.
دائمًا يتم تصنيف فريق تليبويتيك على أنه أحد فرق “البوست روك” بسبب ظهور أعضائه كثلاثي وخلو أغانيهم من الغناء، واعتماده فقط على الآلة وبعض المقاطع المطولة والمتكررة في أغانيهم. عدم دقة هذا التقييم اتضحت من خلال العرض الحي للفريق بمسرح الفلكي في الثالث والعشرين من شهر يناير. من ناحية الصوت، خرج خاليًا من المؤثرات الصوتية على الدرامز والباص واكتفى فقط بمؤثر الأوكتافر (octaver) والديستورشن (distortion). أما الجيتار فجاء بدون مؤثرات في ما عدا الأوفردرايف (overdrive)، وبدون تغيير في صوته (modulation) في معظم الأحيان وإن اعتمد على التردد (reverb) في بعض المقاطع، لتخرج موسيقاهم محددة ودافئة (warm) ولا تعتمد على الكثير من الطبقات الموسيقية والمؤثرات مثل ما يسمى بالبوست روك. ولمساعدة المستمع ولتبسيط موسيقى تليبويتيك، من الممكن أن نلجأ إلى تصنيفهم كفريق روك ذي صوت أصيل، يعتمد في موسيقاه على الأجهزة الإكترونية والتكنولوجيا الرقمية لإبراز الكثير من الأصوات غير المألوفة، ويأتي هذا من خلال البرنامج الذي يستعين به أحمد صالح كسنثسايزر.
اعتمد الفريق في عرضه على العرض البصري عن طريق تجهيز في الفراغ (installation) على شكل حرفي I و L تنعكس عليهما صور متحركة مجردة لألوان وأشكال على مدار الحفل خلقت حالة من الانسجام تخدم الموسيقى وتخرج التجربة بشكل متكامل. ذلك بالرغم من حضور الفريق الضعيف وعدم تفاعله مع الجمهور الذي قد يراه البعض عيبًا. أما بالنسبة للموسيقى فقد قام الفريق بعزف أغاني من اسطوانتهم الأولى “انسحاب” الصادرة نوفمبر الماضي، كما لعب بعض المختارات الجديدة. جاء اختيار الأغاني موفقًا واتّسمت الموسيقى في المجمل بالحيويّة (dynamic) من خلال مقاطع صاخبة وهادئة، عمودها الأساسي هو قسم الإيقاع المتمثل في آلتي الباص والدرامز اللذان يقوم بدورهما محمد دسوقي وأمير رزق. افتتح الفريق الحفل بأغنية “نادي السينما” التي تظهر دور قسم الإيقاع ويتزامن معه السنثسايزر الذي يقوم بعزف النغمة الرئيسية بصوت مشبع بالضجيج، ثم يقوم بعزف تنويعات. ومن الملاحظ منذ بداية الحفل خروج الموسيقى بشكل أفضل وأكثر حيويّة وأضخم من صوت الاسطوانة، كما يقوم أحمد صالح عازف الجيتار والسينثسايزر بالخروج عن إطار الألبوم والارتجال أثناء تأديته للتنويعات. وعلى ذكر السنثسايزر، فقد جاء صوته في بعض مقاطع الأغاني حادًا غير دافئ وأضعف من صوت قسم الإيقاع، وذلك نظرًا لمحدودية صوت السنثسايزر الرقمي الصادر من الحاسوب (soft synth) مقارنًة بالصوت القياسي (analog). ومن الممكن ملاحظة ذلك في الأجزاء ذات الترددات والرنين العالية (high frequency and high resonance) في أغاني “نادي السينما” و“انسحاب” و“كوزلوك“.
نادي السينما (عرض سابق)
يتخلى الفريق في الكثير من الأغاني عن النغمية (tonality) ليؤكد على عدم تقيده بالصوت الكلاسيكي المتمثل في السلالم الكبيرة والصغيرة (major & minor scales) وبحثه الجاد عن صوت جديد، حيث يخرج بتلقائية دون افتعال في أغنيتي “نفق” و “Unicorn”. وبالتوازي مع هذه السمة يهتم الفريق أكثر بجرس النغمة والعذوبة (texture and timbre) وهما من أهم سمات الموسيقى الحديثة. كما من الملاحظ تحرر الفريق من فكرة العازف الماهر (virtuoso) القادر على إبهار المشاهد بتمكنه التقني الشديد من آلته وعزفه المنفرد، ليكتفي فقط باستخدام الآلة كوسيلة لإخراج موسيقى ذات صوت مميز ومتماسك (tight). لم يسقط هذا التماسك والصرامة إلا في أغنية “27 يوليو” التي خرجت بشكل متواضع. تتساوى جميع الأدوار في الفريق أثناء أداء الموسيقى حيث لا يطغى دور عضو على آخر. تظل بذلك جودة الصوت وبناء الأغاني وخلوها من الكليشيهات والحيوية السمات السائدة للفريق، وإن جاءت النغمة الرئيسية وتوالي دائرة التآلفات (chords progression) في أغنية “نوفا” مألوفة إلى حد كبير.
