.
وصل إلينا عبر السوشال ميديا شاب يمني يمسك عوده بلا مبالاة تعبر عن احترافية عالية، يخزّن حفنة قات في خده تصنع انتفاخًا كبيرًا، ويغني بسهولة بأحرف واضحة وصوت رخيم يتنقل به بين الطبقات بسلاسة. يرتدي الزي الشعبي اليمني وسط تجمع شبابي يتسلطن معه، ولا يتوانى عن إرسال تعليقات ساخرة أو تحيّات مع الجمهور بين مقطع وآخر. اسمه حمود السمه.
تشعرك الجلسة منذ اللحظة الأولى أنك جزء منها. يتملكك اللحن، تمسكك اللهجة وتراكيب جمل لا تشبه التراكيب التي تعودنا عليها في الأغاني؛ جلّها مفهوم لأنه مأخوذ من الفصحى. ببساطة تنسجم وكأنه لون غنائي تعرفه ومعتاد عليه جيدًا. تكمن قدرة حمود السمه هنا.
ينطبق جميع ما ذكر على كثيرين من مغني اليمن الشباب والكبار، إتقان في عزف العود وكلمات جيدة، لحن جميل وصوت جميل، وأيضًا الغناء في جلسات شعبية. لكن الفرق في شخصية حمود أكثر منها في فنه؛ روح حيوية وملولة، فرحة وبائسة دون دراما وأحيانًا بسخرية، وكاريزما الشخص غير المكترث بصورته ولا بوجوب استعراض صوته وعزفه.
يسلطن حمود تدريجيًا. فقط عندما يرتفع مزاجه هو يمكن أن يبدأ باستعراض طبقات صوت واحترافية عزف. لا يفعل ذلك ليلفت النظر بل لأنه انسجم بالحفل وبدأ يتحكم في مزاج الحاضرين، وحان الوقت لجعل المزاج يتذبذب ثم يصعد. يفعل ذلك بخفة، إذ يُلاحَظ في نمط غنائه انتقاله بين أغنية وأخرى دون فاصل معلن، حتى تظن للحظة أنك في مقطع لحني جديد ومختلف في نفس الأغنية ثم تدرك بعد لحظات أنه انتقل لأخرى. تشبه قدرته على اختيار الأغنية التالية قدرة الدي جاي الماهر على التنسيق، ما يجعلك كمستمع وكأنك تقرأ نصًا جيد السرد فلا تستطيع التوقف.
هكذا تعرفنا على حمود السمه وأحببناه، ثم بدأ صيت الشاب اليمني يشيع في أوساط كثيرة من البلدان العربية. في البداية كان عصيًّا علينا أن نعرف عنه أو نحصل على تسجيلات له ما عدا بضع جلسات في مناسبات يمنية اجتماعية، لكنه عرف في اليمن من اسمه حمود السمه، ابن فنان يمني كبير له أثره الفني في اليمن والخليج العربي، وربما عربيًا، علي عبد الله السمه.
حسب قوله في مقابلة بودكاست كان صعوده في اليمن بسبب غنائه أغاني والده، التي قدمت له سلمًا من إرث يستطيع الاتكاء عليه ويغني ما يحلو له منه. أما حضوره خارجها فكان عبر أغنيته الخاصة ما قلت لي مشتاق أشوفك، من كلمات أبو هاجس الهروبي وألحان خالد محرم. تتالت بعدها أغانيه مرورًا بأغنية أنت روحي كلمات عبد الرحمن التاج وألحان محمد التاج. التي شكّلت نقلة أخرى في شهرته وانتشاره.
