.
أعلنت شركة ذَ بلانرز المنظّمة لحفل مروان بابلو في إسكندرية (كان من المفترض إقامة الحفل في ١٨ مارس، لكن تم تأجيله لسوء الأحوال الجوية) عن تحديد منطقة وردية لمن ترغب من الحاضرات. تقع المنطقة الوردية في جهتين، الأولى لحضور الـ VIP وهي دائرة مغلقة يسار المسرح، ودائرة ثانية في مقدمة الحضور العاديين. بالإضافة لذلك، أعلنت الشركة عن توفير فرق خاصة لمكافحة التحرش بين الجمهور، وأبراج مراقبة لمتابعة الحفل والتواصل مع الجمهور. تأتي هذه الخطوة ضمن جهود المنظمين لتفادي حالات التحرش الجماعية التي حصلت سابقًا في الحفلات.
تبادلت أربع نساء من معازف رأيهن حول هذا الترتيب، بين الرفض والتأييد والتسليم بالواقع، اختلفن واتفقن في نواحٍ عديدة. نقدّم إليكم آراء كلٍّ من: براءة فاروق، تيما الأحمد، نور عز الدين ويارا نوّار، بالترتيب الأبجدي.
عندما قرأت الخبر ضحكت ساخرة، ثم عبست، ثم قفز لمقدمة رأسي مشهد تعرّضي وصديقتي للتحرش في المدرج الروماني خلال حفل أدونيس في عمّان ٢٠١٨، فتملكّني الغضب. لو سألتني يومها لو كنتُ أُفضَّل وجود مساحة مخصصة للبنات في حفل أدونيس لاستغربت، أدونيس؟ لماذا؟ هل سنجد ذكورًا يغنون خلف أنتوني لا بالحكي وعالخفيف؟ تبدو الفكرة عبيطة، لكن لو سألتني الآن عن ذات المنطقة الوردية في حفلٍ لـ بابلو، سآخذ وقتي في الإجابة وستخطر لي كل مواقف التحرش الجماعي التي تعرضتْ لها الفتيات في حفلاتٍ سابقة. السؤال المهم هو: لماذا نحتاج لمساحة وردية في حفل راب؟ تُعشش في المخيلة الجمعية فكرة أن الراب مساحة للذكور فقط، على الرغم من بروز أسماءٍ نسائية في المشهد من كل أنحاء الوطن العربي.
استمر الذكور بتخيّل هذه المساحة وكأنها ملكٌ لهم، والنساء دخيلات عليها. أخبرتني صديقتي عن حضورها لحفلة في كايرو جاز كلَب، كان تعليقها الأول أنه لو كان الـ Manspreading (وضعية الأقدام المتباعدة بدعوى إراحة الأعضاء التناسليّة الذكرية) حفلة لكانت هذه. تُعزِز هذه الصورة في رأسي كمّ الأحقية التي يحملها الذكور في حضورهم للحفلات التي تقام ليلًا وتحوي الكحول والمخدرات باعتبارها مجالهم العام، واعتبارهم أن الفتيات هنا لسن مقدّساتٍ كأمهاتهم وأخواتهم، لذلك، يصبح من المنطقي بالنسبة لهم التعرّض للفتيات بأي شكل، بدءًا من المضايقات اللفظية والنظرات التي تخترق طبقات الملابس، وحتى التحرشات الجسدية الجماعية والاغتصاب كعقاب على خروجهن من المجال الخاص.
يقع أمن الجمهور في المقام الأول على عاتق القانون، أي دور الدولة في حماية مواطنيها، وعلى المنظّمين اتبّاع ما ينص عليه هذا القانون. لكن أين يمكن توظيف القانون في بلدٍ يفوق تعداده الـ ١٠٠ مليون، في مساحة يرفض المجتمع أن تكون فيها الفتيات ويتم وصمهنّ بسبب ذلك، في منطقة تضع العُرف والتقاليد فوق القانون الذي بدوره يساير هذه المعادلة. الآن قولوا لي: كيف يمكنك إقناع شخص يعتدي بالنظر واللمس والشتائم على فتاة تعبر أمامه في الشارع لأنه “لم تعجبه ثيابها”، أن عليه الالتزام بقواعد أخلاقية لا يتبعها لا هو ولا أصحابه ولا أولاد جيرانه، في حفلة راب؟ تعبّر المنطقة الوردية عن أمورٍ كثيرة، أولها عجز المنظمين عن توفير الحماية للنساء في المناطق المختلطة، ورفعهم يدهم عن تصرفات الذكور، بمعنى إن اللي جاي من دار أهله مش متربي مش رح نربيه إحنا.