Unicorn (عرض سابق)
تعد “كوزلوك” من الأغاني التي يجيد الفريق عن طريقها التحكم في الضجيج وبلوغ صالح أقصى حدود صوت السينثسايزر. كما يظهر الباص كأصل للنغمة الرئيسية بدلًا من الجيتار كما جرت العادة أو السنثسايزر، وهو الدور الذي يقوم به أيضًا في أغنية “كوش“. تأتي أغنيتي “انسحاب” و“التانية” كأفضل لحظات الفريق أثناء الحفل. جاءت الأولى عنيفة وموترة وذلك بفضل الباص الصاخب وضجيج السنثسايزر اللذان يبدآن الأغنية بدائرة تآلفات سداسية (diminished). صوت الأخير قادر على جذب الانتباه ووضع المستمع في حالة من التشويق والترقب للجزء الذي يليه. يقوم صالح بعزف منفرد غير تقليدي ومجرد عن طريق التحكم في المذبذب المنخفض التردد (low frequency oscillator). ذلك على خلفية صوت لحن رتيب (drone) شبيه بالهاموند أورغان والقسم الإيقاعي الذي يشكل عمود الأساس لهذا المقطع الذي خرج على قدر جيد من الحرفية، خالقًا مساحة واسعة لأمير عازف الدرامز للارتجال عليه. أما “التانية” فتعتمد على لحن رتيب في بدايتها وعلى تناسق الباص والدرامز، ومن الملفت النقلات والتنويعات المفاجئة والغير متوقعة من مقطع إلى آخر والتي تبرز دور الجيتار.
التانية (عرض سابق)
خرج الحفل بشكل جيد سمعيًا وبصريًا، وإن كان من الممكن أن يخرج بشكل أفضل لو كان قد أقيم في مسرح يتّسع لوقوف الحاضرين بدلًا من جلوسهم الذي خلق حالة من الصمت والترقب بين الأغاني وعدم تفاعل واضح أثنائها.
ولمزيد من التقييم لتجربة الفريق في المجمل كان لي الحظ أن أجري مقابلة معهم بعد الحفل للتعرف أكثر على رؤيتهم لموسيقاهم وعلاقتهم بالفن البديل والجمهور وبآليات الإنتاج ومواضيع أخرى:
رامي: لست مع تصنيف موسيقاكم بشكل عام لذا أود أن أعرف كيف تعرّفونها وتعرفون هويتكم الموسيقية، وهل أنتم مع تصنيفها؟
صالح: لا نرى أن هناك تعريف أو تصنيف معيّن لموسيقانا ونحن غير معنيين بذلك حيث نجد أنفسنا متحررين من فكرة التصنيفات الموسيقية. لكن مع الأسف يسعى الجمهور إلى وضعنا في قالب أو إطار معين، الكل على حسب وجهة نظره. ويصل الأمر إلى بحث الجمهور عن أوجه التشابه بيننا وبين فرق أخرى عالمية.
دسوقي: أجد ميزة في اختلاف الجمهور حول تصنيف موسيقانا، بمعنى أن موسيقانا تفتح مجالًا واسعًا للجميع لرؤيتها وتقييمها من منظور يختلف من شخص إلى آخر. وبذلك نرى أن موسيقانا تخرج دون قيود أثناء تأليفها الذي يتم من خلال الارتجال الحر، وبدون هوية محددة، وهذا في حد ذاته هوية. لا يوجد اتفاق على التصنيف من قبل الجمهور، البعض يطلق على موسيقانا “الكترونيكا” والآخر “بوست روك“، ويتم تشبيهنا أحيانًا بماسيف أتاك أو بينك فلويد ويصل الأمر إلى مشروع ليلى! في نهاية الأمر لا يوجد لدينا نظرة مسبقة لكيفية خروج موسيقانا، فقط نقوم بالارتجال وتتولد الأفكار بصورة تلقائية.
