.
كانت على وجهه مشاعر الخوف لا تخطئها عين. صعد شاب عشريني بشعر منسدل وملامح حائرةٍ تبحث عن شيءٍ ما إلى خشبة مرتفعة قليلًا، في ردهة فندق النيل هيلتون بالقاهرة، معانقًا دُفًا كبيرًا؛ ثم انطلق في وصلة جنونية لا تتوقف من الضرب على الدف وتدويره على طرف إبهامه كاللولب. كان يقذف به فجأةً إلى أعلى ثم يلتقطه بطرف إصبع ويعاود وصلة الإيقاع، فيما كانت أنظار الجمهور ترتفع وتسقط متابعةً حركة الدفّ يتلوى بين الأصابع. في الصف الأول جلست أم كلثوم بكامل وقارها، إلا أن حركة الشاب مع دفه العجيب حررتها من سجن الوقار، فأخذت تتفاعل بالضحك والتلويح بالأيدي. حين بلغت الوصلة خاتمتها، اتكأت قليلًا نحو صالح المهدي، مؤسس الأوركسترا السيمفوني التونسي، ملتمسةً منه أن يعيد الشاب، الذي عرفه المهدي بأنه يدعى الهادي حبوبة، وصلته. انتفض المهدي من كرسيه، كالذي يتخبطه الشيطان من المسّ، وقبل أن يختفي حبّوبة وراء الستارة همزه هامسًا: “أم كلثوم تريدك أن تُعيد.”
تلعثم الشاب قليلًا فأعرض عن الردّ، وحين أراد أن يلتقط دفه مرة أخرى فقد توازنه من شدة الرهبةٍ، وعند السنتيمتر الأخير، استعاد التوازن دفعةً واحدةً فحوّل اقترابه من الأرض إلى لقطة فنية راقصة، طربت لها القاعة فعاد إليه الصدى تصفيقًا.
مرت أكثر من خمسة عقود على تلك الرحلة، تحول خلالها الشاب العشريني إلى أسطورة، إلى البلدوزر التي فتحت الطريق أمام أجيال من مغني المزود. ليس ذلك فقط، بل الرجل الذي أسس المزود في شكله الذي نعرفه اليوم، حين نحته من خامةٍ تشكلت على مدى عقود في هوامش تونس المنسية، ومسح عنه غبار الاحتقار الطبقي والسياسي والأخلاقي، متحديًا بذلك سلطات ثلاث: الدولة المتحكمة، والثقافة المهيمنة، والأخلاق السائدة. لكن ذلك التحدي لم يكن في شكل صراع، بل شأنه شأن الماء حين يُسد مجراه فيبحث عن مجرًى آخر.
حين سئل الهادي حبوبة يومًا عن مساره وكيف يلخصه، قال: “الغرام”. قصة حبّوبة مع المزود قصة شغف مازال متوهجًا كيومه الأول، في مسيرة تزحف نحو عقدها السادس على مهل. الطفل الذي ولد عام ١٩٤٩ لعائلة نازحة من الجنوب التونسي، واكتشف صوته لأول مرة في كُتاب جده داخل أسوار مدينة تونس القديمة، تنبه باكرًا إلى سحر الإيقاع. بين مدرسة نهج دار الجلد وبيتهم الصغير في حي باب سويقة، كان يضرب على صدره مصدرًا أصوات إيقاع، وربما رافقها بغناء كلمات كان يسمعها في حفلات الأعراس الكثيرة التي تقام صيفًا على سطوح المنازل وبين الأزقة والساحات.
تطور الأمر إلى استعمال علب معجون الطماطم والتلصص على جلسات هواة الغناء الشعبي في باب الأقواس والمركاض وباب سعدون؛ وحين جادت عليه الأقدار بأول هدية عيد بدّد ثمنها في شراء دربوكة. شكل ذلك الانبهار الباكر بعوالم الفن الشعبي والإيقاع على الناحية الأخرى بعدًا منه عن المدرسة، وسط معارضة أبوية. في الوقت نفسه كانت المدينة العتيقة تضم المدرسة الرشيدية، حيث انخرط حبّوبة مبكرًا في الكورال وتعلم بعض قواعد الموسيقى وأصبح جزءًا من المجموعة الصوتية التي ترافق فرقة المدرسة في جولاتها لغناء المالوف.
