.
يندهش الفيلسوف الفرنسي كليمان روسيه من أن بعض الناس والفلاسفة لا يزالون يثورون ضد ما يراه هو بديهياً للغاية، أي أن الموسيقى لا تعبر عن أي شيء. تلك الحقيقة البسيطة والبديهية بالنسبة له كانت أيضاً ما قاله نيتشه حين رفض أن تكون الموسيقى أداة لأي شيء، وفصّله ايغور سترافنسكي في قول مطول :
“أرى أن الموسيقى، في جوهرها، عاجزة عن التعبير عن أي شيء: عن إحساس، عن موقف، عن حالة نفسية ، عن ظاهرة طبيعية… إلخ. لم يكن التعبير أبداً خاصية ملازمة للموسيقى. وسبب وجود هذه الأخيرة مستقل تماماً عنه. إذا ما لاح أن الموسيقى تعبر عن شيء ما، كما هي الحال في أغلب الأحوال، فذلك وهم وليس حقيقة. ذلك، ببساطة، عنصر إضافي أضفيناه، بتواطؤ ضمني عتيق، وفرضناه مثل علامة أو بروتوكول أو ثوب فصرنا، من طريق العادة وبلا وعي، نخلط بينه وبين جوهرها“.
يمكن أن يجد المرء عشرات الاستشهادات المماثلة في حوارات ميشال اونفراي الرافض لأي عالم تجاوزي transcendance والمُصرّ بحسم على انتماء الموسيقى إلى المحسوس الخالي من المعنى والمفعم باللذة الحاضرة والمحايثة immanence، أو أطروحة سانتياغو اسبينوزا التي يخصصها تحديداً للرد على من يطلبون من الموسيقى أن “تقول” معنى ما، أي أن تكون غير ذاتها، فينتهون إلى الحزن لأنها لن تقول ذلك وإلى الحداد على استحالة المعنى. أليس من الإساءة إلى شرف الموسيقى افتراض أن عليها أن تعبر عما هو سواها، وفي هذه الحال ألا تكون، بحسب ملاحظة هيغل، أقل بكثير من الشعر لسبب بسيط هو أن اللغة أداة مصقولة للتعبير، في حين أن معنى الموسيقى يظل غامضاً؟
ربما علينا أن نتراجع بضع خطوات في هذا النقاش لنقول ما المقصود بالتعبير، وكيف تفترق الموسيقى عن اللغة، وما سبب الرفض الغريزي لغياب التعبير (وبالتالي المعنى) عنها وعلاقته بالكلمة وأهميتها، وما فائدة مثل هذا النقاش بالنسبة لموسيقانا العربية تحديداً وما نمارسه من تذوق ونقد.
التعبير في اللغة هو التأويل، كما يقال تعبير الرؤيا أو الحلم، وقيل إنها من عبور النهر أو الطريق، أي وصل الضفتين بصوت (على ما عنون وديع سعادة ديوانه)، فقيل لعابر الرؤيا عابر لأنه يتأمل ناحيتي الرؤيا فيتفكر في أطرافها ويتدبر كل شيء منها ويمضي بفكره فيها من أول ما رأى النائم إلى آخر ما رأى. وعبر عما في نفسه أعرب وبين وعبر، وعبارة القاموس شرحه.
فيبدو أن التعبير ضرب من الترجمة، من نقل حلم إلى الواقع، أو نقل المبهم إلى المشروح، أو المضمر إلى المعلن. في كل هذا لا ينفك التعبير من وجود سابق عليه، سواء كان الرؤيا أو الكلمة العويصة، أو الخاطر القابع في الوجدان.
