.
أصبحت عمليّة اقتناء وتأليف وتسجيل الموسيقى متاحة للجميع في السنوات الأخيرة. إذ صار من الممكن لأيّ شخص امتلاك ستوديو منزلي يمكن عن طريقه تسجيل وإنتاج وتسويق وبيع موسيقاه على الإنترنت. يحتاج الشخص فقط إلى اتّصال بالانترنت، وأحد البرامج الرقمية لتسجيل الموسيقى وبطاقة صوت خارجيّة ومكبرين للصوت. أدّى ذلك إلى شيوع الموسيقى من حيث تأليفها وإنتاجها وعزف آلاتها الافتراضيّة، إلى جانب اقتنائها عن طريق القرصنة أو شرائها بسعر زهيد في نفس يوم إطلاق العمل.
تعدّ هذه العملية من الأمور المسلّم بها، ولكن قبل أن نصل إلى مرحلة شيوع الموسيقى من خلال أكثر صورها الافتراضية على جهاز “آي بود” أو الحاسوب، علينا أن نتعرّف على المراحل المختلفة التي مرّت بها طرق اقتناء وتسجيل الموسيقى.
سيعرض هذا المقال، بانتقاء، لبعض تطوّرات التكنولوجيا واستنتاجات حول تأثيرها على الموسيقى المسجلة، من حيث تلقّي الجمهور لها وتشكيل الذوق العام والمساعدة في ظهور جماليّات جديدة ومدارس ومشاهد موسيقيّة وظهور صوت خاص لكل حقبة زمنيّة، بالإضافة إلى مدى قدرة الموسيقى المسجلة (الصورة) على محاكاة الواقع ومطابقة العزف الحي أو الصوت الذي تم تسجيله بالاستوديو (الأصل). كما سيخوض في بعض المواضيع الأخرى: كالفروق بين صوت صيغ (formats) الموسيقى المتعددة، القياسي منها والرقمي.
تعد الذاكرة قبل ظهور فونوغراف إديسون العام 1877 هى الصيغة الوحيدة التي اعتمد عليها المستمع لاسترجاع الموسيقى. لذلك عندما ظهر الفونوغراف، كان الحدث نقلة ثوريّة بحد ذاتها في تاريخ الموسيقى، إذ أن تطوّر الموسيقى قبل ظهوره اعتمد على تطوّر قواعدها ونظام كتابتها (notation)، وعلى هندسة أماكن عرضها وتطوّر آلاتها وتوظيف هذه العوامل من قبل الموسيقيين لينتج عنها مدارس مختلفة. هنا يمكننا فهم الفارق الواضح، على سبيل المثال، بين موسيقى سباستيان باخ وريتشارد فاغنر. ومع دخول الفونوغراف تم إضافة عنصر التكنولوجيا كمطوّر أساسي للموسيقى وبداية لصناعتها.
اعتمد الفونوغراف في البداية على اسطوانات الشمع وكان جهازًا ميكانيكيًا، وفي نهاية القرن التاسع عشر انتشر الجهاز على نطاق أوسع ليظهر منافس جديد للفونوغراف والمعروف بالغراموفون الذي صممه إيميلي برلينر وروّجت له شركة فيكتور توكينغ ماشين، أو آر سي إيه فيكتور في ما بعد. اعتمد الغراموفون على نفس مفهوم التشغيل —مع وجود بعض الفروق— ولكن على الأقراص المسطّحة ومواصفاتها: 10 بوصة أو 12 بوصة، وسرعة دورانها التي تم الاستقرار عليها لاحقًا: 78 rpm وخامتها: مادة اللك (shellac). وبمقارنة صوت الجهازين، من الممكن القول بأن صوت الاسطوانات أفضل جودة من الأقراص، ولكن سهولة اقتنائها وتصنيعها وانخفاض سعرها وطول عمرها وإمكانية استيعابها لموسيقى تقدّر مدتها بأربع دقائق على الوجه الواحد مقارنة بثلاث دقائق كحد أقصى للاسطوانة، جعلت الغراموفون أوسع انتشارًا، ما اضطر إديسون إلى إنشاء خط جديد لتصنيع الأقراص المسطحة للمنافسة. ولكن في العشرينيّات، قامت شركة فيكتور توكينغ ماشين بقفزة كبيرة لم يستطع إديسون مواكبتها، وهى الاعتماد على الكهرباء والميكروفونات ومكبّرات الصوت في عملية التسجيل لتقفز جودة الصوت (sound fidelity).