في البيئة التي ولد وعاش فيها الهادي حبوبة، كان الغناء الشعبي يسمى المزود. لون تشكل على مدى عقود، بدايةً من مطلع القرن العشرين إلى حدود الخمسينات عندما أخذ شكله الذي نعرفه، من روافد متنوعة: المدائح الدينية المتسربة من الزوايا ومراقد الأولياء، والإيقاعات الإفريقية القادمة من رواسب تجارة العبيد القديمة، والأغاني البدوية التي جاءت بها موجات النزوح نحو العاصمة تونس منذ منتصف القرن التاسع عشر.
قام هذا اللون على هيمنة آلة المزود (قربة النفخّ المصنوعة من جلد الماعز)، وكان متفلتًا من كل النواميس، لجهة نوعية كلمات أغانيه التي تحاكي حياة الهوامش الصعبة في المدينة، ولجهة شكل أدائه. في ذلك الوقت لم يكن هناك فنانو مزود بالشكل الاحترافي الذي نعرفه اليوم. كانت جلسات المزود تقام للمتعة، حيث يجتمع هواة الفن على مائدة من الخشب مدورة الشكل، قريبة إلى الأرض وعلى سطحها ما تجود به الأيام والظروف من الطعام والمشروبات الكحولية، وأحيانًا حشيش التكروري (القنّب الهندي). يتصدر الجلسة عازف المزود وبجانبه ضارب الدف وضابط الإيقاع بالدربوكة، ورابع يضرب على الدربوكة ويسمى الوراق. يردد الجميع أغانٍ سائدة يدور أغلبها حول الحب والغربة والأم والحزن والحظ العاثر والاستغاثة بالأولياء الصالحين، وربما تنتهي الجلسة بتبادل اللكمات أو تقاذف الشتائم في أحسن الأحوال.
حينذاك، منتصف ستينيات القرن الماضي، بدأت شهرة الهادي حبوبة تَذيع بوصفه ضابط إيقاع بارع على الدربوكة؛ وقد اشتغل منذ يفاعته مع أسماء كبيرة في المجال، مثل الناصر الحامي والشيخ الخطوي بوعكاز، ورائد الغناء البدوي إسماعيل الحطاب، وعبد الحميد المطماطي، والأخوين حمزة وعزيز التريلياتي. أصبح بعد ذلك عضوًا في فرقة الراقصتين زينة وعزيزة. إلى جانب معارضة الأب البيولوجي، حال أمام شغف حبوبة بالمزود معارضة الأب السياسي للأمة. حينذاك كان المزود شبه ممنوع في الفضاء العام، لاسيما في الإذاعة والتلفزيون وفي النشاطات الثقافية الرسمية.
لم يكن ذلك الرفض خاضعًا لسبب محدد، لكنه رفض صادر عن أعلى سلطة في البلاد، الرئيس الحبيب بورقيبة. يروي عبد العزيز قاسم، المدير العام الأسبق للإذاعة والتلفزيون في عهد بورقيبة، أن الرئيس كان “يعتبر المزودة آلة سوقية، مع أنه كان يحب صوت الزكرة، رغم حداثيته التي تكره البداوة. لأنها كانت آلة يستعملها المتسولون وتعزف في الأوساط السوقية.” في تفسير آخر لم يأت به غيره، يذهب فنان المزود صالح الفرزيط إلى أن ذلك المنع لم يكن عن كره بل كان بسبب أغنية إرضى علينا يا لُمّيمة التي تتحدث عن حقوق المساجين في منتصف السبعينات، رواية تدحضها حقيقة أن المزود ممنوع قبل ذلك التاريخ.
كان بورقيبة بوصفه الرئيس المؤسس، مولعًا بتصديق فكرة أنه قد صنع أمة من غبار أفراد، كانوا شتاتًا بين الانتماءات المختلفة؛ وأكثر ولعًا بتربية هؤلاء بوصفه أبًا لهم وللأمة. باكرًا وقبل الاستقلال، كان بورقيبة يرى – من خلال مقالاته وخطبه – أن “التعافي الوطني يعتمد إلى حد كبير على التعافي الأخلاقي للأمة وتجديد العقليات.” مدفوعًا بالفلسفة الوضعية التي أغرم بها منذ سنوات دراسته في باريس مطلع القرن العشرين.
اعتقد بورقيبة أن “قوة الدولة وحدها هي التي يمكنها ضمان الأمن والرفاهية وإعطاء محتوى حقيقي لمفاهيم التقدم والحضارة”، لذلك قرّ عزمه منذ صعوده السلطة منتصف الخمسينات على صياغة برنامج كامل تسيطر فيه الدولة على المجال والمجتمع، لتعيد تشكيله وفق رؤيته العلمانية والغربية للتقدم والحضارة. من خلال قوة الكلمة، في خطبه التي تذاع على مدار الساعة مسجلة في الراديو والتلفزيون، توهم الزعيم أنه قد دخل “حربًا ضد الغرائز السيئة لإصلاح العقليات” كما يصفها عياض بن عاشور، في دراسته حول بورقيبة والتعافي الأخلاقي Yâdh Ben Achour -La réforme des mentalités : Bourguiba et le redressement moral -Tunisie au présent : Une modernité au-dessus de tout soupçon ? -p. 145-159 -institut de recherches et d’études sur les mondes arabes et musulmans، Éditions du CNRS - Aix-en-Provence 1987.
في هذا السياق يمكن أن نضع المنع الضمني للمزود من أن يكون جزء من الألوان الغنائية التي يستمع لها الناس في الإذاعة، حيث كان رمزًا لكل تلك الغرائز السيئة من وجهة نظر أخلاق الدولة الرسمية. أما الوجه الثاني لهذا المنع، فهو متعلق بهمينة نخب ما بعد الاستقلال، كما يصفه علي سعيدان في كتابه ملحمة المزود، حيث يشير إلى أن موقف المثقفين تجاه التعبيرات الشعبية، ومن بينها المزود، كان متطابقًا عمليًا، رغم تنوع مشارب هؤلاء المثقفين بين مدارس غربية وعروبية ودينية. في أحسن الأحوال كانت هذه التعبيرات بالنسبة لهم مجرد مظاهر فولكلورية وفي أسوأها مظاهر تخلف، ومن المتوقع أن تختفي هذه “العيوب” الاجتماعية مع تطور وتقدم البلاد.
لذلك وجدت النخب نفسها في نفس موقف إنكار التعبيرات الشعبية سواء من الناحية الأخلاقية أو من وجهة نظر التقدم والحداثة. انعكس ذلك بشكل أساسي على المجال الثقافي، المحتكر من طرف الدولة والذي لا يعترف بـ الثقافة الشعبية إلا بوصفها “فولكلور”، يتم عرضه كمنتج غريب للسياح.
قبل أن تغادر فندق النيل هيلتون، تركت أم كلثوم خمس دعوات خاصة لأعضاء الوفد التونسي لحفلها في مسرح سينما قصر النيل، الذي أقيم في ٦ شباط / فبراير ١٩٦٩. كان لافتًا أن الهادي حبوبة من بين الذين وصلتهم الدعوة. مجرد شاب جاء مصر ضمن وفد تونس لإحياء ألفية مدينة القاهرة، ليضرب الدٌف أو ليقف في الكورال كما فعل في أغنية يا مصر إليك من الخضراء سلام، التي غناها كل من أحمد حمزة ونعمة وعُلية وكتبها جلال الدين النقاش خصيصًا لهذا الاحتفال.
قبل أن تنهي أم كلثوم حفلها تسرب حبوبة إلى الخارج، فيما كان مذيع الربط حسين شاش واقفًا على مسرح قصر، ليقدم وصلةً شعبية في مكان آخر. منذ ذلك الوقت كان حبوبة مصرًا على سلوك طريق المزود دون غيره. لم تؤثر فيه سياسات المنعّ الرسمية، ولا إغواء الفن الطربي، وفي تسربه من حفل أم كلثوم كي يدرك وصلةً شعبيةً في مكان آخر يكشف عن عناد وإيمان بما يفعل، تمظهر في السنوات اللاحقة على نحو أشد وضوحًا.
بعد رحلة القاهرة طار حبّوبة إلى باريس ليشرع في سلوك درب الخروج. بين أوساط الجالية المغاربية بدأت سمعته كفنان شعبي وراقص بارع، وفي باريس بدأ في تسجيل بعض الأغاني الشعبية، دون أن يتخلى عن المزود كآلة مرافقة. حتى جاءت سنة ١٩٧٤، عندما سجل أغنيته بجاه الله يا حبّ اسمعني، التي ولدت من خلالها ظاهرة الهادي حبوبة وتجلت للجمهور بوضوح. كأنه كان يريد أن يصرخ “بجاه الله يا العالم اسمعني”. كانت أغنية تراثية يقول حبّوبة أنه كان عليه أن “يعمل وقت طويلًا لكي يشذبها ويقدمها للجمهور بسبب فحش كلماتها الأصلية” Salem Trabelsi - Hédi Habbouba à Carthage : Un retour réussi – La Presse - 1 Août 2004..
منذ ذلك الوقت شرع الهادي في تعقيم المهنة: وضع لها نظامًا خاصًا، فلا جلوس على الأرض بعد اليوم ولا موائد تضم قوارير البيرة والبوخا، ولا عراك ولا شتائم. يجب أن يكون فنان المزود كغيره من الفنانين له ملابس خاصة وطقوس عمل مميزة وشكل يزاحم به في معمعة سوق الفن. تعاقد النجم الصاعد مع شركة أسطوانات فرنسية وفتح مكتبًا للعمل وصمم ملابسًا خاصة قوامها القمصان الحريرية الملونة ذات الأكمام الفضفاضة، والسراويل السوداء التي تلمع عند انعكاس الضوء عليه فوق المسرح، والأحذية ذات الأنوف الدقيقة والنعال الصلبة. داوم على الجري صباحًا والبروفات مساءً، قاطعًا مع صورة فنان المزود صاحب الوشوم الكثيرة وبطاقة السوابق العدلية المزدحمة بسنوات السجن وجرائم العنف والسكُر في الطريق العام.
ترافق مسعى حبّوبة لتطهير المزود مع تشبث شديد بالمزود نفسه كصوت وآلة. حتى أنه رفض في نهاية السبعينات عرضًا مغريًا من شركة أسطوانات باركلي العالمية لتسجيل أغانيه باستعمال الآلات الغربية وإقصاء قربة النفخّ.
كان لابد لحبّوبة أن يطل على تونس من نافذة باريس كي يجد فيها قبولًا. أدت شهرته في فرنسا وأسطواناته المطبوعة مع شركات فرنسية إلى وصوله نحو بيوت ومنازل الطبقات العليا والشرائح العليا من الطبقة الوسطى في تونس. مخترقًا كل الحواجز السياسية والأخلاقية التي وضعتها السلطة والمجتمع، وجد الشاب الثلاثيني نفسه فجأةً محبوبًا لدى عائلات القلة المهيمنة في البلاد. حيث أقام حفلات خاصةٍ كثيرةٍ في بيوت وزراء ومسؤولين في الحزب الحاكم، والطريف أن من يحضرونها هم الذين يقومون بمنع إذاعة أغانيه في الإذاعة والتلفزيون.
لم يكن سبب هذا الميل نحو المزودّ في سبعينات القرن العشرين فقط شهرة حبّوبة خارج تونس، بقدر ما كان معبرًا عن تفكك آليات السيطرة التي وضعتها دولة الاستقلال وزعيمها الأوحد. ذهب علي سعيدان، الذي غنى حبّوبة من كلماته رائعته في رثاء الشاعر محمد خذر جديرة بلحن الهادي قلة، في كتابه ملحمة المزود، إلى أنه “منذ بداية السبعينيات، حدث تطور مهم في الاهتمام بالثقافة بشكل عام وبالثقافة الشعبية لدى بعض الطلاب والشباب أو الباحثين المتعاطفين مع أفكار التقدم واليسار. زعزعت أفكار اليسار الجديد أفق البحث والاهتمام وأطلقت ما أصبح يعرف بالعودة إلى الذات، بداية من خلال الاهتمام السوسيولوجي والأنثروبولوجي، ثم من خلال دوافع سياسية وفكرية تولدت من دوافع طبقية، حين بدأت قطاعات واسعة من سكان المناطق الشعبية والريفية في الوصول إلى درجات علمية جامعية، ما شكل نوع من الصحوة والبحث عن عناصر الهوية في العمارة والثقافة والتقاليد، في محاولة للإجابة عن سؤال: من نحن؟” Ali Saidane - La saga du Mezoued en Tunisie - Sindbad éd 2014.
خلال النصف الأخير من السبعينات استقر حبّوبة، في الضمير الشعبي، ملكًا للمزود بلا منازع. ساعده ظهور شركة صوتيات تونسية هي ملولي فون، التي أصبحت من خلالها أغانيه متاحةً في السوق المحلية، حيث نشرت له عام ١٩٧٧ كوكتيلًا ضم أغاني: لو كان يراني باباي، وعروبيات حبّوبة، وبابا عبد الله وفي غيبتي يا البية؛ وفي عام ١٩٧٨ نشرت له أسطوانته التي لاقت النجاح الأكبر، وضمت أغاني: عندي غزالي وعويشة وقلبي مجروح وقلبي الي حبّك.
في عام ١٩٧٩ نشرت ملولي فون لحبّوبة أسطوانة ليلة والمزود خدام، التي مازالت تحافظ على بريقها وشغف الجمهور بها؛ وعند مستدار الثمانينات، لم يعد الهادي حبوبة مجرد ملك متوج للمزود، بأغانٍ راسخة مثل ريدي رفيق العمر وروح من السوق عمار، بل صانعه من شتات الهوامش وجلسات الفتوات في الأحياء الشعبية والمرتقي به إلى سطح المجتمع، حيث البريق والشهرة والمال والاعتراف. يعتقد حبّوبة أن المزود كان مجرد جوهرة بيد فحام، نفض عنها غبار الهامش دون أن تفقد أنفاسها المنبعثة من قربة الماعز.
في مكان ما يقول سورين كيركجور: “بمساعدةِ الشوكةِ التي في قدمي أقفزُ أعلى من أي شخصٍ يملكُ أقداما صحيحة”، ربما كانت هذه حال الهادي حبوبة، ذلك الشاب الذي أصابته صدمة المنع وعدم الاعتراف باكرًا، بقي حتى وهو كهل يعاني تلك الصدمة. يعمل بجهد دون كلل. يريد دائمًا أن يثبت لأولئك الذين منعوا المزود طويلًا من أن يأخذ مكانه في المجتمع والفضاء العام، أنهم على خطأ، لكن دون أن يصطدم معهم.
حبّوبة ليّن. عكس صديقه اللدود، صالح الفرزيط، الذي يعتبر وجه المزود الصدامي مع السلطة والمجتمع. يحقق حبّوبة أهدافه دون أن يخوض معركة واحدة. يطير إلى باريس ويعود إلى تونس منتصرًا، ومن منازل أكابر الدولة يكسر حواجز المنعّ، ويفرض نفسه كظاهرة ثقافيةٍ لا يمكن تجاوزها حتى من حراس الفن الأصيل الذين أشاحوا بوجوههم عن المزود طويلًا، ازدراءً. فوق كل هذا تعامل حبّوبة مع كبار الملحنين في تونس مثل محمد التريكي والهادي الجويني وصالح المهدي والطاهر غرسة.
لم يكتف حبّوبة بأن يكون مجرد معترف به داخل المشهد، بل عمل مثل كاسحة جليد، فاتحًا الطرق المسدودة أمام جيل جديد من فناني المزود بدأ في الظهور خلال الثمانينات، عقد الأزمة السياسية والاقتصادية الخانقة التي شهدتها البلاد؛ إذ ساهمت آثار الانفتاح الاقتصادي خلال السبعينات في ظهور تعبيرات احتجاجية جديدة كان المزود أحد سُبلها.
بدأت نسخ من حبّوبة في الظهور على الساحة. شباب في العشرين يلبسون القمصان الملونة ذات الأكمام الفضفاضة ويرقصون على المسرح رقصة النسر التي أصبحت رديفًا للنجم الكبير ودالةً عليه. فوزي بن قمرة وسمير لوصيف ولطفي جرمانة وغيرهم من شباب الأحياء الشعبية، الذين سلكوا الطريق الذي فتحه حبّوبة وصعدوا إلى النجومية. ترافق ذلك مع خروج الحبيب بورقيبة من مشهد السلطة بعد انقلاب ٧ تشرين الثاني / نوفمبر ١٩٨٧. لم يكن زين العابدين بن علي يحمل همومًا تربوية تجاه الشعب، بقدر ما كان يسعى للسيطرة عليه. لذلك لم يكن همه منع المزود أو تشجيعه.