فإذا ما نظرنا إلى الموسيقى كتعبير، كان لزاماً عليها أن تعبر عن مثل هذا الخاطر، عن فكرة في ذهن المؤلف أو إحساس في قلبه (كما لو أن هذا الاحساس ممكن أن يستمر سنيناً طوالاً يختمر فيها العمل السيمفوني مثلاً). لكن، كي تكون تعبيراً، كان لزاماً عليها أيضاً أن تنقل ما في هذا الخاطر إلى مرحلة أكثر وضوحاً وبياناً، أي أن تشرحها وتعبر بنا إلى ضفتها المشرقة، لا أن تزيد في غموضها أو طابعها الحلمي. أي أن على الموسيقى أن تتشكل في صورة لغة مفهومة، يمكن للمستمع أن يعرف من خلالها تحديداً ما كان في ذهن المؤلف أو في فؤاده (حتى وإن كان ارتجالاً).
لكن البشر وضعوا اللغة للتفاهم ووضعوا الفن للذة، بحسب ميشال اونفراي. فالموسيقى لا تبدو لغة (بله كونها عالمية)، ذلك أن امتلاك المستمع لهذه اللغة كان من المفترض أن يسمح له هو أيضاً بالرد من خلالها وباستعمالها. كذلك لا يخلو تاريخ الموسيقى من إعادة تعميد مقطوعة باسم آخر، أو بإهدائها إلى آخرين مختلفين جذرياً عن المقصود الأول بها، أو باستخدام أجزائها الموسيقية لكلام آخر (منقولة من الديني إلى الدنيوي، أو بالعكس، وحتى باخ الغزير لم يتعفف عن مثل ذلك). فلو كانت الموسيقى لغة لكان لمعناها الأصلي قدرة على الاعتراض وعلى رفض مثل هذه الانتقالات وإفسادها.
ولعل الرد الأبلغ على هذه النقطة، إشارة كلود ليفي ـ ستروس، متابعاً ميشال دو شابانون (ت. ١٧٩٢) الذي سبقه بقرنين في الإشارة إلى أهمية الموسيقى الصافية وانفصالها عن اللغة، وقول الإناسي البنيوي الشهير أن “الموسيقى بلا كلمات. بين النوتات والجملة .. لا شيء. الموسيقى تنفي القاموس“. لا تحيل جملة موسيقية (واستعمال لفظة “جملة” أو “مفردة” ليس إلا تجاوزاً لغياب مصطلحات أخرى) على ما هو خارجها ولا يمكن قولها بشكل آخر. ينتج اذاً أن الموسيقى لا تقول إلا نفسها وإلا حضورها الحقيقي (أو الموهوم في أذن المستمع الذي يكمل تآلفاً أو قفلة تركها المؤلف عالقة قصداً).
لا قاموس اذاً يعبر الموسيقى بالموسيقى، ولا قاموس أيضاً يعبر الموسيقى بغيرها، لأن من المستحيل ربط نوتة، أو مجموعة نوتات، بمعنى ثابت خارج عن المقطوعة التي أدرجت فيها. درجة الدو تختلف في موقعها ومذاقها ونكهتها (والربط بحاسة التذوق أيضاً تجاوز لفقر اللغة) ما إذا أتت ضمن هذا المقام أو ذاك، أو بعد تلك الدرجة أو قبلها، مثلما أن مجموعة من التريوليهات سيكون أثرها مختلفاً بحسب موقعها في افتتاح المقطوعة، في قفلتها، أو كتلوين على الجملة الأساسية. وما ترى يكون معنى عشرات الفوغات (والفوغة هي الشكل الموسيقي الأكمل بحسب سترافنسكي) التي ألفها باخ انطلاقاً من نفس النواة الأولى، وما معنى كثرتها عندئذ؟
