.
لفترة امتدت من منتصف التسعينيّات وحتى السنوات الأولى في الألفية الثانية، استطاع محمود عبد العزيز السيطرة بشكل كامل على عرش الغناء السوداني، منفردًا بين أقرانه ومن تبعوه بإنتاجه الغزير واتساع رقعة جماهيره.
شخصية محمود عبد العزيز غير عادية. ميزته أنه بسيط حد البراءة، عفويّ وصادق حد اللامبالاة، ومنفتح على الجميع دون تقييد أو تقيّد. كما أنه يعتبر الفنان الوحيد الذي طاف كل بقاع السودان دون استثناء وغنى لجميع الطبقات، إلى أن رقد في تراب مقابر الصبابي في الخرطوم بحري في ذات ليلة الإعلان عن وفاته. كما لو أن الجهات المسؤولة عن هذا الفعل أرادت أن تستيقظ في اليوم التالي على فنائه تمامًا.
من هذا المنطلق، فإن حياته، والجدل الكثيف الذي دار حولها، والكم الهائل من القصص – الأسطوري منها والحقيقي – كانت سيرورة من الحركة الدائمة والصخب المتواصل. منذ بداياته الغنائية في نهايات الثمانينيّات وحتى صدور أول أسطوانة له بعنوان خلّي بالك عام ١٩٩٤، من إنتاج شركة حصاد للإنتاج الفني، كان الشاب النحيل قد رسم لحياته شكلًا وقف في طريق أصحاب “المشروع الحضاريّ الإسلاميّ” و”صياغة الإنسان السودانيّ”. المفاهيم التي بدأت حكومة الجبهة الإسلامية في تمكينها على أرض السودان منذ صعودها إلى السلطة منتصف ١٩٨٩. للمفارقة، كان هو كذلك قد بدأ في الصعود والتدرّج إلى قمة الغناء منذ ذلك الوقت. عليه، بدأت أجهزة السلطة، صاحبة المشروع الإسلامي، بملاحقة هذا الشاب المتمرد على جميع القيود، حتى حُشر في السجن، وظهرت صور لعملية جلده في إحدى محاكم الولايات عقوبةً على تهمة على أساس قانون النظام العام، كانت قد نُشرت على عدد كبير من مواقع التواصل الاجتماعي قبل حوالي ثلاثة أعوام؛ وغيرها الكثير من المداهمات لمنزله وبعض منازل أصدقائه والمقربين منه في الخرطوم وبورتسودان ومدني.
على ذات النسق، ظلّ محمود كما هو متمسكًا بكل ما يفعل، ليصبح هذا الأمر مع هذه الأحداث المتكررة كما لو أن هناك حربًا بينه وبين السلطة، قاتل فيها بشراسة ودون تنازل عن ممارسة أنشطته الغنائيّة العامة، أو الخاصة. رغم كل هذا، لم تنقطع علاقة الفنان بجماهيره نهائيًا، وكانت في تنامٍ مستمر. بل وعلى العكس تمامًا، ظلّت هذه العلاقة تتماسك عند مروره بأية محنة وكلما تفاقمت معاناته، ما بدا واضحًا في تشييعه المهيب.
قامت بين محمود وبين أعداد ضخمة من الأسر الفقيرة علاقة موازية لعلاقته بجمهوره. تحدّث الكثيرون عن زياراته المتكررة للمستشفيات، ودعم من لا يستطيعون معالجة أنفسهم، بالإضافة إلى زياراته لدور الأطفال مجهولي الأبوين ودور العجزة. يقول الصحافي الكبير ميرغني البكري أنه بالإضافة إلى موهبته، كان يمتاز بصفات أخرى مثل “أن يصرف ثلاثة أرباع أمواله التي يكسبها من إنتاجه الغنائي على مشاريع إنسانيّة. فعاش فقيرًا، ومات فقيرًا. هذه من أهم مقوّمات امتلاكه للقاعدة الجماهيريّة اللا محدودة.”
يُؤكد مصدر حكومي من داخل سرادق العزاء، مفضلًا عدم الإفصاح عنه، أنه كان شاهدًا على أعماله الخيريّة، وكفالته للعديد من اليتامى ومجهولي الأبوين. بينما يُضيف الإعلامي والشاعر عمر محمود خالد أن رحيل محمود مفجع إلى حد بعيد، مبيّنًا في تصريح لصحيفة الرأي العام يوم السبت ١٩ يناير أنه “فنان الشعب السوداني بكل طبقاته، وصديق للكل يخدم الناس؛ وهو ظاهرة فنيّة لتفرّده وتعاطيه مع الفن بصورة مختلفة. كما تكمن عبقريته في كسره للتقاليد وخروجه عن المألوف”، مشيرًا إلى أنه يعتبر من أجمل الأصوات التي مرّت على السودان “ومن أنبل الأشخاص، ظل يعطي من غير أن يفتر.”
قال عنه الفنان عبد القادر سالم في تصريح لوكالة السودان للأنباء يوم إعلان وفاته “إن الفنان محمود عبد العزيز شخص استثنائي لم يتكرر في تاريخ الفن، وهو أحد عظماء الفن في السودان، وله إسهامات واضحة في المجتمع السوداني، وتجمّع آلاف الناس دليل على حب الشعب السوداني له.”
رغم أنه لم يكن له انتماء سياسي واضح، إلا أن جميع الأحزاب بلا استثناء كانت تتسابق في نعيه والكتابة عنه على شاكلة بيانات وتصريحات من قادتها. اعتبره زعيم حزب الأمة القومي وإمام الأنصار، الصادق المهدي “أيقونة الفن السوداني”، مضيفًا أن له شعبية “مُستحقة” منقطعة النظير في أوساط الشباب. أشار الصادق أيضًا إلى أن أداءه الغنائي ساهم في شدّ الشباب السوداني إلى الأغنية السودانية، وما أسماه بـ “سَوْدَنَة الوجدان الفني لدى شبابنا”، معتبرًا في حوار مع الشباب عن محمود بالأحد ٢٠ يناير الماضي أنه كان فنانًا موهوبًا “جادًا في أدائه الفني، ومبدعًا في أساليبه الفنية.”
أما عن إمكانياته الغنائيّة، يلفت الصحافي الكبير والناقد الفني ياسر عركي إلى أن “محمود بسط أسطوريته الخالدة بصوته الواسع والممتلئ، وبدفء حنجرته الطرية المطاوعة لأصعب الألحان”، مشيرًا في مقالة نشرها على صفحات صحيفة الدار الاجتماعية يوم الثلاثاء ٢٢ يناير، أن بعده الصوتي يمنحه حرية الانتقال من سلم موسيقي إلى آخر بسلاسة ويسر. أوضح عركي أن صوت محمود “ينتمي إلى عائلة أصوات التينور. حيث يصنف صوته علميًّا ضمن طبقة أصوات التينور الثاني، الذي يتميز أصحابه بالخيال والتصوير والانتقال والعمق والبعد الدرامي في الصوت.” تجدر الإشارة هنا إلى أن محمود يعتبر الوحيد الذي تغنى بكل أنحاء السودان، وجرّب الغناء على أنغام تلك الأنحاء، منتجًا خليطًا موسيقيًّا متميزًا. يظهر ذلك بأجمل أشكاله في أغنيات مثل أم كحيل وغزال القوز وزينوبة وجوبا. أغانٍ حملت لونيّة وشكل الموسيقى في كل من دارفور، كردفان وجنوب السودان. أيضًا، كان مميزًا في تقديم الأغاني القديمة، أو ما عرُفت اصطلاحًا بأغاني الحقيبة. كان أداؤه لتلك الأغاني بمصاحبة العود من أجمل ما قدّم لمكتبة الغناء السودانية مؤخرًا.