تراودني الأسئلة جميعها عن حقّي في الوجود في الحفلة، وترديد الشتائم خلف الرابر، والصراخ والغناء مع كلماته التي حفظتها حرفًا حرفًا لأستمتع بها، دون أن يعتقد الطرف الآخر أنها دعوة ليمرر يده وأشياء أخرى على جسدي، وكأن وجودي في هذه المساحة غرائبي ومرفوض وعليّ أن أتحمّل عواقب رغبتي بالاستمتاع. أحاول قدر الإمكان أن أُحسِن الظن فيمن قرر وضع منطقة بنّاتية، والترويج لها بصورة استهلاكية وربطها باللون الوردي تحديدًا، وكأنها منطقة تحوم فيها الفراشات وتغرّد العصافير، وليست وسط ذات الجمهور الهائج من الذكور.
لو سألتني ماذا أُفضِّل لو حضرت هذه الحفلة، ستصيبني نوبة هلع وأنا أتخيل كمّ الذكور الهائجين وهم يغنون خلف بابلو. سأختار المنطقة الوردية. سأسعى لأكون فيها أنا وصديقاتي وشقيقاتي وكل البنات، لأنها الحل المتاح الآن، لكنّي سأكون خائبة الأمل لأننا بحاجة لهذه المنطقة من الأساس، والتي تبدو شرعية وضرورية في هذا السياق. لا يمكن حرمان الفتيات من حضور الحفلات، لذا تأتي هذه الخطوة كضمادة جروح مؤقتة علينا أن نُسائِل دواعيها قبل أن نرفضها تمامًا.
أول ردة فعل إلي كانت إنه شو هالحل السطحي؟ مبدأ فصل الرجال عن النساء غريب. إنه وين إحنا؟ عرس بنت خالتي سماح؟ ما الناس هلأ كانوا في نفس الشارع، وصافّين في نفس الباركنج، واقفين على نفس الطابور.
زعجتني فكرة إنه النساء كلهم مجموعين في منطقة واحدة، متاحة لأعين الرجال. التحرش مو بس باللمس. لما نفصل النساء عن باقي المساحة، بتعزز إحساس عند الرجل، تأصّل من فصل المدارس والمواصلات والمساحات العامة، بإنه النساء بعاد وغير متاحين. النساء بيتحولوا من أشخاص إلى أفكار وببطلوا بشر. هذا الشي قاعد بشتغل ضد هدف المناطق الوردية، لإنه أسهل تئذي وتتحرش بفكرة.
الفصل برضه رح يعزز خطاب لوم المرأة على التحرش، والكلام تبع “شو كنتي لابسة؟”، “شو طلّعك آخر الليل؟”، “شو وداكي على هاي المنطقة؟” بنزاد عليه “عندك منطقة زهرية، شو جابك عند الشباب؟”
وبحس المنظمين مستعدين يطلعوا بألف فكرة، على إنهم يصرفوا مصاري ويشتغلوا على آلية فعالة ضد التحرش، متل إنهم يوظفوا طاقم عمل كافي للتعامل مع أعداد كبيرة من الناس، ومدرّب بشكل خاص على مكافحة التحرش.
المناطق الوردية حل مؤقت لمشكلة كبيرة محتاجة كثير شغل. بس عالأقل الجماعة بحاولوا. لإنه بعد ما دققت ببوست بابلو الأصلي، شفت إنه ماخذين إجراءات زيادة غير المناطق الزهرية، مثل أبراج مراقبة، وفرق خاصة للتعامل مع التحرش بين الجمهور. على الأقل صار فيه اعتراف بوجود مشكلة، ومحاولة إيجاد حلول.
بهمني أشوف نساء مرتاحات أكثر، يقدروا يتفاعلوا مع الموسيقى اللي بحبوها، ويغنوا ويرقصوا براحة أكثر. هذا خفف حدّة موقفي من المساحات الوردية. على أمل إنه الحماية من التحرش ما تكون معتمدة وراكنة على المنظمين والفنانين فقط، ويكون في حلول جذرية على مستوى النظام والدولة. وعلى أمل ثاني، إنهم يبطلوا يستخدموا اللون الوردي لكل إشي إله علاقة بالنساء. من شو بيشكي اللون الأصفر؟
أن تعيش بجسد امرأة في مصر، أمرٌ صعبٌ جدًا. ليس فقط لأن نسبة التحرش مرتفعة، التحرش مشكلة واحدة من أشكال العنف القائم على النوع الاجتماعي الذي تتعرض له النساء المصريات. عادةً ما يأتي بصحبة عنف اقتصادي، ونفسي معنوي، وممارسات تقليدية مؤذية تجعل من حياتهن أكثر صعوبة. التعامل مع ظاهرة مثل التحرش موضوع غير سهل أيضًا، لدرجة غاب عن منظمي حفل مروان بابلو موضوع التفكير من وجهة نظر الضحية، بل سعوا إلى حمايتها على طريقة “وهيَّ إيه الي خرجها في ساعة زي دي” وتخصيص بقعة مخصصة لنوعها.
يرجعنا هذا الحل إلى الوراء، ويفرض الخوف والارتياب، لتنظر النساء إلى أنفسهن كفريسة، عليها البقاء في الجانب الآمن، ولا يحق لها الاختلاط مع البعبع الرجل. على الرغم من كل المسافات والأشواط التي قطعتها النساء المصريات، دائمًا ما يُقلّل من شأنهن، ويُعاملن كضحايا يجب فصلهن ومراقبتهن، لأن جندرهن لا يسمح بالدفاع عن أنفسهن، أو تلقين المتحرش درسًا لن ينساه.
عندما قرأت الخبر، تذكرت فيلمًا وثائقيًا عن فتاة إسكندرانية اسمها زبيبة احترفت رفع الأثقال. تُرجم العنوان من عاش يا كابتن إلى Lift Like A Girl بالإنكليزية، ليعطيها أحقيتها كفتاة ترفع الأثقال. ماذا سيحصل لو عرفت زبيبة أنهم فكروا بفصلها في دائرة وردية كي لا تتعرض للتحرش؟
تذكرت أيضًا سنة ٢٠١٣ خلال المظاهرات في ميدان التحرير، كيف امتدت يد من تحت سترة صديقتي الصفراء التي كتب عليها ضد التحرش لتلمس أردافها. أذكر صراخها بكل قوة، ومحاولات الناس البائسة لملاحقة المتحرش الذي تحول إلى قردٍ غاضبٍ وخائف يقفز في كل مكان حتى تمكن من الهروب. أما هي طلب الناس منها العودة إلى المنزل لتحمي نفسها “روحي بيتك”. كانت الملايين وقتها تتوافد إلى ميدان التحرير، والدعوات إلى النزول ملأت القاهرة، لكنهم طلبوا منها الرحيل، وكأن التحرش جريمتها هي.
أخبرني أخي بحماس عن موعد حفل مروان بابلو الجديد في الإسكندرية، وشاركني خططه لشراء تذكرته وتغيير موعد عطلته الأسبوعية. أخبرته بأنني أفكر بالذهاب فعلّق “بلاش” مشيرًا إلى حوادث التدافع والتحرش في الحفل الماضي. سيحضر الحفل على أي حال فهو لم يتأذَّ، لكن الأمر ليس آمنًا للبنات. انزعجت، لكنني تفهّمته.
تمثل البنات جزءًا كبيرًا من جمهور الراب في العالم العربي، خاصة لدى رابرز الصف الأول في مصر مثل بابلو وويجز. وبابلو بيكاسو نفسه مع “الليديز”؛ يريد أن يستمتع جمهوره النسائي بالحفل بشكل آمن. لن يستطيع أن يكون إسكوبار مع الأخصام هنا، فالصراع طويل ومرهق ولن يقدر عليه وحده. لكن من خلال منظمي حفله، سيوفر لليديز مناطق “وردية” ليستمتعوا بالحفل بمعزل عن خطر التدافع والتحرش من باقي الجمهور.
أخافتني هذه الفكرة أكثر من امتعاض أخي من حضوري الحفل، وبرغم سخافة الاسم وعبثية حضور حفل راب وترديد كلمات غاضبة وأنا واقفة في منطقة وردية لحمايتي. شعرتُ بعجزٍ تام. عجز عن حماية نفسي وعجز المنظمين عن السيطرة على الحضور وحماية المعرضين للأذى. وجود بنات خارج البينك سيركل كابوس آخر. لم تقتحمين “مساحتنا” بينما لك مساحة مخصصة اتفقنا أنك لن تتخطيها؟ يقلقني التفكير في عملية خروج ودخول البنات من وإلى البينك زون وأتمنى أن يهتم المنظمون بذلك. أظن أن أغلب من ستخترن حضور الحفل خارج الدائرة الوردية هن من ستذهبن برفقة أصدقاء ذكور ممّن سيحضّرون أنفسهم ويتكفلون بحماية صديقاتهن. هنا نعود لنقطة البداية؛ منع الأذى لن يتحقق إلا بردع المتحرش، ليس بوضع الضحية المرتقبة في منطقة مسيجة للحد من الخطر.
النية من الفصل الجندري حسنة، لكنها تبرز واقع عجزنا عن حماية الطرف الأضعف في مساحة عامة يهيمن عليها الذكور. ما أعتبره خطة جيدة هو إعلان المنظمين عن إجراءات مصاحبة للبينك زون مثل مجموعات مكافحة تحرش وأبراج مراقبة لطمأنة الفتيات من جهة ولتخويف المتحرشين من جهة أخرى. على الأقل، سيعرف من سيحضر الحفل مسبقًا أن سلوكه مراقب بنسبةٍ ما ولن يُسمح له بأن يؤذي غيره. لكن التنفيذ؟ لا يسعنا إلا أن ننتظر الحفل نفسه. قد تحمي هذا الإجراءات بعض الفتيات من تروما التحرش، لكنه حل مؤقت، ولا يبدو لي فعالًا على المدى الطويل.