كان هدف إديسون الأساسي هو نقل صوت الآلات والمغني فقط، دون نقل صوت الغرفة أو القاعة التي يتم تسجيل العزف الحيّ بها، وهو ما يكسب جهازه، برأيه، “مصداقيّة وواقعيّة وصوت خالٍ من صوت المحيط”، إضافة إلى محاولاته للابتعاد عن عنصر الكهرباء ومكبّرات الصوت للاحتفاظ بالصوت الأصلي للعمل الذي تم تسجيله. وعلى عكسه، صمم غراموفون إيميلي برلينر وتم الترويج له وللشرائط الممغنطة وشرائط الكاسيت في ما بعد على أساس “قدرتها على نقل قاعة العرض إلى غرفة المعيشة”.
تضعنا هذه النقطة أمام الجدل الذي نشأ حول الموسيقى المُسجلة وأمام مدى إمكانية مطابقتها للعزف الحي. فعلى سبيل المثال، كانت هناك وجهة نظر خاصة بالمتخوّفين من الموسيقى المسجلة بسبب منح الموسيقى بعداً ماديّاً واستهلاكيّاً عن طريق إعادة إنتاجها، ما يحد من إبداع العازفين والاعتماد فقط على عملية الاقتناء. وهو ما تخوّف منه ثيودور أدورنو، حيث من الممكن الربط بين نظرة أدورنو المشككة بتكنولوجيا الغراموفون وإمكانية فرض سيطرتها على المجتمع وبين نقده لسياسات التنوير. ذلك بالإضافة إلى إدراكه أن الغراموفون يقوم بتغيير صوت العزف الحي ولا ينقل إلا صورة مصطنعة غير مطابقة للواقع، مشوّهاً بلذك التجربة الموسيقيّة من بداية قراءتها إلى ممارستها والاستماع إليها. ولكن في الناحية الأخرى، يمكننا رصد وجهة نظر أخرى وهي: إتاحة فرصة الاستماع إلى الموسيقى للجميع وتحريرها وتجريدها من نخبويّتها حتى وإن سيطرت عليها النخبة التجاريّة لاحقًا وقامت باقتياد أذواق الجماهير.
لا يمكن تجاهل هذه التأمّلات الخاصة بأدورنو بالرغم من مراجعة موقفه تجاه الغراموفون وانحيازه الواضح لأقراص الفينيل في الستينيّات، إذ ساهم صوت الفينيل الواضح والأنقى في تغيير موقعه ليصبح من أكبر دعاة الموسيقى المسجّلة، مثل ستوكوفسكي وغلين غولد، لتصير أقراص الفينيل الصيغة “المثلى لعرض الموسيقى والقادرة على استرداد قوتها وحدتها التي ابتذلت في قاعات الأوبرا”.
لكن بالرّجوع مرة أخرى إلى مواقف أدورنو في حقبة العشرينيّات والثلاثينيّات والذي ناقضها لاحقاً، نجد أن بعض أفكاره صائبة: فرغم التطور الملحوظ لصوت الغراموفون لم تتخلّص بعض أجهزته كليًا من صوت شوائب القرص الناتجة عن الأتربة واحتكاك إبرة الغراموفون بالقرص، والذي يمكن ملاحظته أكثر بالأجزاء الصامتة. كما من الممكن ملاحظة التغيير في سرعة ونغمة المقطوعة الموسيقيّة (pitch) المسجّلة في بعض أجهزته بسبب سوء الاستعمال والصيانة، وفي أحيانٍ أخرى بسبب عدم وجود تطابق بين سرعة الغراموفون والأقراص، ما يتطلب وقت لضبط سرعة الجهاز. وبذلك يصبح العزف المسجل غير مطابق للعزف الحي والواقع. حتى بعد توحيد حجم الأقراص لتكون 12 بوصة، وبسرعة 78rpm كصيغة، فإن الصوت في كثير من الأحيان لم يكن منتظم من حيث السرعة وهو ما يعرف بظاهرة “wow and flutter“.
