fbpx .
الموسيقى علاء عبد الفتاح

إيقاع متكرر | نص عن الموسيقى لـ علاء عبد الفتاح

علاء عبد الفتاح ۲۰۱۹/۰۹/۲۷

الفتاة

جالسةً وسط القاعة تتململ بقلق. تطرق قدمها بانتظام على الدكة الخشبية. تقبض على هاتفها. تعرف أن دورها غير محوري. لو تجاهلت الرسالة، لو خرجت حتى من القاعة، لن يتغير شيء. تعرف أن أحلامها غير واقعية. لو بقيت في مكانها وقامت بدورها على أكمل وجه، لن يتغير شيء. مع ذلك يغلب عليها التوتر. قضت الليل حائرةً في اختيار الملابس المناسبة. اليوم امتحان. يُفترض أن تشغلها أمور أخرى، وهي لا تهتم عادة. عدم الاكتراث بالمظهر الخارجي هو السبب الرئيسي لاستمرارها في ارتداء الحجاب. قبل دقائق مضت لم تكن تعلم أنها ستتحكم في إشارة البداية في هذه القاعة، وقبلها لم تكن تعلم أنها ستتجه إلى هذه القاعة. كل قراراتها كانت عفوية، لم تحلم بهذا الدور، لم ترغب به، لم تكن متأكدة أصلًا من صحة إشاعة أن هناك من يقوم بدور القائد. كل ما تعرفه أنها لو نجحت لن يتذكر أحد أصلًا من بدأ، وإن فشلت ستقف وحيدة. تبتسم نصف ابتسامة و تهدأ، تعجبها تلك الفكرة. يرن الجرس للمرة الثانية، تحاول أن تتذكر عدد دقات الجرس قبل رفع الستار في المسرح رغم أنها لم تحضُر أي مسرحية من قبل.

المشرفة

تقبض على هاتفها بضيق وتراجع الساعة. تمر على القاعات مجددًا. تزعجها الدكك الخالية وعدم قدرتها على تفسير خلوها. تتنقل من قاعة إلى قاعة وتفكر بمن تتصل وماذا تقول؟ لا يمكن أن تقول إن القاعات خالية. لكن نسب الغياب هذه غير منطقية. هل عطلهم طارئ ما؟ هل تلوم المرور مثلًا؟ هل فاتها خبر عن حدث جلل؟ هل تستجوب الحضور؟ العاملين؟ هل تتصل بزملاء في نفس موقعها؟ برؤسائها المباشرين؟

الساعي

يتحرك بصينية المشاريب بسرعة ومهارة. يلفت شيءٌ انتباهه. لاحظ أولًا قلة طلبات القهوة، بل قلة الطلبات كلها رغم الزحام. الزحام نفسه مستغرَب. لماذا تتكدس القاعات بهذا الشكل وفي هذه الساعة المبكرة؟ لو أن قاعة واحدة مكدسة فهذا يسهل تفسيره: شخص ذو عزوة أو شعبية. لكن كل القاعات! يلاحظ أحد مسؤولي الأمن واقفًا في منتصف الردهة قابضًا على هاتفه بتوتر. لا يحب هذا الرجل لكنه اعتاد عليه، على الأقل لا يتهرب من دفع ثمن مشاريبه، بعكس زملائه. يسأله إن كان قد لاحظ شيئًا غريبًا اليوم. يرد رجل الأمن بقلق بالغ: “كلهم عيال صغيرة.”