عام ١٩٩١، قرر المخرج فاضل الجزيري كسر الحظر التاريخي على المزود من خلال عرض ضخم جمع فيه كبار فناني وعازفي المزود في البلاد، وقدمه على مسرح قرطاج تحت اسم النوبة. كان الهادي حبوبة الواسطة بين الجزيري ومحترفي المزود فنانين وعازفين، وجزءًا أساسيًا من العرض قدم خلاله أغنيته الشهيرة واكديلالي، التي أعاد غنائها حسين الجمسي بعد سنوات. لاحقًا في عام ١٩٩٣ صعد النجم إلى مسرح قرطاج منفردًا في حفل تاريخي، فاتحًا الطريق لمن بعده من مغني المزود كي يصعدوا هذا المسرح الذي ظل لعقود حكرًا على “الفن الرفيع”.
يبدو الزمن أفضل امتحان للشغف، وهو أيضًا شهادته وضميره. بين وصلته في ردهة فندق النيل الهيلتون، ونجاحه التاريخي على مسرح قرطاج عقدين وقليل من الأعوام، ربما هي دليل على أن ذلك الشغف الذي استبد بحبّوبة كان حقيقيًا ونابعًا من إيمان داخلي. أو ربما كان صدًى روحيًا لما يحبه الناس حقًا، بعيدًا عن تدخل السلطة، سياسةً كانت أو ثقافية، في تحديد أذواقهم. لذلك يعود حبّوبة في حوار مستعاد، نشر عام ٢٠١٢، للقول إن: “المزود هو ضحية نجاحه. وللاقتناع بذلك، ما عليك إلا أن تنظر إلى النجوم التونسيين الكبار – دون أي استثناء – الذين يلجأون بشكل منهجي إلى أغاني المزود. بالإضافة إلى ذلك، فإن أي شخص، ليس لديه ذخيرته الخاصة و/أو لم ينجح مع الجمهور، لديه طريق واحد فقط للهروب لتحقيق بعض النجاح: غناء المزود. مع ذلك، من المهم أن نفهم أن المزود ليس مستوردًا، بل أصوله في هذا البلد، في أعماق تونس. ما فعلته هو إزالة الغبار عن هذا الإرث وتقديمه في شكل جديد، أفضل بالضرورة. لقد قمت، بطريقة ما، بتعظيمه عن طريق إزالة جانبه المبتذل، وحتى الفاحش في بعض الأحيان.” لكنه مع ذلك انتبه – ولو متأخرًا – إلى أنه لم يكن رغم ريادته مواكبًا للتطورات التقنية: “لم تعد المزود (كأداة) مع الإيقاع الذي يرافقها فقط تناسب انفتاح هذا اللون الغنائي على المجتمعات الكبيرة في العالم. المشكلة التي واجهتني مع شركة باركلي، وهي نفس المشكلة التي جعلت الشاب خالد ما أصبح عليه اليوم، هي أنها طلبت مني أن أترك آلة المزود جانبًا للاحتفاظ فقط بالإيقاعات. لقد رفضت من جهتي، وهي رفضت من جهتها. لكن انتهى بي الأمر إلى فهم أن الأدوات الغربية أصبحت ضرورية للغاية، وأنه لا يمكننا فعل أي شيء بدونها.” Sans fausse modestie, je reste une école» - Ils ont fait les festivals : Hédi Habbouba - La Presse de Tunisie le 24 - 08 – 2012
يروق لي دائمًا ذلك التفريق المنهجي الذي وضعه الصحافي السوري الراحل رياض نجيب الريسّ، في سيرته الذاتية آخر الخوارج؛ أشياء من سيرة صحافية رياض نجيب الريسّ - آخر الخوارج؛ أشياء من سيرة صحافية – منشورات رياض نجيب الريسّ – بيروت ٢٠٠٤.، حين انتصر في ترجمة outsider لكلمة خارجي، بدلًا من اللا منتمي الذي أثبتها منير بعلبكي في ترجمة رواية كولن ولسن، التي حملت الكلمة عنوانًا. عندما أقلب سيرة الهادي حبوبة لأبحث لها عن عنوان أهتف في سري أول الخوارج. لكنه خروج ناعم لينّ، لين الماء باحثًا عن مسارب دون ضجيج الصراع. حتى لو كان جبنًا، هو جُبن خلّاق.