يمكن المحاجّة بأن اللغة في أصلها كانت موسيقى ومحاكاة لأصوات الطبيعة وهمهمات اللذة وصرخات الألم أو العطش. لكن مثل هذا القول يجعل، في الواقع، اللغة جزءً من الموسيقى، الجزء الذي تم إفراده وعزله عنها تحديداً من أجل حصر مفرداته بمعانٍ ثابتة قارّة كي يتاح لأي فردٍ التواصل من خلالها. أي أن هذه المحاجّة تؤدي بالتحديد إلى إثبات أن الموسيقى ليست لغة، لأن اللغة انفصلت عنها كي ترتبط دالاتها بمدلولات محددة وثابتة (تظل هنالك في اللغة معانٍ قارة في الكلمات منفصلة عن السياق، ما يحد إمكانات التأويل والفهم بمعانيها هذه، لذا لن يفهم أحد أن التفاحة مثلاً هي غطاء لأعين الخيل، أو هي سد على النهر، أياً يكن السياق). أما اللغة فهي، بحسب روسيه أيضاً، دالات بلا مدلولات. والحق إن شابانون كان قد قال بانفصال الموسيقى عن التعبير، وعن المحاكاة (وإلا أبرزت فقرها وقلة حيلها بحسبه)، منذ القرن الثامن عشر، موضحاً إن أحرف اللغة لها ميزات خاصة بها، كمكان إصدارها وحركة الفم لذلك، في حين إن النوتات لا تتميز إلا بالنسبة إلى بعضها البعض ولا تحاكي الطبيعة ولا تعدو كونها، للسمع، ما تكونه الطعوم للسان أو الروائح العطرة للأنف: لذة مباشرة وآنية.
ليست الموسيقى لغة ولا يمكن نقل ما تقوله إلى اللغة. وليست تالياً تعبيراً وليست تقبل تعبيراً (أو تأويلاً) غير موسيقي. يلاحظ المرء بسهولة أن الموسيقى تثير أحاسيس ومشاعر في نفس المستمع، هذا أمر لا ريب فيه، غير أنها تثير مثل هذه المشاعر لأسباب خاصة، كارتباطها الشعوري بذكريات حلوة أو مريرة لديه، وكان يمكن لسواها أن يثير مثل هذه المشاعر فيه لو كان له هذا الارتباط. وحتى لو كان يستمع إليها لأول مرة فإن لدى كل مستمع، في تلك اللحظة عينها، استعداداً نفسياً وحالة شعورية وجسدية وذكريات مع أصوات الآلات ومع سرعة الايقاعات تختلف عن سواه، وتولد فيه أحاسيس ومشاعر ليست مشتركة لدى المستمعين. فباستثناء انطباعات عامة عن أن العمل كان سريعاً أو بطيئاً، وتأويل ذلك على أنه كان مرحاً أو حزيناً، لا يكاد يشترك مستمعان في تأويل واحد للمقطوعة الموسيقية الواحدة (إلا إن كان النقد المتراكم، على أساس نفساني غالباً وأحياناً وجودي، قد فرض معنى موحد وأفسد بالتالي حرية الاستقبال لها من خلال إنشاء حكم مسبق وترسيخه لدى المستمعين). لا يمكن إقامة البرهان على الارتباط بين مثل هذا المعنى وبين حقيقة النوتات المتتالية. بل يمكن القول إنه كلما ازدادت ثقافة المستمع وقدرته على تحليل الموسيقى كلما كان أقرب إلى “وصف” العمل الموسيقي من الداخل بعبارات موسيقية حول انتقالاته المقامية وتنويعاته على الجملة واختلاف سرعاته.. إلخ، بدل الحديث عما “أراد المؤلف قوله” أو عن المشاعر والأحاسيس التي عبر عنها، كما وابتعد عن “حواف العمل” وعن البحث عن “معنى” وعن “الكلمات” حتى لو كان يستمع إلى الغناء، بحسب ملاحظة لليفي ـ ستروس.
الموسيقى لا تقول غير ذاتها، ولا تعبر إلا عن نفسها، أي عن متعة ربط أصوات بعضها ببعض في الزمن في شكل متعمد. وهو ربما التعريف الذي يقول به اونفراي، لأن الربط غير المتعمد ليس إلا الضجيج. في هذه الحال، فإن التعبير الموسيقي، او التأويل الذي ينبغي للعازف أن يقوم به، هو أن يبرز بالضبط هذه الأصوات وعلاقاتها وكيفية ارتباطها بعضها ببعض وماهية علاقتها بالزمن (وهذا تحديداً ما يجعل كل تدوين موسيقي، بالضرورة، قاصراً عن الإحاطة بالعالم الموسيقي للمقطوعة التي يدونها مهما دخل في تفاصيلها). يمكن للعازف أن يشرح لنا، بالعزف، كيف أن هذه النوتات المرمية على ورقة تتشكل في صورة علاقات وجمل، تتصادم أو تترافق أو تتتالى أو تتكرر أو تتفكك ليعاد تركيبها، أو كيف أنها تتلاعب بالزمن (أي تخلق إيقاعها فيه) وبنا (من خلال خلخلة انتظاراتنا وخلق انتظارات جديدة، أي رغبات جديدة، والإخلال بها مجدداً)، أو كيف أنها تسمح للأصوات والنوتات أن تكتسي طعماً ونكهة مختلفة لأنها تأتي بعد أو قبل أخريات، فتفتح المجال للاستماع بحاسة السمع كما هي، أي كحاسة بدنية تسمح، مثل التذوق، بالتمتع بلذة بيولوجية مباشرة وآنية.
لماذا إذاً ذلك الظن بأن الموسيقى “معبرة” بطبيعتها؟ يرى شابانون أن أنصاف العارفين والجهلة يحتاجون إلى كلمات الأغنية كي ترتاح عقولهم من قلق المعنى المعلّق بنقل المعنى من الكلمة إلى الموسيقى. أما روسيه فيرد ذلك إلى الخلط “المهلوس” بحسبه بين ما “تثيره الموسيقى من أمور خارجة عنها” وبين الموسيقى في ذاتها وفي جوهرها، ويرده أيضاً إلى قلة الثقة لدى الكتاب والفلاسفة بوجود قدرة تعبيرية خاصة بالموسيقى أي بوجودها الذاتي والمادي (والمنفصل عن أي شيء سواها أو خارجها) وهو “بالتأكيد السبب الذي يجعل أولئك المدعوين للتعليق على عمل أو أداء موسيقي يحلون محل التحليل ثرثرة نفسانية غريبة تماماً عنهما. إنهم يتحدثون عن أشياء ثانوية لأنهم يرون الموسيقى نفسها ثانوية” بالقياس إلى المعنى المضمر الذي يفترض بها أن تعبر عنه.
يمكن أن نضيف إلى أسباب سوء الظن بالموسيقى ذلك المفهوم القديم الغابر للفن في وصفه “محاكاة” للواقع، وهو مفهوم تجاوزته البشرية، بدل التنبه إلى أن الفن يخلق واقعاً خاصاً به (وبالأخص الموسيقى، بحسب شوبنهاور)، عالم مادي داخل هذا العالم وليس عليه أن يبرر وجوده بالتعبير مثلما أن ليس على الرعد أو حفيف ورق الشجر أو لمعان الماء أن يبرروا وجودهم به كما يقول اونفراي. الموسيقى تنشئ حياة خاصة بها، كما يرى نيتشه الذي يعتقد أن تعلم حب الموسيقى يعني “أن نتعلم أن نستخلص بالأذن تسلسلاً وميلودي، أن نميزها ونعزلها ونحددها في وصفها حياة مستقلة“.
ومما يزيد هذا الخلط، في ظني، أمران إضافيان، أولهما انتشار الاستعراض الموسيقي، فنرى العازفين يتبارون في البراعة التقنية وأي براعة فوق أن يقلد العازف بآلته أصوات أشياء أخرى كغارات الطيران أو عويل سيارات الإسعاف أو زقزقة العصافير ومثل هذا التقليد الفقير قابل للمعاينة واللمس وأسهل للمستمع غير الخبير أن يحكم على مدى اقترابه من تلك الأصوات الأصلية، وهو ما يرسخ في ذهن السامع أن الموسيقى لا بد تعبير عن شيء ما إما مادي كهؤلاء أو، في مرحلة لاحقة، عن “بنفسج الأرواح” وحركاتها.
والثاني ارتباط الموسيقى بالكلمة من خلال الغناء حيث بدا أن على الموسيقى أن “تخدم” الكلمة وأن تسهل إيصالها (لا سيما إن كان النص دينياً) من خلال أن تكون تعبيراً عنها أو ترجمة لها في مجال الموسيقى، وهو ما يشير إلى الانحطاط وإلى الخروج من المجال الموسيقي بحسب سترافنسكي. والحق أن هذا الأمر الثاني يستحق وقفة متأنية. فعدا عن أن انطباقه على الواقع العياني شديد الندرة (المثالان الوحيدان في الكتابات العربية عن الموسيقى هما “يا ساتر” من لحن الشيطان لسيد درويش، و“عشان ما نعلى لازم نطاطي” أيضاً له مع ملاحظة أن لا ارتباط شرطياً بين الدرجات الحادة والعلو فهذا الربط حديث، بل إن الكتابات القديمة في الموسيقى كانت تتحدث عن الهبوط إلى الحاد والارتفاع إلى الثقل والقرار)، عدا ذلك يسعنا القول إن الموسيقى إن كانت تعبيراً أو ترجمة للكلمة، فإن ذلك كما أسلفنا يضعها في موضع الخادم، غير الدقيق (بحسب ملاحظة هيغل)، الذي يسعى إلى أن يعيد إحضار ما هو أصلاً حاضر في صورة أقل وضوحاً! ولئن كان هذا صحيحاً فإنه، إلى جانب احتقاره للموسيقى، لا يشرح كيف تسنى لباخ أن يلحن أكثر من مرة نصوص آلام المسيح، كما لحنها غيره قبله وبعده، دون أن ينعكس أثر النص نفسه في صورة علاقات ثابتة أو حتى تشابه ما بين الموسيقات المختلفة التي يغنى بها.
الواقع أن رفض بعض الأديان، بل معظمها، أو على الأقل تشككها في شأن التغني بنصوصها المقدسة أوفى فهماً بطبيعة الموسيقى التي تعيد المرء إلى موضع جسدي ومادي للذة الحواس الحية، يبني من خلالها علاقة بالحاضر (هي ما يختصر فيه سترافنسكي خصائصها الأساسية) وليس بالأبد والسرمد. فهم الأديان وحذرها مفهوم (وإن ظل مرفوضاً) ذلك أن الموسيقى، بحسب ما وصف جانكيليفيتش فعلها في النفوس، “تخفف وطأة اللوغوس (الكلمة/المنطق)، تفكّ أغلال سيطرة الكلمة المقيِّدة، وتمنع الإنسان من أن يتماهى مع الكلام“. ذلك أن الموسيقى تخرج المرء من ذاته، كما تقول حكايات الطرب، وتستخف عقله المتعلق به التزامه بالأوامر والنواهي. الموسيقى تلف المرء كالليل، تقول ماري لويز ماليه، كالليل الذي يصفه ميرلو بونتي قائلاً إنه “يخترق كل حواسي، ويخنق ذكرياتي، ويكاد يمسح هويتي الشخصية.. الليل عمق خالص بلا مستويات، بلا سطح، بلا مسافة بينه وبيني“.ولهذا يراها الدين، وتراها الفلسفة بحسب ماليه، تهديداً للسطوة والهيبة.
يمكن تفكيك أزمة النقد الموسيقي لدينا ـ وإلى حد كبير الانتاج الموسيقي ـ إلى عدد من المعضلات التي يقف المرء أمامها حائراً، ومن ثم تجاوزها:
فإن تساءلنا كيف يسعنا أن نخرج من إطار الصراع الممل ما بين “التعبير” و“التطريب” في موسيقانا، يمكننا أن نبدأ بطبيعة الحال من استحالة التعبير نفسه وبالتالي فقدان أي أهمية له (دون أن ينفي هذا حق المؤلف في إيجاد مناسبة له للتأليف، أياً تكن: موسيقى تصويرية لفيلم، أو رقصة للحبيبة.. إلخ، ما دام أن مناسبة التأليف مختلفة عما “تقوله” الموسيقى التي لا تقول إلا نفسها بحسب سترافنسكي).
وإذا ما شئنا أن نخرج في موسيقانا عن محاكاة العصافير وتمني أن تكون لنا أجنحة أو أن نخرج من هوس العناوين “الشاعرية” التي نضفيها على المقطوعات (من ليل وخيل ونخيل وأصيل) يكفي أن ننتبه إلى أن المحاكاة أدنى أنواع الإبداع وأكثرها احتفاءً بتقنية فارغة من الفن، تقنية يمكن قياسها بمعدلات السرعة والصعوبة والاستعراض والإبهار لكنها خاوية من المتعة الموسيقية (أي متعة الأذن لا العين).
وإذا أردنا أن نخرج من الحكم على الأغاني بمعايير الكلمات والحكم على الملحنين بمعايير (مستحيلة التطبيق) عن ربط ألحانهم بمعاني الكلمات، علينا أيضاً أن نرفض أن تكون الموسيقى خادمة أو تكراراً لما قد قيل أصلاً في الكلام الملحن.
واذا أردنا ألا نقف دائماً في معركة لا تنتهي ما بين الأصالة والحداثة فعلينا أن نبتكر معنى مختلفاً لعلاقة الموسيقى بالتاريخ وبالجغرافيا، بل لمفهوم الموسيقى نفسها بناء على الملاحظات السابقة من أن الموسيقى ليست لغة ولا هي معبرة.
إذا كانت الموسيقى لا تعبر، أي لا تعيد قول ما كان مضمراً أو معلنا في ضمير المؤلف أو في كلام كاتب الأغاني، فهذا لا يعني أنها لا توحي أي تؤثر في السامع، ويمكن للملحن البارع أن يعرف أن هذا الائتلاف بعد التوتر أو هذا التنافر بعد التناغم قد يوحيان بالراحة أو بالانزعاج، أو أن هذا الانتقال من الصبا إلى العجم قد يوحي بمساحة من الإنارة بعد إعتام، وما إلى ذلك من حيل تقنية ضئيلة العدد آخر الأمر (وحده السياق الدرامي مثلاً قد يمنح الانزعاج رابطاً ما بموقع الجملة الموسيقية من الأوبرا وتطورها الدرامي، أو بالحالة النفسية للشخصية في فيلم أو مسلسل، أو باضطرابها العقلي.. الخ) تندرج في معظمها في خانة التأثير الجسدي البحت للانتقالات المقامية (وبالأخص للانتقالات ما بين نصف التون والتون الكامل، فالأول يوحي بالانكسار والثاني بالتمام) أو لقوة وسرعة الايقاع وأثر ذلك في جسم المستمع.
أي أن الموسيقى لا ترتبط شرطياً بمعنى يراد ترجمته ولا بإحساس صادر عن الموسيقي، بل يمكن لها أن تأتلف، في إطارها الخاص، مع فكرة الإيحاء والتأثير في المستمع (بغض النظر عما كان شعور برامز على مدى سنين، يمكن لتلك المقطوعة أو هذه أن تؤثرا فيّ بشكل غامض)، ويمكن لها في هذا الإطار أن تحقق ذلك الرابط “البراني” مع الكلام أو مع “مناسبة” المقطوعة (كأن تكون باليه أو قصيدة سمفونية ذات حكاية): ما يليق أو ما يتناسب معهما. بالعودة إلى سترافنسكي نفسه، فإنه يرى أن من الممكن أن “تليق” أو أن تكون “ملائمة” لهذا الموضوع، في الباليه مثلاً، “مثلما يقال إن الأسود يليق بالشقراوات“. هذا أيضاً ما يسميه سانتياغو اسبينوزا “صداقة” و“عناقاً” بين الموسيقى والكلام، بين لحن باخ ونص الآلام، دون أن يكرر أي منهما الآخر.