طبقًا للموسيقي ديفيد بيرن في كتابه “كيف تعمل الموسيقى“، أدت عدم قدرة الغراموفون على استيعاب وإظهار جميع الموجات وعدم وجود مسوٍّ للصوت (equalizer) إلى صدور صوت أخنف (pinched voice) للكثير من المغنيين من الغراموفون، وترتب على ذلك أن بدأ المغنيون يحاولون تقليد ما يسمعونه، وبذلك أصبح الصوت الأخنف معياراً للغناء. وعلى نحو مماثل، تم استعمال تقنية الاهتزاز (vibrato) في عزف آلة الكمان والتشيلو وتم استهلاكها بشكل مبالغ فيه مقارنةً بالقرون السابقة، وذلك لأن استخدام هذه التقنية يصدر صوت ذو مستوى (volume) أعلى، فيصبح من السهل تسجيله، كما أنّها تستخدم كنوع من الخداع السمعي لتجنّب الضغط على نغمة خاطئة. وبذلك يمكننا القول أن الموسيقى الحيّة أصبحت تحاكي الموسيقى المسجلة، بدلًا من أن تكون الموسيقى المسجلة إعادة استنساخ الموسيقى الحيّة. من العجيب أنّنا حتى الآن نقوم بتقييم العزف الحي لأيّ فريق على أساس مدى تطابق عزفه الحي مع إصداره المسجّل، بل يصل الأمر إلى انصراف البعض عن الذهاب للحفلات الحية والاكتفاء بسماع العمل بالمنزل.
تعد محدوديّة تكنولوجيا هذه المرحلة إحدى أهم عوامل نشأة الأغنيّة الجماهيريّة البسيطة والقصيرة ذات القرار والمقطع، وظهور الإصدارات المنفردة (singles)، وانتشار سباق الأغاني على محطات الراديو. إذ أدّت مساحة الأقراص التي يقدّر وقتها من ثلاثة إلى أربعة دقائق ونصف تقريبًا على الوجه الواحد إلى اختزال وتحديد المقطوعات الطويلة والعزف الارتجالي لفرق الجاز على سبيل المثال، وحصرها في مقطوعة قصيرة حتى يمكن طباعتها على الاسطوانة. وقد طال ذلك الموسيقى الكلاسيكيّة، على سبيل المثال، في تسجيل مقطوعة Rhapsody in blues لجورج غرشوين وSerenade for Piano لإيغور سترافينسكي والتي سجّلت حركاتها الأربعة على قرصين. وأصبحت أقراص الـ7 بوصة والـ12 بوصة (التي كانت تستخدم في النوادي من قبل الـDJs) ذات سرعة 45 rpm هي صيغة الإصدار المنفرد الأكثر انتشارًا، والتي ظلت مستمرة حتى تسعينيّات القرن الماضي.
من حديثنا عن أنواع الأقراص السابقة وصوت الغراموفون ومميّزاته ومحدوديّته، ننتقل إلى أقراص الفينيل (LP/vinyl) ذات سرعة الـ33 rpm. تعتبر أقراص الفينيل من أهم النقلات في تاريخ الموسيقى المسجلة التي فتحت المجال لإصدار الاسطوانات الموسيقيّة الكاملة التي تقدّر مدة الوجه الواحد فيها بـ22.5 دقيقة. ولكن لم تستغل هذه المساحة بالكامل بكثرة إلا في النصف الثاني من الستينيّات، حين اتجهت الفرق الموسيقيّة لإصدار الاسطوانات أكثر من الاعتماد على الإصدارات المنفردة، حتى بلغ الأمر إلى تحول الاسطوانة إلى صورة أقرب للرواية من حيث البناء ووحدة المواضيع والمفهوم. نستطيع القول إن أقراص الفينيل ساعدت بسبب طول مدتها على انتشار موسيقى السايكادليك روك والجاز المرتجل، الذي تم نقله من البارات وقاعات العرض إلى الأقراص، بعد أن تم اختزاله في الإصدارات المنفردة.