الشاب

يجلس في طرف القاعة قابضًا على هاتفه، محاولًا أن يخفي توتره. اليوم يوم حاسم. بعد فضيحة مارس تصور أن مستقبله انتهى. صحيح أنه من خريجي البرنامج التدريبي لكنه يكاد يكون الوحيد الذي صعد بلا واسطة ولا ظهر يحميه. يعلم أن دخوله البرنامج وليد صدفة، لحظة احتاجوا فيها لتنويع الوجوه وتجميل الصورة. لعب دور الشاب المعارض، مثال المعارضة البناءة. عمل بدأب، فدوره المنصوص عليه دور صعب؛ إن تمادى في المعارضة تورط وإن تمادى في التذلل فقد قيمته. صدّر حالة من الاستحقاق بناءً على ذكاء وجهد ومثابرة، وتوِّجت جهوده بضمّه إلى خلية إدارة الأزمة. يدرك تمامًا خطورة موقفه، فهو لم يُدع للانضمام إلى الخلية إلا لأنه مَن حذّر اللواء من الأزمة الوشيكة، ما عُدَّ نصرًا نادرًا لجهازه المحدود بالتعامل مع الجرائم الإلكترونية العادية فقط. لكن عندما تمخّض الجبل عن فأر ومر اليوم الأول من مارس بسلام، أُطيح باللواء عقابًا له على إحراج القيادة بإحداث حالة ذعر تداولتها وكالات الأنباء وتأثرت بها البورصات. لم يحمِه إلا أن اللواء كان قد قدم تقريره وكأنه نتاج جهده الشخصي. لم يطَح به مع اللواء لأهميته، وإنما لعدم أهميته. لكن لن يطول الأمر. إما أن يثبت نفسه اليوم أو تنتهي مسيرته، والله أعلم أي نهاية، فهو في كل الأحوال مجرد مدني.

الضابط

تقدم نحو المنصة، ونظر إلى الشاب لدى مروره بجواره. يحتاجه حتى لا يبدو وكأنه يتذاكى ويتخطى رؤساءه. لن يتكرر الخطأ، فالمستقبل واعد. لا يرضى عن أسلوب تعاملهم مع اللواء، حماه. ربما يجد طريقة لتصحيح الصورة اليوم. لكن عليه التحرك بحذر، أن يعرض الأمر وكأنها نظرية، ألا يقترح تحركات أو حلول. لا يثق في الشاب كثيرًا فطموحه مبالغ فيه. يشك في كونه يدرك خطورة ما يحدث. يرغب فقط في الظهور وإثبات أهميته. لكنه، وبحكم مهنته، يعلم. وقف أمام الشاشة، أخد وقته في شرب المياه وهو يرتب أفكاره، ثم بدأ في الحديث: “زي ما حضراتكم عارفين إيفنت واحد مارس ماحصلش. لكن الشهور اللي فاتت تحرياتنا أكدت جدية المؤامرة. إحنا غلطنا صحيح في تفسير تاريخ اليوم. زي ما هتشوفوا في التقرير اللي قدام حضراتكم ده اسم تنظيم سري قديم أُعيد إحياؤه، وهو المسؤول عن الهجمات. للأسف ملفات التنظيم فُقدت في الأحداث المؤسفة اللي مرت بيها البلاد في ألفين واحداشر، لكن تمكننا أخيرًا من التوصل لواحد من مؤسسي التنظيم، وبعد جهد كبير أدلى باعترافات تفصيلية.”

انتظر قليلًا حتى يتصفحوا الملف. الاعترافات لا علاقة لها بالأزمة الحالية، لكن رداءة خط السجين غالبًا ستثنيهم عن الخوض في التفاصيل. يحاول ألا يتذكر شكل السجين بعد التعذيب. لا يمكن أن يصرّح بالحقيقة لكن عليه أن يقود رؤساءه للاعتراف بحقيقة التهديد القادم دون أن يتورط في ما لا يفهمه. تأتي أسئلتهم مشتتة ومربكة. عليه إنهاء النقاش.

عند أول فرصة يتدخل: “الأهم دلوقتي حضراتكم مش الاعترافات اللي عن تاريخ التنظيم لكن هُمَّ بيخططوا لإيه حاليًا. تحليلنا لمعنى يوم واحد مارس وانه هيشهد هجمات إلكترونية واسعة تستهدف البنية التحتية كان غلط، لكن لا يمكن إهمال إن السنة دي سنة كبيسة. للأسف اللي توصلنا إليه مجرد ملامح وبناءً عليها عندنا نظرية عايزين نطرحها على حضراتكم النهاردة وانتم أقدر على تحليلها. تاريخ واحد مارس مكانش تاريخ الـ event، ده كان تاريخ الدخول في الـ event horizon – يعني أفق الحدث، والكلمة دي موجودة ومتكررة فعلًا في كود الفايروس اللي قدرنا نتوصل ليه، والمقصود إن ده التاريخ اللي عنده وصلت عدد الأجهزة المصابة للكتلة الحرجة المطلوبة للهجمات، لكن منعرفش تاريخ بداية الهجوم هيكون إمتى؟ وهل هو أصلًا هيحصل كله مرة واحدة؟ هاعرض على حضراتكم تدوينات قديمة منسوبة لمؤسس التنظيم اتمسحت قبل بداية الأزمة رغم إنه كان مسجون وقتها. التدوينات دي صحيح كانت علنية لكنها بتكشف يمكن النوايا وأسلوب التفكير ورا المخطط اللي احنا بنواجهه.”

