انفجار بيروت معازف
مذكّرات بيروت ما-بعد الانفجار

هذا مكاني | مذكرات بيروت ما-بعد الانفجار

عمار منلا حسن ۱۲/۰۸/۲۰۲۰

هذا المقال جزء من ملف مذكّرات بيروت ما-بعد الانفجار. ساعدوا ضحايا الانفجار عبر التبرّع إلى الصليب الأحمر اللبناني.


هذا ليس مكانك.

تحمل واحدة من جروبات الواتس القليلة التي أشترك فيها عنوان ميمز ونميمة معازف (Memes and gossip in ma3azef)، وتجمعني مع اثنين من أصدقائي المقربين: نور عز الدين، الكاتبة في معازف، وكريم شلطف، أو كما ندعوه جميعًا، شلطف، لورد الميمز الذي مسك حساب معازف على إنستجرام لحوالي العام. في السابعة إلّا ثلث من يوم الانفجار، ظهرت رسائل مقتضبة على غير العادة في المجموعة:

أنا: شلطف

أنا: إنت وأهلك مناح؟

شلطف: يس

شلطف: نور وميشو

أنا: نور وميشو تمام

شلطف: أوكي

بهذا كنت قد انتهيت من الاطمئنان على الثلاثة المقربين لي في بيروت. تضم شلّتنا الغرائبية هذه، التي لا يعرف أحد كيف تشكلت، سوريًا وفلسطينيًا من أسر سنيّة، ولبنانية ولبناني من أسرتين شيعية ومسيحية. لو تقصّدنا أن نخلق كليشيه التعايش الطائفي / القومي لما نجحنا إلى هذه الدرجة. منذ بداية العام يفكّر أربعتنا بالهجرة. نبحث أحيانًا عن وجهات مشتركة، نحاول الترويج لها وإقناع بعضنا البعض بالبقاء سويةً في البلد المقبل، فيما نقبل في أحيانٍ أخرى الفرطعة الحتميّة التي تلوح في الأفق. قبل بضعة دقائق من نهاية ذلك اليوم، تبادلنا أول نكتة ما بيننا بعد الانفجار:

شلطف: من يوم ما منعوا معن يفوت ما شفنا يوم خير

نور: معك حق والله

(نور وشلطف يتبادلان ستيكرز واتساب مصممة من صور لمعن)

معن محرر معازف. قبل عامين، في مطار بيروت، نسي إزالة ستكر إسرائيلي من على جواز سفره، ستكر لا يدل على شيء أكثر خطورة وجديّة من زيارته لأهله في فلسطين. هكذا أصبح معن ممنوعَا من دخول لبنان، وأصبح #منع_معن من أكثر الثيمات المتداولة والمتكررة في جروبنا الخاص بالميمز والنميمة. عنى هذا المنع عدّة أشياء أخرى، من بينها أننا لن نستطيع الاجتماع (كمعازف) في لبنان، لن نستطيع عقد مؤتمرات كبرى ومهمّة – لنا على الأقل – في البلد، ولن نستطيع (لو أردنا يومًا ما) أن نفتح مكتبًا لمعازف في بيروت. كل هذه الـ لاءات المصيرية بالنسبة لنا كمجلة، اتخذها الأمن العام اللبناني بالنيابة عنّا.

العام الماضي، لاحت لنا فرصة مهمّة. عملنا (فريق معازف) لأعوام طويلة بعيدين عن بعض، لم يلتقِ معظمنا بمعظمنا رغم سنين العمل، وأخيرًا دُعينا إلى الشارقة لتنظيم مؤتمر كبير للموسيقى العربية، سيتاح من خلاله لفريقنا الاجتماع للمرة الأولى. تم توجيه الدعوة إلى خمسين شخص للمشاركة في المؤتمر، من دول وخلفيات مختلفة، واستطاع تسعةً وأربعون منهم المشاركة بالفعل، بينما بقيت حتى الأيام الأخيرة أتوسل الأمن العام الإسراع بإصدار إقامتي الضرورية لحصولي على الفيزا. تسلقنا هرمًا شاهقًا من الواسطات، واستطاعت قمّة الهرم وضع ما يكفي من الضغط على الأمن العام كي يعترفوا بأنهم أضاعوا جواز سفري (الذي عُثر عليه في وقتٍ متأخر). هكذا أفشل الأمن العام أيضًا فرصة اجتماع فريق المجلّة في بلد غير لبنان.

اليوم تمر حوالي سبعة أشهر منذ تقدمي للحصول على الإقامة، العملية التي علي أن أخوضها كل عام. كان علي أن أكون في تونس الآن، الحقيقة أنه كان علي أن أكون في تونس قبل بضعة أشهر من انفجار بيروت، لكن الإقامة لم تصدر بعد، وحتى ذلك الحين أعيش تحت وطأة منع السفر البيروقراطي / العنصري هذا.