فلولا الفينيل (وتقنيات أخرى) ما كانت ستظهر اسطوانات مثل Sgt. Peppers’ وAbbey Road لفريق البيتلز، وفرق البروغريسيف روك مثل كينغ كريمسون وغينيسيز ويس. من ناحية أخرى، ساعد الفينيل على ظهور مشاهد موسيقيّة مثل الهيب هوب والتكنو في الثمانينيّات بالاعتماد على المهارة في أخذ عينات صوتية من الأقراص ومزجها وإعادة إنتاج الموسيقى الأصلية بصورة جديدة، والتلاعب بالأقراص بأكثر من طريقة.
لكن بالرغم من نقاء صوت الفينيل مقارنةً بصيغ التسجيل السابقة، إلا أنّه يفرض بعض القيود في ما يخص مستوى الصوت ومساحة الوقت على القرص ومستوى الباص. نظرًا لمحدودية مساحة الوقت على القرص، يتم خفض مستوى الباص ورفع مستوى الصوت الكلي للاسطوانة عند طباعة القرص. وإذا أردنا رفع مستوى صوت الباص سيؤدي ذلك بالتالي إلى خفض مستوى الصوت العام للاسطوانة واستهلاك مساحة أكبر من وقت القرص. ويصبح التوفيق بين هذه العوامل مهمّة مهندس الـmastering. لكن يظل صوت الاسطوانة المسجل غير قادر على مطابقة العزف الذي تم تسجيله بالاستوديو.
لا تقوم أجهزة تشغيل أقراص الفينيل بتسجيل الموسيقى، إذ هذه هي وظيفة الشرائط الممغنطة التي ظهرت وانتشرت تزامنًا مع الفينيل. تم اكتشاف الشرائط الممغنطة من قبل الألمان أثناء الحرب العالمية الثانية، وهو الشيء الذي حيّر الأمريكان، حيث كانوا يستمعون إلى الموسيقى على محطات الراديو الألمانيّة وهي تذاع بصوت عالي الجودة ومن دون أن تتوقف كل أربعة دقائق. بعد الانتهاء من الحرب لم تعد الشرائط سرًا بعد حصول الولايات المتحدة عليها، حيث قام جاك مولين بتصميم أجهزة الشرائط وتطوير جودة صوتها. من هنا قامت شركة Ampex بتصنيع وإنتاج جهاز الشرائط، وقام الفنّان بينغ كروسبي بالاستثمار في إنتاج العديد من الأجهزة لنشرها، كما اعتمدت عليها محطات الإذاعة لبث البرامج المسجلة. كانت المرحلة التالية هى دمج أكثر من جهاز لتصنيع أجهزة التسجيل متعددة المسارات، التي تسمح بتسجيل أكثر من مسار؛ فإذا اعتبرنا أن كل شريط بمثابة مسار للمقطوعة الموسيقيّة، أصبح من الممكن تسجيل كل آلة أو أكثر على شريط على حدة، ثم يتم دمج المسارات المتعددة لإنتاج المقطوعة.
بدأ الأمر بصدور الأجهزة ذات المسارين، وهى في الأساس تطوير لفكرة مصمّم الغيتارات ليس بول الذي قام بتصميم أول طريقة لتسجيل مسارين، أو ما يعرف بصوت على صوت (sound on sound). ثم تطوّر الأمر سريعًا في أواخر الستينيّات من الأربع مسارات إلى صدور الأجهزة ذات الثماني مسارات، ثم تعددت المسارات في السبعينيّات إلى 16 ثم 24 مسار. ساعد ذلك على إبداع الفرق وتطور صوتها، وبالأخص بعد ظهور تكنولوجيا الستيريو التي تضفي أبعاداً وعمقاً وتوزيع أفضل للموسيقى عند سماعها.