رامي: من خلال مشاهدتي لكم أرى تساويًا واضحًا في توزيع الأدوار بينكم كأعضاء للفريق ولا يحتكر عضو معين مساحة أكثر من الآخر، هل ترون فكرة العازف الماهر (virtuoso) قد انتهت؟
صالح: نحن غير مهتمين بالفعل بوجود عازف ماهر يقوم بإبهار المشاهد والمستمع، لا أسعى إلى إبراز تمكني التقني من الآلة بقدر ما أهتم فقط ببساطة العزف وجودة وعذوبة الصوت.
دسوقي: أتعامل مع آلتي كمصدر للترددات المنخفضة، هذه طبيعة الفريق، نتعامل مع الآلة كوسيلة لإصدار صوت معين، والأهم هو المنتج ككل وليس حرفية الآلة.
رامي: هل ترون أن موسيقاكم نخبوية إلى حد ما؟
صالح: يعتقد البعض ذلك وأننا نكتفي فقط بالظهور في الأماكن “الثقافية” ولكن هذا ليس حقيقي فإننا نحاول بقدر الإمكان أن نخرج عن الأماكن النخبوية المتعارف عليها ولا نخص بموسيقانا فئة أو جمهور بعينهم وهى مطروحة للجميع في النهاية.
دسوقي: معظم الفرق المستقلة تحدد نفسها داخل اطار معين ولكني لا أرى فريقنا جزء من هذا الإطار المحدد. أرانا أكثر انفتاحًا على الجمهور وجميع الدوائر ولا نتبع مجموعة موسيقية أو فنية ما.
صالح: نهتم فقط بنظام الصوت في المكان الذي نقيم فيه العرض الحى ولكننا لا نفكر قي نخبوية الجمهور والمكان.
رامي: هل تعملون في موسيقاكم على أفكار أو مواضيع معينة؟
صالح: لا نتبنى أى موضوع أو فكرة وعدم وجود مغنٍ بالفريق يساعدنا على التحرر من ذلك.
دسوقي: من مميزات الفريق أننا نكتفى بكوننا عازفين، ولا يوجد مغنٍ أو واجهة للفريق تقوم بتوجيه وتقييد الفريق في طريق معين. حتى وإن عثرنا على مغنٍ سنكتفي بتوظيف صوته كآلة وكطبقة موسيقية تخدم موسيقانا. أرى أن فكرة الواجهة (front man) قد انتهت تمامًا. فقد انقرضت فكرة جيم موريسون، والمغني الذي يقوم بالسكر والرقص على المنصة متفاعلًا مع جمهوره.
رامي: هل تعتقدون أن الموسيقى أو الفن عامةً يجب أن يتقيدا بأيدولوجية أو من ناحية أخرى تقديم رسالة ما إلى المتلقّي؟
دسوقي: ليس من اهتمامنا توجيه الجمهور ونحن ضد أن تأخذ الموسيقى أو العمل الفني منحنى أخلاقي أو أيدولوجي. رسالتنا هي تقديم الموسيقى للجمهور ليس إلا، فقط موسيقى من أجل الموسيقى.
صالح: الكثير من الفرق المستقلة يستغل الأيدولوجيا أو الرسالة لتساعدهم على الانتشار بين الجمهور. أرى أن تبني رسالة أو أيدولوجيا ما يقوم بتقييد الفنان، ومن الأوقع والأفضل تقديمها من خلال عمل أدبي أو مقال وليس من خلال الموسيقى.
رامي: كيف تقيمون مشهد الموسيقى المستقلة بمصر؟
صالح: أرى مشهد الفرق “المستقلة” محبط إلى حد كبير. أتذكر حينما ذهبت في إحدى المرّات إلى وسط المدينة بالقاهرة لمشاركة أحد الفنانين في مشروع موسيقى، واتضح لي من خلال مجتمعه ودوائره الفنية أن هناك شكل سائد بداخل الوسط المستقل. يعتمد الموضوع بشكل كبير على العمل على نوع وأفكار موسيقية سائدة في السوق، تلك التي يريد أن يسمعها جمهور الموسيقى المستقلة. فيقوم الموسيقي بالعزوف عن ما يريد أن يلعبه والسعي وراء القالب الموسيقي السائد. كما من الملاحظ وجود عدد لا بأس به من الفرق التي تقوم بتقديم فن به موعظة وإرشاد للجمهور.
