّاوي صلاح الدين الحسيني المولود في عام استشهاد عز الدين القسام، وألحان مهدي سردانة، الذي كان طفلًا مثلهم عند وقوع النكبة.

المزيـــد علــى معـــازف