أدى استخدام الشرائط الممغنطة إلى التحكم بالصوت، وتوليد أصوات ومؤثرات جديدة وزيادة التجريب الموسيقي، عن طريق تحرير المُسجل وتسريعه وتبطيئه وتشغيله بالعكس وغيرها من التقنيات من قبل الموسيقيين الطليعيين الذين تأثر بهم الموسيقيين التجاريين مثل فريق البيتلز. أسفرت هذه التجارب عن نشأة الموسيقى الواقعية (concrete music) التي أبدع بها حليم الضبع وبيار شيفر وشتوكهاوزن وجون كيدج والتي كانت نواة لأعمال موسيقية عديدة لاحقًا.
ساعد صدى الصوت الناتج عن طريق التحكم بالشرائط (tape echo)، بجانب الحلقات الموسيقيّة المسجلة على الشرائط (tape loops) ، في ظهور الموسيقى التقليليّة (minimalism)، المعتمدة على التبسيط وتكرار حلقات الشرائط وتوليد صدى صوت طويل المدى. تلك هى التقنية الرئيسيّة التي اعتمد عليها رواد الموسيقى التقليلية مثل تيري رايلي ولامونت يونغ. وتطويرًا لهذه التقنية، قام ستيف رايش بمحاكاة سمات الـ tape loops مستخدمًا العنصر البشري في العزف على الآلات الموسيقية الوترية والإيقاعية التي تعرف بالمطارق (mallets). تعتبر الموسيقى التقليلية هى أكثر صور الموسيقى الكلاسيكية الحديثة جماهيرية، ومن ثم يكمن استنتاج أن الشرائط الممغنطة لها الفضل في كسر الحاجز النخبوي الذي طال الموسيقى الكلاسيكية على مدى أربعة قرون وأكثر. ذلك سيجعلنا نقفز إلى نقطة أخرى وهي أن القدرة على التحكم في الصوت المسجل فتحت المجال لروبرت موغ لتصميم آلة السنثسايزر، وهي المحفز الرئيسي لظهور الموسيقى الإلكترونية من خلال جهاز قادر على إنتاج عدد لا نهائي من الأصوات بخصائص مختلفة.
دفعت الأجهزة متعددة المسارات والشرائط الممغنطة بعض الفرق والفنانين للتوقّف عن تقديم العروض الحيّة، يذكر من هؤلاء براين إينو، والبيتلز، وعازف البيانو الكندي غلين غولد وغيرهم. من هنا طرح غولد فكرته، والتي يعتمدها براين إينو، وهى أن التطلع إلى صوت الموسيقى المثالي لا يمكن أن يحدث إلا من خلال الاستوديو والموسيقى المسجلة، ويستحيل الحصول عليه من خلال الموسيقى الحيّة. بذلك يمكن تخيل الاستوديو بمعداته بمثابة آلة موسيقية لكن يستحيل نقل صوتها بنفس الكفاءة إلى منصة العروض الحية. من ناحية أخرى، لا نستطيع أن نغفل أن استخدام الاستوديو كآلة أدى إلى تطور الموسيقى الإلكترونية ويمكن رصد ذلك من خلال ألبوم My life in the bushes of ghost لديفيد بيرن وبراين إينو، كما ساعد على تطوير شكل أعمال بيتر غابرييل وروبرت فريب وديفيد بووي في آواخر السبعينيّات.
قام مهندس تسجيل موسيقى الريغي المعروف باسم كينغ تابي بالاستفادة من الأجهزة متعددة المسارات ليدشّن الموسيقى المدبلجة (dub) التي تعتمد على إعادة توزيع المسارات ومزجها، وإبراز البعض أكثر من الآخر عن طريق دبلجة أو مضاعفة مسار معين، أو إضافة مؤثر صوتي أو تكرار جملة موسيقية. صارت تقنية الدوبلاج أساس موسيقى الهيب هوب، ويمكن الرجوع إلى أعمال فريق أفريكا بمباتا للتعرف على الرابط القوي بينهم. نتيجةً لذلك ازدادت شهرة نوادي الموسيقى التي تقدم الهيب هوب والموسيقى الراقصة. كما أن نظام العينات الصوتية (sampling) وإعادة المزج (Remix) أتاح للكثيرين إنتاج موسيقى في غنى عن الآلة الموسيقية ثم تداولها عن طريق شرائط الكاسيت (cassette tapes) أو الإصدارات المنفردة الطويلة (EP).