يوم السبت الماضي، كنت أراقب عن كثب شابًا عاري الصدر يقحم الطرف المدبّب لعصا حديدية طويلة خلف إحدى البلاطات التي تكسو مبنًى مطلًا على ساحة الشهداء. لم تنقلع البلاطة. ظلّ الشاب ممسكًا بالطرف البعيد من العصا بينما دفع بقدميه على الجدار، أصبح معلّقًا في الهواء، يضع كل طاقته العضلية وكل وزنه لقلع البلاطة. لم تنقلع البلاطة بعد. انتبه بضعة شبّان إلى العملية، ركض أحدهم بإصرار واندفاع وقفز لركل البلاطة بكلتا قدميه. بدأت البلاطة تتزحزح، ثم انضمّ المزيد من الشبّان، يحمل أحدهم عصا حديدية مماثلة ذات نهاية معقوفة. دقيقة وانخلعت البلاطة من مكانها، طارت في الهواء ثمّ هوت على الأرض متفتتةً إلى أربعة أجزاء وبعض الشظايا الصغيرة. هجم الشبّان على قطع الحجر الأربعة، بدؤوا يحملونها عاليًا، ثم يخبطوها على الأرض بقوّة، مرةً تلو الأخرى، بدأت هذه القطع بالتشظي إلى قطع أصغر، حتى وصلت إلى مقاسٍ مطلوب من الشظايا.

حينها، حمل كل من الشبّان أربعة أو خمسة من شظايا الحجر من ذات المقاس، وركضوا بتمهّل وبأعناق منحنية إلى الأسفل حذرًا، بمحاذاة جدار المبنى المجاور لجامع الأمين. عند نهاية الجدار انتصبت سواتر خشبية مصنوعة من مكاتب وجدران زينة اقتُلعت من داخل المبنى. اختبأ خلف هذه السواتر الشكلية عشرين شابةً وشابًا، يرمون الحجار باتجاه الأمن والجيش على الطرف الآخر من المشهد، حتى يبدأ الرصاص وتبدأ القنابل المسيّلة للدموع بالانهمار عليهم. تحمل الشلّة من أصيب منها بالرصاص أو الاختناق، ويركضون تاركين موقعهم للدفعة التالية، التي اكتشفت أنني أقف في منتصفها.

بدأت الشابات وبدأ الشبّان حولي بربط مناشف وتثبيث أقنعة غاز حول وجوههم. خبطني أحدهم بيده على صدري ليدفعني إلى إخلاء الطريق بسرعة، فيما انبثق شبح أربعة شبّان يحملون مصابًا من وسط دخّان القنابل والحرائق. بدأ الدخّان بالانقشاع، وبدأت الشلّة حولي بالتقدّم. تقدّمت معهم، يداي تحملان أربع أو خمس شظايا حجرية التقطتها بلا وعي، وبدأنا الهرولة الحذرة اتجاه سواتر الخشب، ثم إعادة نصب ما وقع منها. دقيقة بعد، وبدأ تبادل الحجارة والرصاص.

هذا ليس مكانك.

بالنسبة لشاب سوري، لا تمتلك أسرته أي علاقات أو واسطة، العبث مع الجيش والأمن في لبنان خط أحمر. لا أزال لا أمتلك فكرة عن مصير الشبّان السوريين الذين اعتقلوا يوم مظاهرة البنوك في الحمرا، رغم أن الرواية تقول إن نصفهم لم يشارك في المظاهرات من الأساس. انساكم من الجيش والأمن، حتى المتظاهرين الذين يحتشدون بعشرات الآلاف من مسرح البيضة حتى مبنى بيت الكتائب، لدى الكثير منهم مشاكل مع مشاركة السوريين في المظاهرات، ما بالك برشق الحجر. أسرتي وأصدقائي وزملائي في العمل، ردد جميعهم نسخًا مختلفة من ذات النصيحة: لا تتهور.

هذا ليس مكاني. لكن في ذات الوقت، أين مكاني؟ في تلك اللحظة، كان لا يزال العشرات من ضحايا الانفجار، الأحياء والأموات، تحت الأنقاض. هذا مكانهم. الآلاف يبحثون عن شواغر في مشافي نصفها ممتلئ والنصف الآخر متداعي. هذه أمكنتهم. مئات الآلاف يبحثون في أنقاض بيوتهم عن جوازات السفر قبل أي شيءٍ آخر. هذه أمكنتهم. الملايين في لبنان وخارجها، من اللبنانيين وغير اللبنانيين، يبحثون عن طرق لفهم واستيعاب ما يفوق الفهم والاستيعاب. هذا مكانهم. وأنا أكاد أخلع كتفي فيما أرمي الأحجار نحو ذات الناس الذين بدأت، بطريقةٍ أو بآخرى، أرمي الأحجار نحوهم منذ أول مظاهرة شاركت فيها في سوريا. هذا مكاني.

المزيـــد علــى معـــازف