هذه الملائمة وذاك الإيحاء يربطان، في واقع الأمر، الموسيقى بالتاريخ والجغرافيا في شكل أعمق كثيراً من الإشكالية السطحية للأصالة والمعاصرة. ذلك أن التفكر في موقع السامع، في الحقيقة، وكيفية التأثير فيه يحمل مباشرة طبقات من تاريخ هذا السامع الشخصي ومن تاريخ ثقافته الفردية والجماعية. فما قد ينفع لملائمة حدث ما في مسرحية غنائية أو أوبرا يختلف بحسب ما إذا كان هذا المستمع نفسه عارفاً بهذا الفن أم لا، وبحسب ما إذا كان متعرضاً بحكم النشأة والعائلة والظروف، لهذا النوع من الموسيقى أم لا. التأثير على فلاح من جبل لبنان مختلف بطبيعة الحال عن شاب مغربي يستمع بشغف إلى الراب.
يعني هذا أن لا تأليف ينطلق من غياب مطلق للمستمع، ولطبقات استماعه وما يعرفه. كيف يمكن الإيحاء لمستمع لبناني مثلاً بالجبل دون شيء من أبو الزلف نوع من الزجل المنتشر في بلاد الشام، يردد في الأفراح والمواليا فن شعري غنائي غير معرب نشأ في واسط، جنوب بغداد، وانتشر في الخليج والشام ومصر، رغم أن أصولها على ما يقال ترجع إلى العراق. أي أن الموسيقى لا تنبع من الأرض، بل مما يتخذه أهل الأرض لهم سمة. ويعني أيضاً أن التأليف اليوم لا يسعه أن يضرب صفحاً عما تحمله تكنولوجيا اليوم إلى مستمع اليوم، ولا يسع العازف أو الملحّن أن يتصرف كما لو أن قرناً أو اثنين لم يمرا منذ محمد عثمان أو منذ باغانيني. إنشاء موسيقى اليوم لا يسعه أن يتم بمعزل عن الإحاطة بطبقات الموسيقى المتكاثفة على أسماعنا منذ نولد وحتى اليوم، بطبقاتها التاريخية وباختلاف انواعها وفقاً للزيادة الهائلة للمتاح منها.
يفترض ذلك أيضاً التنبه إلى الجانب الجغرافي للتأليف، أي لاعتبار الموسيقات المحلية مكتبة ضخمة ومصدراً فريداً للبحث عن أدوات فريدة للتعبير الموسيقي (أي لإضفاء نكهة وطعم على الأصوات الموسيقية) وللعلاقة بالزمن (مع الإيقاعات المختلفة وإمكانيات التلاعب بها) واعتباره كذلك وسيلة للدفاع عن مكتسبات معينة وضد النسيان وفعل الزمن ولإعادة إحياء تأثيرات تكاد تندثر (وإعادة الإحياء ليست من خلال التكرار، بل من خلال الابتكار وبث القوة والحرارة في ما يلوح على وشك الامحاء): صوت السيكاه البلدي المصري الذي يختلف في نكهته وأثره عن الهزام، الإيحاء الفريد للانتقال من مقام الراست إلى النهوند، أو من مقام الصبا إلى الجركه، أو من إيقاع الفالس إلى السماعي.. إلخ.
ويشير ذلك أيضاً أن شخصية المؤلف الموسيقي، أو العازف، حاضرة دائماً دون أن يكون في ذلك سعي إلى التعبير عن خلجاتها، بل هي حاضرة في طبقات التاريخ والجغرافيا التي يختزنها والتي يستطيع تالياً استخدامها، واعياً أو غير واعٍ لدقائقها، في فهمهم لأدوات التعبير تلك وضرورة الدفاع عن وجودها وتوسعتها بدل تضييقها. يستطيع عندها المؤلف أن يستعير من طبقات الجغرافيا وتراكمات التاريخ الموسيقي ما يسمح له بالبناء عليها ومحاورتها.