تعتبر تقنية الدوبلاج بذرة للعديد من أنواع الموسيقى التي تعتمد على توظيف الموسيقى المسجلة والعينات الصوتية، مثل في الموسيقى الإلكترونية والتريب هوب ليقوم الدوبلاج بمحاكاة الفنون البصرية للكولاج وتحويلها إلى مزيج وكولاج سمعي. وبمد الخط على استقامته نجد أن موسيقى المهرجانات من النتائج المتوقعة لموسيقى الدوبلاج.
ساعدت شرائط الكاسيت، التي يرجع الفضل إلى شركة فيليبس في اختراعها، بجانب رواجها اجتماعيًا، على ظهور مشاهد الموسيقى المستقلة في منتصف السبعينيّات، ولها فضل كبير في انتشار البانك روك والإندسترايل روك والفرق ذات الميزانيات الصغيرة غير القادرة على إصدار اسطوانة كاملة. ما زال الجدل حول نقاء صوت الفينيل مقارنةً بالكاسيت مفتوحًا، لكنّ الرأي متروك للتقدير الشخصي الذي يختلف من شخص إلى آخر. لكن لا يستطيع أحد إنكار أن اقتناء صيغة موسيقية في حجم الكف وسهلة في حملها أدى إلى التضحية بحميمية أقراص الفينيل التي يتم التعامل معها من قبل من يمتلكونها على أنها قطعة فنية ذات قيمة أكبر من الكاسيت.
قامت الأجهزة متعددة المسارات بالتوازي بإكساب الموسيقى ثراءً من حيث التأليف والتوزيع والإنتاج، وتصحيح أخطاء التسجيل بكل مسار، وإدخال آلات جديدة من قبل الفرق وتطوير الاستوديوهات. بالرغم من إمكانية عملية التصحيح إلا أن الموسيقى احتفظت بكامل عنصرها البشري من حيث العزف، على عكس البرامج الرقمية الحديثة التي سنذكرها لاحقًا. لكن من ناحية أخرى جعل تعدد المسارات المتاحة المنتجين يلجؤون إلى عزل كل موسيقي في حجرة محكمة العزل أثناء عملية التسجيل، ولصق الميكروفون بالآلة أو مكبر الصوت لتجنب التقاط الميكروفون صوت آلة أخرى (close miking). وبالتالي يتم التعامل مع كل مسار كجزء مستقل بذاته، مما يفتح مجال أكبر لتحرير وإعداد موسيقى الفريق. لكن في الآن نفسه تبتعد الموسيقى المسجلة عن أية صلة بالعزف والموسيقى الحية، ويصبح الصوت العام مسطحًا وجافًا أو مكتومًا يفتقر إلى صوت المحيط، ليعود من جديد مفهوم إديسون وهو تسجيل صوت الآلة وليس الغرفة أو المحيط.
بمقارنة صوت حقبة السبعينيّات الجاف بفترة الستينيّات سنلاحظ أن صوت الستينيّات يميل أكثر إلى صوت العرض الحي، بفضل دمج أكثر من آلة في مسار واحد، بالإضافة إلى صوت محيط ستوديوهات التسجيل غير المكتومة ذات الأسقف العالية، ويمكن ملاحظة ذلك من خلال صوت آلة الدرامز. وفي الكفة الأخرى أدى الصوت الجاف والـ close miking في السبعينيات إلى إظهار الباص والآلات ذات الموجات المنخفضة.
دشّنت التكنولوجيا الرقمية عهدًا جديدًا للموسيقى أدى إلى تغييرات عديدة لا تقل عن الحقبة القياسية، وهو ما سنتناوله في الجزء الثاني من المقال.
المراجع: