fbpx .

انقطاعات سيبليوس | لغز السيمفونية المحترقة

كريم الصياد ۲۰۱٦/۰۳/۲۰

كما عُرفَ بموسيقاه، عُرف بصَمْته

الموسيقار الفنلندي الأشهر – وربما الفنلندي الأشهر على الإطلاق – يان سيبليوس Jean Sibelius تنطق بكسر كل من الباء واللام ولد عام ١٨٦٥ في هامينلينا Hämeenlinna التي كانت في ذلك الوقت ذات حكم ذاتي تابعة للإمبراطورية الروسية. توفي عن عمر ٩١ عام ١٩٥٧، وعاش عمرًا مديدًا بخلاف أغلب الموسيقيين الكلاسيكيين، حافلًا بالشهرة والمجد والنفوذ والثراء، الذين دفع ثمنهم من ملكته التأليفية وحدها. توقف سيبليوس عن التأليف عام ١٩٢٦ لمدة أكثر من ٣١ سنة حتى وفاته، وهو ما عُرف عند المؤرخين بـ صمت يرفنبا Silence of Järvenpää على اسم المنطقة التي عاش فيها. هل شعر سيبليوس أنه وصل إلى الكمال الجمالي التام؟ أم شعر بأنه وصل إلى آخر ما يمكن أن يصل إليه هو؟ هل وجد أنه حصّل من المجد والمادة ما يكفيه وقرر التقاعد؟ هل انقطع إلهامه؟ هل تسبب إدمانه للكحول، الويسكي تحديدًا، في تلف عصبي أقعده عن التأليف؟ لماذا أحرق بيديه سيمفونيته الثامنة آخر أعماله التي لم تتم؟ ما سبب ذلك الشلل الجمالي؟ والأهم من ذلك: ما دلالته الوجودية المقصود بالوجودي في هذا السياق هو الوجود الإنساني، نسبة للفلسفة الوجودية، وتختلف عن الأنطولوجي في أن الأنطولوجي مقولة أعم تنسحب على طبيعة وجود أي موجود سواء كان إنسانًا أم لا؟؟

سيبليوس ليس الموسيقار الوحيد الذي قرر التوقف عن التأليف. هناك أيضًا روسيني وفردي وبول دوكا وموسورسكي وجلازنوف وتشارلز أيفز، ولكن الاختلاف هو أن هؤلاء استثمروا ما بقي من حياتهم في تجويد أعمالهم، أو قيادة الأوركسترا، أو العزف، أو التدريس، أو العودة إلى التأليف بعد فترة (مثل فردي). المثير في موقف سيبليوس هو توقفه التام عن أي نشاط موسيقي حتى وفاته. كأنما هو موقف من الموسيقى أو الإنسان أو العالم، موقف يرقى إلى مستوى أعلى من مجرد التقاعد. وإذا كان الصمت أحيانًا أبلغ من الكلام، فإن بعض الصمت أبلغ من بعضه، خاصة حين يكون انقطاعًا لعقلية تركيبية لم يرَ تاريخ الموسيقى لها مثيلًا ربما منذ برامز.

وأبعد من ذلك: هل يمكن أن يكون هذا الصمت مفتاحًا لفهم الكلام؟ هل يصلح صمت يرفنبا مدخلًا لفهم أعمال سيبليوس عمومًا، بما يعبر عنه من موقف وجودي أصيل؟

بدايةً علينا أن نحدد معنى الانقطاع وجوديًا: ما (ظاهرة) الانقطاع بعامة؟ وكيف تنقطع الكينونة الإنسانية؟ إن الانقطاع ظاهرة تحدث في الزمان، تعبر عن سريان-لم-يعد-كذلك، وهو لا يحدث من تلقاء نفسه حين يكون الوجود الإنساني أصيلًا، ونعني بالوجود الإنساني الأصيل ذلك المؤسس على رؤية واعية للمصير واختيار حرّ للمسار؛ فحين يكون الوجود الإنساني أصيلًا بهذا المعنى لا يحدث الانقطاع إلا بناءً على اختيار مقابل حر وواعٍ بالكفّ عن الكينونة. والكينونة ليست جواب سؤال: ما الكائن؟ ولا: هل-هناك الكائن؟ بل بالأحرى جواب: كيف الكائن؟

وكي نفهم انقطاع الكينونة علينا أولًا أن نفهم سريانها. ومن خلال منظور يرى أن المفقود يحدد الموجود وجوديًا، فإن كينونة المبدع كمبدع تتأسس في محاولة التغلب على أثر الفقد، أي صناعة عالم بديل من خلال الفن، ذلك العالم الذي ينمو باستمرار وبشكل أكثر تعقيدًا، كي يحاول به الفنان مجاراة التحلل والتآكل الحادث مع سريان الزمن وتغير المكان (إن وُجد الأخير) في السيرة الشخصية أو بالأحرى الهوية الشخصية الديناميكية للفنان، سواء نجحت هذه المحاولة أم لا، وهي فاشلة في كل الحالات، لكن ما يبقى هو العالم الفني المصنوع بينما يزول الفنان طبيعيًا ووجوديًا. وبناء على هذا فإن الانقطاع عن الإبداع يعبر إما عن اكتمال العالم الجمالي الذي خلقه الفنان بما يخلصه من شعور الفقد ويغنيه عن محاولة تعويضه، أو عن فقد من نوع فريد، هو فقد تسبب فيه العمل الفني نفسه، ومحاولة التغلب على الفقد. يمكن أن نطلق على هذا النوع من الفقد: الفقد العكسي.