الأمر ينطبق أيضاً، وبشكل أوسع، على العازف المرتجل. حذق العازف يبلغ حده الأقصى، بحسب هيغل، في ذلك الإلغاء للحدود المفروضة على حريته الداخلية في ابتكار ارتجالاته، أي في تلك اللحظة التي، بحسبه أيضاً، نرى فيها معجزة تحول الأداة الخارجية إلى عضو حي تماماً يسمح لنا بأن نرى في لحظة واحدة، مثل برق، “الابتكار الداخلي وتطبيق الخيال العبقري، في اندماجهما المباشر وفي حياتهما التي تتلاشى أمامنا“. الارتجال والعزف إذاً ليسا تعبيراً لمضمر مسبق، وإلا لاكتفينا بالنصوص، بل الحركة التي تتيحها الحرية. والعزف، سواء مرتجلاً أو مؤولاً تأليفاً موسيقياً أسبق، هو اللحظة التي تقول لنا بأن لا شيء يتكرر، بأن كل لحظة فريدة وبأن استماعنا ـ حتى إلى عمل مسجل ـ ليس نسخة عن الاستماع السابق. هو على أقل تقدير مفترق ومختلف عن الاستماع السابق تحديداً لأنه مبني على سابق وبالتالي على انتظار وتوهم ذكرى ما، لا تنفك الموسيقى عن التلاعب بهما. الموسيقى تقول لنا في آن واحد أن كل لحظة في الحاضر فريدة، وإن تكن محملة ومشبعة بماضٍ وبتوهم آتٍ. في ربطها لنا بالتمتع بالحاضر، الموسيقى دوماً متمردة وخطيرة على كل الوعود الخلاصية والمعتقدات المناهضة للمتعة.
ما تسعى إليه الموسيقى، وما يجعلها فريدة، هو الحفاظ وإثراء ذلك المخزون من الاحتمالات الموسيقية حصراً، التي لا يمكن اختزالها في اللغة أو الكلام (بل إن كلام الأغاني أداة لانطلاق صوت المغنين لا أكثر)، أي كونها قادرة على أن تخلق في النفس ما لم يكن فيها وحالات لا عبارة في قاموس اللغة عنها وأن تجعل المستمع يكتشف قارات في جسده وفي مشاعره لم يكن ليعرفها لولا الموسيقى وليس بقادر على قولها إلا من خلال العودة إلى الموسيقى. الموسيقى ما لا تستنفده فكرة ولا عبارة، ولا يمكن فهمهما سوى من خلال الإنصات إليها أي الاستماع إلى مرور الوقت فيها وعيش تلك التجربة (التي لا يمكن اختزالها ولا القفز فوقها من خلال اختصار الموسيقى إلى مجموعة جمل شهيرة بلا ترابط) أي، بعبارة أخرى، من خلال السماح لها بإنشاء علاقة مع الزمن (الحاضر، والماضي الذي فيها) وخلخلتها في آن واحد. الموسيقى إذاً، من كل شيء سوى نفسها، حرة مثلما أنها تدعو الموسيقي والمستمع معاً إلى الحرية نفسها.
قراءات
لسان العرب، مادة عبر
De la musique considérée en elle-même et dans ses rapports avec la parole, les langues, la poésie et le théâtre, Michel Paul Guy de Chabanon
Questions sans réponse, Clément Rousset
La musique et l’ineffable, Vladimir Jankélévitch
La musique en respect, Marie-Louise Mallet
L’inexpressif musical, Santiago Espinosa
Poétique musicale, Igor Stravinsky
La raison des sacrilèges, Michel Onfray
Regarder écouter lire, Claude Lévi-Strauss
Le Gai savoir, Friedrich Nietzche
لوحة الغلاف لـ مارك روثكو