المدونة

على الشاشة يظهر تسجيل لحاسوب قديم من ذوى الشاشات الضخمة. تقترب الكاميرا من الشاشة السوداء. كتابة كثيرة تعبر عن نظام التشغيل العتيق دوس DOS، وبعد ثوانٍ تظهر جملة قصيرة بالإنجليزية على الشاشة. تتكرر الجملة حتى تملأ حيز الشاشة كاملة. يرتبك الحضور. يضحك بعضهم ويقطب بعضهم جبينه. لا يعلم أحد إن كانت السيرة محرمة أم عطرة. موقف القيادة الحالية غير واضح ولا يعلم أحد ما الانحياز المطلوب تبنيه. تتغير الشاشة ويظهر عليها صور ملتقطة لتدوينة:

“في التسعينات كنا جمهور مستخدمي الكمبيوتر محدودي العدد وبنتصرف كأننا قبيلة. مكانش الإنترنت منتشر وقتها، كنا بنتداول الملفات والبرمجيات من خلال الفلوبي ديسك. مجرد انك تقابل في مواصلة ولا مكان عام حد ماسك في إيده علبة ديسكات ده كان حجّة كافية للتواصل والتعارف ولتبادل البرامج والألعاب. عملية تداول الملفات بالديسكات دي كانت الفرصة الوحيدة لانتقال فايروسات الكمبيوتر. وبالرغم من ضعف تصميم الفايروسات وقتها ومحدودية انتشارها كان خطرها كبير لأن برامج الأنتي فايروس بتنتشر بنفس الآلية البطيئة.

في الوقت ده كتير مننا ربوا عادات وقائية للحماية من الفايروسات وكمان لحماية غيرنا. لأن آلية انتشار الفايروسات كانت واضحة وشخصية جدًا كانت مسألة نقل العدوى دي محرجة جدًا. آلية الانتقال الشخصية والبطيئة دي نتج عنها وجود فايروسات محلية تضرب مناطق من العالم ومتخرجش منه.

في الفترة دي انتشر فايروس في مصر لوحدها، لو أصاب جهازك كان بيطلع على الشاشة جملة “Mubarak is a cow” وتقعد تتكرر الجملة مع أي دوسة على أي زرار. 

الغريب إن الفايروس ده تحديدًا كان تصميمه ضعيف ومش بيخبي نفسه كويس. ومع ذلك الفايروس مش بس انتشر ده صمد وفضل جزء من مشهد مستخدمي الكمبيوتر المبكرين سنوات وسنوات. 

التفسير الوحيد إن مستخدمي الكمبيوتر المصريين الأوائل ساهموا بشكل عمدي في نشر الفايروس. أغلبنا تبرع إنه يبقى حامل طوعي لفايروس ويعرّف المستجدين عليه، نحتفظ بنسخ منه ونتداولها.

ده كان زمن مفيش فيه معارضة صريحة بتهتف ضد الرئيس في الشوارع ولا بتكتب تنقده بشكل مباشر في الجرايد، لكن انتشرت نكت عن غباوته وتناحته والفايروس ده كان مساهمة مننا تبدو مثيرة وخطيرة أكتر من النكت. إثارة تستدعي الكلام عنه بصوت خافت لما تقابل حد مستجد في عالم الكمبيوتر وتعرض عليه نسخة من الفايروس زيه زي الألعاب والبرمجيات.

ده يخليه واحد من أنجح الفيروسات في التاريخ لأنه أصاب عقولنا وقلوبنا مش أجهزتنا.”