دسوقي: أرى أيضًا أن الموضوع محبط ومثير للاستفزاز بسبب الفرق التي ظهرت بعد الثورة التي تقدم من خلال موسيقاها رسائل إلى المستمع وتتبنى خطابًا أخلاقيًا ومواضيع عن القيم والأمل. أرى أن هناك نوع من الاستغلال لحدث الثورة وإن كان البعض يفعل ذلك بدافع الحماسة.
صالح: فكرة “الاستقلال” نفسها أصبحت تجارية، حيث يتبنى المنتجون والمخرجون الكبار والمسلسلات والأفلام والإعلانات الفرق المستقلة، وبذلك من الملاحظ أن الفن المستقل تم احتوائه داخل المنظومة التجارية. ذلك ما دفع الكثير من الفرق إلى الظهور في بداية الأمر بشكل “مستقل” كخطوة انتقالية قبل أن يصيرون تجاريين وينتشرون بشكل أوسع، وهذا ما يحدث الآن بالإسكندرية.
رامي: ما تعليقكم على وجود أزمة بالأماكن التي تقوم بتقديم عروض الموسيقى المستقلة؟
صالح: الأماكن المتاحة بالإسكندرية قليلة جدًا وشبه منعدمة، لا يوجد إلا أماكن قليلة، مثل مكتبة الإسكندرية حيث البيروقراطية والسياسة والتعامل مع الحكومة، بالإضافة إلى كونها محافِظة وغير مجهزة تقنيًا من حيث الصوت. أما بالنسبة للقاهرة فالأماكن محدودة أيضًا والدوائر منغلقة على نفسها ومن الممكن توقع نوعية وعدد الجمهور الذي سيحضر حفلة لنا في مكان ما بالقاهرة نظرًا لتشابه تلك الأماكن بدوائرها التي تفرز في النهاية نفس الجمهور.
دسوقي: يجب أن تنفتح الدوائر على بعضها وتخرج من إطار كونها منغلقة، معظم المشهد يدار بمنطق “ظبطني وأظبطك“، وبالتالي تكون النتيجة هي عدم تغيّر وتنوع الجمهور والانحصار في نفس الدوائر. ومن خبرتنا، أحد الأشياء التي تقوم بكسر ذلك الانغلاق هي الحفلات التي تقام في الشارع على سبيل المثال.
صالح: تقوم المهرجانات أيضًا بنفس الدور، حيث يكون الأمر أكثر تنوعًا نظرًا لإقبال جمهور متعدد على العروض المختلفة للمهرجان الواحد. ومن الجيد أنه هناك مهرجان يقام سنويًا بالإسكندرية منذ عامين، وإن كانت إمكانياته محدودة وبه مشاكل التقنية.
رامي: على عكس المألوف تخرج موسيقاكم أثناء العروض الحيّة بشكل أفضل من الاسطوانة. هل تتفقون مع ذلك؟ وماذا عن قلة وجود موسيقاكم على الإنترنت؟
دسوقي: نعم أتّفق، لا تتمتع الاسطوانة بالحيوية الكافية مثلما نشعر من خلال عروضنا الحيّة. لم نستطع إخراج أفضل شئ وبالفعل تسرعنا في التسجيل.
صالح: هناك تحفظات لدينا على إنتاج الاسطوانة ولكن نُرجع ذلك إلى عدم قدرتنا على التواصل مع مهندس الصوت. كما تعد تلك الاسطوانة تجربتنا الأولى ومع الوقت نكتسب خبرة أكثر. أما بالنسبة لقلة وجود موسيقانا على الإنترنت فيرجع ذلك إلى تقيدنا بعقد مع شركة الإنتاج التي تملك حقوق التوزيع. لا يوجد مانع من قبل الشركة لرفع موسيقانا على الإنترنت ولكننا نراعي تلك النقطة بما أن الشركة كانت راعياً لنا وساعدت الفريق جديًا في ظهور الاسطوانة الأولى.
رامي: هل ترون أنه من الواجب على الجمهور تقديم مقابل مادي في سبيل الحصول على موسيقاكم؟
دسوقي: نعم نرى ذلك، ليس على سبيل تسليع الموسيقى والتعامل معها من نفس منطلق الموسيقى التجارية، ولكن بغرض التقدير ومساعدتنا على الاستمرار والإنتاج. لذلك فإن الجمهور والمسارح والأماكن لهم دور كبير في استمرارنا في مهنتنا كموسيقيين حتى نستطيع بدورنا التواصل معهم.