جاءت الشهرة لحمود ولم يطلبها؛ وربما كان بابًا لشهرة غيره من مغني اليمن من جيله أيضًا، إذ مع انتشاره عربيًا أصبح هناك نهم للبحث عن الجلسات اليمنية والتعرف إلى هؤلاء المغنين وفنهم، لكن ما الذي أحضرته الشهرة معها لحمود؟
بدأت شهرة حمود بما هو عليه من بساطة جميلة يصعب تقليدها، وكاريزما خاصة ولو كان غيره يمارسها، تكون فيها جلسته الشعبية العفوية مكوّنًا أساسيًا من روح فنه. كذلك مضغ القات. لكنه يحمل إرثًا كبيرًا ومسؤولية جعلت كثيرين بحسب ما يعبر ينتقدون هذه الروح تحديدًا وينتقدون مضغه القات. بالإضافة لأن هذه الشهرة نقلته إلى مستوًى جديد من الفن، لم يعد الفنان المعروف على مستوى بلده فقط ويغني في الأعراس، بل أصبح الفنان اليمني العربي الذي لديه معجبين كثر في كل مكان وقاعدة جماهيرية تسميه الملك.
وصل الشاب الآن إلى مرحلة انتقالية فاصلة. أذعن للنصح فيما يخص القات فحرص على خلو جميع فيديوهات قناته الخاصة منه، ويقول في مقابلته أنه لن يستطيع السيطرة على ما يخرج من تسجيلات للحفلات في اليمن، لكنه يحاول الإقلاع عمومًا. ليس لأنه خطأ لكن لأنه يذعن لانتقادات جمهوره بعدما انتقل للعيش في سلطنة عُمان.
كذلك بدأ بتحويل شكل الأغاني إذ تجد على قناته فيديو كليبات قليلة لا تشبهه في شيء، مثل أغنية اشتقت لك أمس واليوم، وأغانٍ أخرى بمونتاج بسيط يعتمد على استعراض صور للفنان كما عودونا مونتيرية اليمن. الأبغض ما تجده من جلسات كل ما فيها ديكور، تشبه الجلسات التي روجت لها وناسة، خالية من الروح تمامًا استطاعت أن تقتل حفلات فنانين قدمهم ثابتة على تاريخ طويل مثل كاظم الساهر ومحمد عبده؛ ولو أن هذين الاثنين أصلًا سمتهم الرتابة، أما حمود فهو أقرب لعشوائية ولا مبالاة أبو وديع وأبو مجد، وتجري الآن سرقته لصالح الرتابة والرزانة والانضباط، الأشياء التي تخنق روحه.
ربما لا يستطيع حمود إدراك مآلات الطريق التي بدأ السير فيها. ربما نحن كذلك لا ندرك، فالشاب بالنهاية لديه كل المقومات الفنية من صوت وكلمات وألحان وإحساس، ولا يمكن الحكم بأن ما ظهر لنا منه هو ما يحقق له الثبات في النجاح ومحبة الجمهور. كما تفرض الضرورة أن يتطور من حيث الشكل الفني، لكن المشكلة أن البيئة التي خرج الشاب لنا منها جميلة بما هي عليه، وتجرد من جمالياتها ما أن يبدأ العاملون في قسم الإخراج الفني محاكاتها بدل توظيفها، بقصد التأديب، وأيضًا تنزع شخصية الفنان ما أن يبدأوا من حيث انتهى العالم بإصدار فيديو كليب بالشكل البدائي للكليب دون اعتبار شخصية الفنان وكاريزمته.
ما الممكن فعله لإنقاذ حمود من خنقه بهذه المسارات؟ إن ذهبنا إلى مصر أو لبنان نجد فيهما عاملين يستطيعون الحفاظ على شخصية الفنان خلال تطويرهم لشكل عمله مثل الشيخ إمام ومحمد فؤاد نجم وأبو وديع وأبو مجد. لم يكن هؤلاء مهندمين ولم يخضعوا للرتابة لأن شخصياتهم عصيّة عليها. استطاع العاملون معهم الإبقاء على روحهم حاضرة رغم استدخال بعضهم في مسارح لا تقبل الشغب وإدخال بعضهم عالم الفيديو كليب بصفته مادة تخدم الأغنية فقط لا مادة تشكل طريقًا لها.
هذا بالضبط ما يحتاجه حمود، شخص يفهم أن روحيته ومزاجه وسلطنته ليسوا تقنية فقط بل فيهم إحساس من شخصيته في الغناء هي ما تجعله من هو، ونزعها عنه يجعله مقيّدًا غير قادر على التحكم بمزاج المستمع وسلطنته.