الضابط

نظر إلى الوجوه الضجرة وبدأ يشرح لهم العلاقة: “ينتشر الفايروس الحالي بسرعة لا تفسرها قنوات انتشاره، لا تفسرها كفاءته في الاختراق، الكود منشور على النت ويعاد إنتاجه بدمجه في برمجيات وألعاب تبدو بريئة. باءت كل محاولات وقف انتشاره بالفشل، السبب بسيط وواضح، المصابين نفسهم حاملين طوعيين للفايروس. الإصابة أداة تجنيد.” يلاحظ قلًقا وغضبًا على الوجوه. غالبًا وصل الفايروس إلي بيوتهم وأجهزة أبنائهم. ينقذ الموقف بالتأكيد على أن نسبة صغيرة فقط من المصابين هي التي تنشر الفايروس عمدًا، وأن تمييز من أُصيب فعلًا ومن يشارك أمر يستدعي جهد وتعاون باقي الأجهزة. مع بعض الرطانة عن الأمن القومي واستهداف الشباب وحروب الجيل الرابع يتمكن أخيرًا من تهدئتهم. ثم يبدأ في عرض الدليل الثاني.

المدونة

على الشاشة الآن فيديو كليب لأغنية مصورة بالأبيض والأسود. تختلط أصوات جيتارات صاخبة بصوت الجمهور. لقطات سريعة لشوارع موسكو. يزداد صخب الأغنية، يظهر أفراد الفرقة، شكلهم منفّر، يشير أحدهم بإصبعه الأوسط إلى الكاميرا. مع دخول الإيقاع يزداد الصخب، على الشاشة يقفز جمهور ضخم في استاد بجنون ويطلق المغني سيلًا من البذاءات لا يفهم أغلب الحضور معناه، لكن كلمة fuck لا تحتاج إلى ترجمة. يتململ الحضور ويعترض أحد أصحاب الرتب على الدوشة دي ويطالب بالدخول في الموضوع. فجأة يتوقف الإيقاع. يصدم فاصل عزف منفرد على جيتار إلكتروني الحضور، ومع عودة الإيقاع يتضح تمامًا تطابق اللزمة اللحنية مع الأغنية التي أقلقت منامهم وكانت السبب في هذا الاجتماع.

تركز الأسئلة على روسيا التي تصوروها حليفًا محتملًا. يطمئنهم أن الحفل مُقام في روسيا لكن الفرقة إنجليزية. ينتقل الحديث لدور بريطانيا ومخابراتها في التآمر على مصر المستهدفة دائمًا. يفقد الأمل في إثنائهم عن هذا المسار، فقط يُقر بتواضع أنه غير مؤهل لتقدير المخاطر الخارجية على هذا المستوى وأنه يترك الأمر لهم كأهل اختصاص. يطلب منهم التركيز مع المدونة مجددًا:

“في بريطانيا في التسعينات انسحبت الصناعات الثقيلة وكثيفة العمالة من البلاد، ومع انسحابها اختل ميزان العمل وزادت البطالة ولأول مرة في تاريخ الغرب كبر جيل مهدد بالحياة في ظروف أسوأ من جيل أهله. تغيرت المدن نفسها، ما بين مدن صغيرة بتتآكل أحياءها الشعبية من الداخل، و مدن كبرى بينطرد سكانها الأفقر بعيدًا عن مراكزها عشان يوسعوا لصناعات العصر الحديث: بنوك وبورصات وإعلام وسياحة. من وسط الأحياء النصف مهجورة دي طلعت موسيقى جديدة لا عندها طاقة الأمل والتمرد بتاعت روك آند رول الستينات ولا طاقة الغضب بتاعت بانك السبعينات. كانت موسيقى إلكترونية بتستخدم نفس أدوات الميكنة والأتمتة اللي قلبت حال الاقتصاد عشان تفرز أصوات إيقاعات عنيفة وكأنها صادرة عن أشباح آلات المصانع اللي اتقفلت. موسيقى سريعة وصاخبة بتعبر عن ايقاع عصرها اللاهث، وبدل ما بتشجع جمهورها على التمرد بتشجعهم يرقصوا في انتظار الخراب.

