.
من تجربتي الشخصية في الاستماع لواحد من أهم المواد الصوتية الآتية من البادية التي تجبرك على اللحاق بها حيث تريد، اندفعت بتلقائية إلى مراقبة هذا اللون البدوي الفريد. بدأ كل شيء من مشهد بسيط، رجلٌ ولدته البادية وترحّل كثيرًا بين شسعانها على ظهر جَمَله، وحين أكلته وحشة الطريق في واحدة من رحلاته الطويلة، حاول إيناس نفسه فراح يرمي جملًا صوتية على إيقاع مشية جَمَله. لم يدرك هذا البدوي الشاعر بالضجر أنه صنع فنًّا موسيقيًّا سيعيش طويلًا ويكون اسمه هجيني.
هناك أغانٍ تجرّ وراء نهاياتها رأسك وسمعك بصرف النظر عن جودة الصوت. هذا ما حدث عندما استمعت بشكل عشوائي لإحدى أهازيج الهجيني لأفراد من الجيش الأردني في الصحراء، كانوا يهيجنون بكل تلقائية وخشوع لمدة ثلاث دقائق بإيقاع رتيب وقصير تقريبًا، بصوت مشوّش وواضح بصعوبة، بسبب هواء الصحراء القوي والتصوير البدائي، لكن بشكلٍ ما تشعر وكأنك تستمع إلى أغنية حديثة مسجّلة البارحة في استوديو احترافي.
دفعني هذا المقطع المغمور على يوتيوب للبحث طوال هذه المدة عن فنٍّ ما زال خصبًا للتطوير والإمتاع، قادم من صحراء الحجاز مصقولًا ومكتسبًا لشعبيته في الأردن، خاصة في البادية وجنوبها، المناطق التي تسكنها العشائر.
في لقاء مطول مع رعد الزبن مؤلف موسيقي ومهتم بتطوير ودراسة التراث الموسيقيّ الأردني، حكينا عن هذا اللون البدويّ المتشكّل والمختلف على تسمياته بين كل منطقة وأخرى. ذكر رعد “فن مثل الهجيني يحتاج إلى أذن قوية وثقيلة لتمييز لحنه ومَدّه الموسيقيّ. كما يمكن أن تُسمّى أغنية معينة هجيني في البادية مثلًا، لكن في الريف يُطلق عليها أسم أخر.”
برأيي، لا يحتاج الهجيني إلى هذا التعقيد البحثي أو التصنيفيّ، موسيقى بسيطة لا تأخد وقتًا طويلًا حتى تآلفها روحك، مجرد مدٍّ طويل لأسطر شعرية تنتهي بنفس المدّة الصوتية. هنا المفارقة، فمع أنك تعرف مسبقًا أنّ اللحن نفسه تندفع نحو كل مقطع موسوم بكلمة هجيني، حيث يعطي التلوين الكلماتيّ للأغنية بُعدًا خشوعيًا ويحوّل كل عمران المدينة حولك صحراء.
هذا ما يُصعّب مهمة المؤدي، ويقلل نسبة فنّاني هذا اللون الذي لا نعلم إن كان سيظل محصورًا في دائرة الأعراس الشعبية دون محاولات تطوير.
جمهور الهجيني الوفي ومحاربينه القدامى هما كبار السن المتشبّعين من الهجيني ولا زالوا في توق دائم له، لذا الغناء أمامهم ليس سهلًا، فأنت تؤدي أمام أساتذة بالهجيني يحفظون عن ظهر قلب النبرات، وطريقة القَفلْة الموسيقية للبيت الواحد، هذا ماقاله لي شرحبيل التعمري الذي التقيت معه لمدة ربع ساعة في حفلة أقامها على البحر الميت، شرحبيل الذي اشتهر بغنائه للدحية والهجيني، ويمتلك شخصية كاريكاتيرية ممتعة أثناء حفلاته.
سألت شرحبيل بضعة أسئلة عمومية عن الهجيني وعن إذا ما كان محافظًا على شعبيته في الوقت الذي يغرق فيه السوق بالبوب والأغاني الحديثة بمختلف جنراتها، وكانت الإجابة مفاجئة: “أغلب اللي بطلبوا هجيني بالحفلات شباب صغار،” وأكمل “أنا حفلاتي بالعادة ثلث ساعات بيكون منهم ساعتين هجيني.”
عن إمكانية تطوير الهجيني قال شرحبيل: “ترا إحنا بالأردن طوّرنا كثير على الهجيني، حطينا عليه إيقاعات ولعبنا بالعود.” سألته بشكل مباشر عن إمكانية إدخال آلات حديثة وصاخبة وإيقاعات غير تلك المعتادة، وكون الهجيني يتميّز بثباته الإيقاعيّ وتكراره طوال الأغنية، ضحك واستنكر “لا يا زلمة شو بدنا نخربه” وضّحت أكثر أننا لن نمسّ بأركان أغنية الهجيني أو مدّها الموسيقي “آه ممكن إذا ما خالفنا المدة الموسيقية لسطر قصيدة الهجيني.”