يُضاف إلى ذلك إنه في العام ١٩٩٥ كانت شركة حصاد قد أنتجت له ألبوم سكت الرباب، الذي سُجّل في العاصمة الروسيّة بمشاركة فرقة روسيّة أشادت بصوت محمود، وأكدت على أنه صوت نادر في العالم، معتبرةً أنه يمتلك حنجرة مثل الآلة يمكن أن تنتقل إلى أية درجة صوتية بكل سهولة.
غيّب الموت صبيحة الخميس ١٧ يناير للعام الحالي ٢٠١٣ – بحسب الإعلان الرسمي – فنان الشباب السوداني الأول في مستشفى ابن الهيثم في العاصمة الأردنية عمّان، والتي نُقل إليها بعد صراع طويل مع المرض. كانت الأخبار عن تردّي حالته الصحية وموته دماغيًا قد وصلت إلى الخرطوم قبل يومين من هذا الإعلان.
فور سماع نبأ وفاته، انتقل عشرات الآلاف من الرجال والنساء والأطفال من كل قطاعات الشعب السوداني إلى منزله في حي المزاد، وإلى مطار الخرطوم. أدى ذلك إلى توقف الحياة بشكل كامل في عدد من المناطق والشوارع الحيوية في العاصمة الخرطوم ومدينة بحري. في ذلك اليوم أُغلق مطار الخرطوم الذي تقاطرت الجماهير إليه بكثافة قُدرت بحوالي ١٠ آلاف شخص.
فشلت السلطات في السيطرة على هذه الجموع التي احتلت مدرج الطائرات وأغلقته، الأمر الذي أدى إلى تعليق كل الرحلات الداخلية والخارجية لساعات عدة. حتى فرّقت القوات الأمنية الجموع باستخدام الهراوات والغاز المسيل للدموع، ليسقط المئات من الجرحى، إلى جانب حدوث أضرار جسيمة في الصالات الداخلية للمطار، وتلف عدد كبير من السيارات الحكومية.
حمّل الكثيرون قوات الأمن مسؤولية هذه الأحداث المأساوية – والتي عمل الكثير من معجبي محمود وأصدقائه وأقربائه من أجل تفاديها. تسبّب التضارب في بث المعلومات، إلى جانب الإصرار الشديد على مواراة الجثمان بأسرع فرصة ممكنة، في الفوضى التي حدثت في هذا التشييع. يعزز هذا الرأي معرفة السلطات المُسبقة بصعوبة السيطرة على “الحوّاتة”، اللقب الذي يُطلق على جماهير محمود، والذي عرف عنهم تدمير عدة مسارح في السودان في مناسبات مختلفة – آخرها مسرح الجزيرة بمدني في خواتيم شهر نوفمبر الماضي – بسبب تأخر صعوده على خشبة المسرح.
كان مشهد إنزال التابوت لهذه الجماهير، وانسحاب قوات الشرطة دون تنظيم عملية الدفن، أمرًا استهجنته أسرة محمود وكل المقربين منه. في حين أن قوات الشرطة قامت بالتمويه على الجماهير في مطار الخرطوم بإخراج سيارات إسعاف فارغة من البوابة التي يراها الجميع، ثم إخراج جثمانه من جانب آخر بعربة كبيرة مكشوفة؛ مجتهدةً في إيصاله إلى المقابر دون أن تحضره إلى منزله، وبدون أيّة إجراءات تأمينية لعملية الدفن.
يرى البعض أنه لو انسحبت قوات الشرطة منذ البداية لكان جرى الأمر بشكل أفضل، خاصة أن الكثيرين طالبوا بعدم تدخل الشرطة في استقبال جثمان محمود عندما انتشرت المعلومات المغلوطة عن مواعيد حضوره وخط سير النعش.
تساءل الكثيرون عن السبب الذي يجعل السلطات تلاحق محمود عبد العزيز حيًّا وميتًا لترهقه كل هذا الإرهاق. لهذه الملاحقات قصص كثيرة وروايات مختلفة، ظل يعاني منها إلى أن دخل جسده النحيل تراب القبر، وسيظل وجدان السودانيين يتواتر الحديث عنها لأجيال متلاحقة، كما ستتواتر هذه الأجيال أغاني محمود عبد العزيز.