لكن لو محتوى الموسيقى شديد التجريد ما شغلش نفسه بالتمرد، فطبيعة التكنولوجيا الرقمية اللي حررت الفنانين من الاحتياج لشركات الإنتاج الضخمة والستوديوهات المعقدة وصالات الحفلات المجهزة وصّلت الموسيقى دي برضه لعتبة الاحتجاج. الموسيقى اللي بدأت في الشوارع احتل جمهورها ومبدعيها الشوارع عشان يقيموا حفلاتهم الراقصة الصاخبة وبقت ظاهرة اسمها الرايف Rave. احتلال مؤقت لشارع أو حقل أو حديقة أو هناجر موانئ أو مخازن أو بقايا مصانع مهجورة، فنانين ومريدين مختلطي الأعراق والأصول والخلفيات الثقافية والاجتماعية. تخطي تام للدولة وللسوق. حفلات مجانية ومشاركة في كل حاجة. ده كان قبل انتشار الانترنت، وآليات التنظيم العفوي كانت بتعتمد على توزيع منشورات وإعلانات وجرافيتي ورسائل تتسجل على أنسر ماشين. الطابع ده خلاها كأنها تنظيم سري يعرفه أهله وبس. بالنسبة لجمهور الطبقة الوسطى المحافظ وللحكومات المحلية كانت الرايفز بتظهر فجأة بلا أي مقدمات ويسمعوا موسيقى مش شبه أي حاجة شغالة في الراديو. 

مع كبر الظاهرة لدرجة إن الحفلات بقت بتجتذب جمهور يقاس بعشرات الآلاف كان طبيعي إن السياسة تتدخل. سياسيين محافظين استخدموا البرلمان للتحذير من خطر هؤلاء الراقصين وموسيقاهم التجريدية بلغة جديرة بتهديد عسكري. هيستيريا إعلامية (لاحظ إن ده قبل طلعة الهجوم على فرق الميتال في مصر بحجة محاربة عبادة الشيطان). بعد سنتين من التحريض والشد والجذب بين الراقصين والشرطة أصدر البرلمان في ١٩٩٤ تعديل للقانون الجنائي يجرّم أشكال من التجمع والتجمهر كان مسموح بيها من قبل.

صحي وعي أهل الموسيقى الجديدة السياسي كرد فعل على الهجمة السلطوية على الرايف، وحاولوا إنهم ينظموا نفسهم وحاولوا كمان إنهم يردوا على سلطة الدولة بأداتهم المهددة نفسها. وقتها سجلت فرقة The Prodigy تراك Their Law. وبقيت الأغنية الاحتجاجية الأهم والأكثر تأثيرًا و يمكن دي الأغنية الاحتجاجية الشعبية الأخيرة في تاريخ الموسيقى الغربية. موسيقى إلكترونية تجريدية برضه بس غاضبة و مليانة طاقة وبيتكرر كل شوية سامبل بيزعّق: “Fuck them and their law” وده كل اللي محتاجة تقوله.

بعد كام صدام مع الشرطة انهزمت الحركة الموسيقية الوليدة. تحورت بعدها الموسيقى الإلكترونية بعد ما تخلصت من تأثير اليأس والملونين والمهاجرين واندمجت في السوق، اتحولت لنسخ أنضف وأشيك، موسيقى راقصة ماجنة سعيدة، هيمنت تمامًا على كل سوق الموسيقى بعدها وبقى الدي جاي هو النجم، لكن ده بعد ما انتُزع تمامًا من أي سياق اجتماعي مش بس احتجاجي، واتزرع في نوادي غالية بتنقي جمهورها مش بس بارتفاع ثمن تذاكرها، لكن كمان بشكل جسمهم وماركات ملابسهم.”