“قطعت أنا حدود سوريا
وأنا على الزين دواره
ياحارس السجن/الشيك بعد إعادة إنتاج الأغنية عدّة مرّات، بدّل بعض المغنّين على كلمات القصيدة الأصلية، لتناسب السياق الزماني والمكاني الذي أعادوا فيه غناءها. وافتحلي
ومن الكرك جيت زواره“
واحدة من أهم أشعار الهجيني، القصيدة التي كتبتها الشيخة حجزة العمرو والدة الشهيد خالد هجهوج المجالي، الذي كان يقود اللواء المدرّع الأربعين في حرب تشرين ١٩٧٣ على الجبهة السورية.
في الوقت الذي أسقطت فيه معظم كتب التاريخ قصص تكاتف بلاد الشام وتآخيهم، وبالأخص رواية مساندة “سباع” الأردن والمجالي في حرب أكتوبر ١٩٧٣، تظهر قصيدة مغناة يتناقلها الشباب والجدّات تخلد القصة، لتكون القصيدة – التي كتبتها الأم في لحظة حزن على ابنها الذي كان آنذاك محبوسًا – هي المؤرِّخ والمؤرَّخ والذكرى.
بحثت مطوّلًا على يوتيوب، فوجدت أكثر من خمس نسخ للقصيدة، كلّ واحدة لها الروح الخاصة بها، مع أنها نفس الكلمات ونفس اللحن تقريبًا، وهذا مايجعل الهجيني رغم جموده قادر على إرباك رأسك.
في النسخة الأقدم من القصيدة يظهر أفراد من الجيش الأردني يفترشون الصحراء في لحظة تَخلّي عن الدنيا وما فيها ليهيجنوا تلك الأبيات. للوهلة الأولى قد تبدو الكلمات غير مفهومة، وكأن الكلام يخرج من الشفتين واللسان ثابتْ، وهذا أول أشكال الهجيني الموسيقية، الاعتماد على لحنية الكلام لا على الكلام وحده. أما في نسخة أيوب الجليدان من فلسطين، تدخل على لحن الأغنية إيقاعات بشكل بسيط مثل التصفيق، والطبلة، مع صوت أورغ كهربائي يلاحق نفسه داخل دائرة الهجيني المعتادة.
أما النسخة التي أفضّلها بعد الأصلية هي التي غنّاها أمير ابو عبود فنّان الهجيني والدحية الأول في فلسطين، صاحب الأغنية المشهورة تلعب في قلبي وأنا أطيعك. في نسخة أبو عبود المسجّلة احترافيًا في في استوديو يطرّز الأغنية بالأوتوتيون والميلوديز – المعزوفة إلكترونيًا – المتنوعة أكثر من جميع النسخ التي سبقتها ولحقتها.
في الأردن، لم يُطوّر الهجيني عمومًا، وهذه القصيدة المهمة بشكل خاص، والمحاولات التي حصلت هي تأخير برأيي لهذا النوع، عدا نسخة واحدة، سُجّلت بكاميرا هاتف لصبايا الكرك يلعبن على العود بطريقة تكسر حزن القصيدة الأصلية، وتنقلها كما هي لعقدنا الحالي. رغم التنافر بين القصيدة والحالة الطربية التي كانت في الفيديو، إلا أنها أكسبت القصيدة بُعدًا جماليًا آخر، أشبه باستدعاء لماضٍ حضر مع العود.
لا يتعدّى خطاب قصيدة الهجيني مواضيع الشعر البدوي المعتادة، الفخر بالنسب، الشجاعة، وتَغيّب المحبوب، مع تفخّم النبرة الكلامية للحزن في أغاني الهجيني، حيث يُدلّع الحزن ويؤنّب ويتغنّى به، إذ أن الحياة التي عاشها أو يعيشها البدوي يصعب فيها رؤية المحبوب، وهو في انتظار دائم للمحبوبة التي لا يراها إلا ثوان مصادفة، فيُكثّف الحزن بحضور الحب في القصيدة هناك أيضًا سمة مميزة في قصائد الهجيني المغنّاة، إذ لا تبدأ القصيدة عادةً إلا في طلب المغنّي من الحضور الصلاة على النبي أو ذكر الله. لست متأكدًا إن ما كانت هذه الإضافة من المغنّي أم من القصيدة نفسها، كما في: ’أنا ألّفت الكلامِ مني صلاة وصيامي / ع محمد سيد الإسلامي صلّوا عالنبي يا حضوري’ و’بسم الرحمن الرحيم يا محيي العظم الرميمِ / بسم الرحمن الرحيم سبحانك جلّ جلالك’. .
ربما ترجع أسباب عدم تطوير الهجيني في بلده، هو المحافظة على هذه الموسيقى كما هي، كرمز ثقافي وتراثي مهم، كي لا تضيع بين الموسيقات الأخرى، وتفقد تركيبتها البدويّة العموميّة، لتضل منحصرة في الأعراس الشعبية هناك خلط منتشر على يوتيوب وبين بعض المهتمين بالموسيقى البدوية عمومًا، بين الهجيني والسامر، وبحسب أغلب المراجع أنّ الهجيني هو الموسيقى، والسامر هي الرقصة التي تؤدى على ألحان الهجيني. وليالي السمر.
كمستمع ومهتم بالتراث الموسيقيّ الريفي والبدوي لبلاد الشام أحبّ أن أسمع تجارب تطوير على هذه الأنواع الموسيقية، المهمة على الصعيدين التاريخي والموسيقي. نحتاج أن نستفيد من الهجيني والأنواع الشعبية الأخرى في التكنو والبوب هاوس وغيرها، دون استشراق ذاتي أو إكزوتيكية هو بغنى عنها.