الشاب

أطمأن قلبه لردود الأفعال، وفي سره سخر من غبائهم ومن تلعثم كفيله الجديد. هذه المرة اختار ضابط حديث السن من الجهاز الصحيح وورطه معه من البداية. منذ أن رأى تقرير ٣٠ فبراير وأدرك أن تسرب التقرير نفسه هو غالبًا مصدر إلهام صانعي الفايروس، صار الضابط الشاب تحت تحكمه هو. في أول لقاء منفرد لهما وضّح للضابط دون صخب أنه يدرك أن لا رابط بين الاعترافات وبين ما يحدث الآن. لا زالا لا يعرفان كيف خرج إلى الواقع تنظيم من خيال سجين احتاج ان يدلي بأي شيء، ومن إصرار ضابط متعطش للترقية. لكن الوقت لا يسمح بتلك الأسئلة. كاد يقهقه وهو يشاهد لواءات مذعورين من معلومة عن معسكرات تدريب الثوار في صحراء تطوان. المغفلون مقتنعون أن مؤامرة ما تحاك في المغرب، بل وحاول ضابط المخابرات المتحذلق أن يفسر الأمر بموقف مصر من ملف الصحراء الغربية. ماذا سيحدث إن عرفوا أن هذه مجرد هرتلات عقل أنهكه التعذيب، يربط بين ميمات إنترنتّية قديمة ومفردات أفلام الخيال العلمي؟ مع عرض التدوينات اكتمل تورطه. يشعر بالفخر الشديد. يكاد يجزم ان لو خرج الناشط إياه من السجن لن يكتشف أنها تدوينات ملفقة. جمع الأفكار من تويتات متفرقة والكثير من البحث عن جذور الأغنية.

لكن في النهاية يحكي التلفيق كله قصة حقيقية: نسخ المهرجانات المحلية من الأغنية حقيقية، والفايروس يُشَغِّلها فجأة وبتنسيق محكم إن تصادف وجود أكثر من عشرة هواتف مصابة في نفس المكان. ليس في الأمر تنظيم، يبدو الإنترنت نفسه وكأنه قادر على إفراز أشياء كهذه. بعد فترة ستخمد الهوجة وسينتقل الشباب أصحاب فائض المهارة وفائض الوقت إلى صيحة جديدة، لكن البلبلة الناتجة ستكون فرصة له ليرتقي إلى المراتب العليا.

المدونة

بينما يجهز الضابط لعرض الصفحة الثانية من التدوينة تدخل موظفة إلى القاعة بدون إذن، تتوجه إلى أحد اللواءات وتبدأ حديثًا خافتًا، بعدها بدقيقة يدخل موظف آخر ويتوجه إلى لواء آخر. يتوقف الكل عن الحديث. فجأة يرفع اللواء الأول صوته مطالبًا بفض الاجتماع لوصول أخبار بتغيب حوالي ثلاث طلاب عن امتحانات الثانوية والجامعة لنهاية العام. يقاطعه اللواء الثاني بإعلان خبر اكتظاظ كل قاعات المحاكم في البلاد بتلاميذ مدارس وجامعات.

وسط الهرج والمرج ينظر الشاب والضابط بذهول إلى السطور الأخيرة من نص التدوينة التي لفقاها معًا:

“الرايف كان لحظة عابرة، لكن الأدوات اللي ربتها الشرطة بناء على التعديل التشريعي ده فضلت واستُخدمت في كل حاجة، من طرد متشردين، لتفريق إضرابات، لقمع مظاهرات، وفضلت الأدوات دي واتطورت. في لندن لما حاولت الناس ترجع للاحتجاج في الألفينات اكتشفوا إن المدينة اتأممت للشرطة واتخصخصت للشركات، وإن ما تصوروه فضاء عام من حقهم يحتلوه تلاشى يوم انطردت منه الموسيقى.

في إنجلترا تعديل قانون لطرد الموسيقى والرقص من الشارع كان مقدمة للسيطرة على الاحتجاج وتفريغه من معناه إن لم يكن منعه. في مصر أصلًا ما لعبناش مزيكا وما رقصناش في الشوارع غير بعد الثورة، واحتاجت الدولة قانون التظاهر عشان تقضي على كل أشكال الاحتجاج، وبعدها تطرد الموسيقى والرقص من المدينة كلها.”

الفتاة

في قاعة دائرة الحريات في المحكمة العليا يدخل القضاة بعد الجرس الثالث بثوان. يصيح الحاجب “محكمة!” يقف الحضور. يجلس القضاة ويومئ رئيس الدائرة للحضور. يجلس الجميع إلا هي. تصعد فوق الدكة و ترفع يدها عالية بالهاتف. ينظر إليها القضاة باستغراب. فجأة تصدح كل التليفونات في القاعة بنفس الإيقاع المتكرر. تخفض يدها. بصوت شكّله الأوتوتيون يتكرر الهتاف “كس ام القانون بتاعكم.” تغلق عينيها وتبدأ في الرقص.

المزيـــد علــى معـــازف