هل تسببت أعمال سيبليوس الموسيقية بعد تراكمها وتلقيها في فقد أبعد وأفدح، جعل صاحبها يكف عن الإبداع أملًا في إنقاذ ما يمكن إنقاذه بعدم التورط في مزيد من الفقد؟ لو صح هذا الفرض فإن سيبليوس (نصف الإله الفنلندي كما يدعوه مارك مكينا البروفيسور في جامعة سيدني) هو من أتعس الفنانين حظًا، إذ لا تفشل فقط محاولته للتغلب على أثر الفقد، بل تزيده استفحالًا. فإذا فرضنا أن هذا هو التفسير الأوّلي لصمت يرفنبا، فإن الخطوة التالية هي فهم آلية عمل أعمال سيبليوس بما هي أغشية للحماية من الفقد، وفتوحات لاستعمار ذوات المتلقين. وكي نفهم هذه الآلية يجب أن نفهم أولًا مفقود سيبليوس.

مفقود سيبليوس

تفرّد سيبليوس من خلال أعماله بما هي وسائل لمواجهة الفقد، كما تفرد بطبيعة الفقد نفسها؛ فمفقود الفنان عادة ما يكون نتيجة تبدل هائل في المحيط الاجتماعي بأنواعه أو تغير في المكان، كالهجرة مثلًا في حالة رحمانينوف – راجع ما وراء الليل – لكن مفقود سيبليوس مختلف؛ لأنه مفقود عِرقي. يقول سيبليوس نفسه إن هويته كانت دائمًا إشكالية، إذ اختلط في نسبه العرق الفنلندي مع السويدي، بحيث لم يستطع معرفة ذاته، كما ينقل عنه تومي ماكيلا Tomi Mäkelä. هل العِرق عامل محدِّد في معرفة الذات؟ في الأغلب نعم، حتى عند من ينكرون ذلك في إطار ما-بعد-عنصري أو ما-بعد-استعماري. غالبًا ما تساهم معرفتنا بأصولنا العرقية في فهمنا لذواتنا وفي قراراتنا الوجودية. هذا ليس ما يجب، بل ما يحدث فعلًا في الغالب. إذا وضعنا فوق ذلك أن سيبليوس عاش وازدهر في عصر صعود وازدهار القومية المتطرفة في أوروبا، فإن عامل العِرق ليس غريبًا إلى هذا الحد في فهم مفقوده. لقد كان فردوس سيبليوس المفقود هو السلالة النقية. وهو فردوس لم يعشْه؛ لأنه يسبق وجوده البيولوجي، ولكنه عاشه في التصور على مستوى الوجود الأنطولوجي. لقد افتقد سيبليوس نقاء الأصول ووضوحها، فناضل بعبقريته التأليفية ليصنع (عِرقًا موسيقيًا) لنفسه ولشعبه. وفعلًا، فسيبليوس هو الموسيقار القومي بامتياز، بحيث لا يجاريه في هذا الحكم الروس الخمسة العظام موسورسكي وكورساكوف وسيزار كوي وبالاكيريف وبورودين ولا أعلام الموسيقى القومية مثل برامز في الرقصات المجرية، وليست الرابسوديات المجرية والبولونيز لشوبان وسواهم؛ فقد قامت الموسيقى الفنلندية كقومية مستقلة عن كل من أوروبا وروسيا على كتفَي سيبليوس وحده تتمتع فنلندا بخصوصية لغوية نسبية حيث إن لغتها ليست سلافية ولا جرمانية، ولا تشترك معها في العائلة اللغوية داخل اللغات الهندو-أوروبية سوى إستونيا. وبينما أسس الروس الخمسة العظام موسيقى ذات خصوصية واضحة إذا ما قورنت بالمدارس الأوروبية المختلفة، وأهمها الألمانية، فإنهم لم يؤلفوا موسيقاهم لدعم الهوية الروسية بشكل مباشر، ولم يتخذوا أغلب أعمالهم ذات الموضوع أو البرنامج (شهرزاد مثلًا لكورساكوف) من التراث الروسي، ولم يوجّهوا إبداعهم لخدمة القضية القومية. أما سيبليوس فقد وجّه أغلب أعماله لدعم الاتجاه القومي في بلده بوضوح.

لم تكن إذن وراء مشروع سيبليوس الموسيقي قضية سياسية-اجتماعية-فلسفية عامة فحسب، بل قضية شخصية وجودية أيضًا. فكرة سيبليوس عن الهوية – كما يبدو في العبارة المنقولة عنه أعلاه – تتبلور في أنها ليست فردية فحسب، بل هي فردية ولكن في إطار نسق جمعي، كالقالب في الجدار المتماسك. إن هوى الجدار فلا قيمة لذلك القالب. هي فكرة مستمدة من فلسفة القرن التاسع عشر عند هيجل خصوصًا. مسعى سيبليوس الإبداعي هو محاولة إيجاد تلك المعادلة التي يمكن بها أن يكون هو نفسه عنصرًا له قيمة فيها. لا وجود لسيبليوس إذا لم توجد أولًا فنلندا، ولا فنلندا بلا موسيقى فنلندية قومية، هكذا اعتقد سيبليوس. وفعلًا، صار القصيد السيمفوني فنلانديا هو اللحن القومي غير الرسمي لوطنه.

لم يتوقف مشروع سيبليوس التأليفي الخارق عند حدود توكيد الطابع المختلف لموسيقى بلده، واستعارة الألحان الشعبية، كما في المتتاليتين الفولكلوريتين والسيمفونية الثانية وكولرفو وتابيولا Tapiola وسواها، بل تعدى ذلك إلى دعم القومية المتطرفة بشكل مباشر. ففي عام ١٩٣٤ قبل سيبليوس تعيينه في منصب نائب رئيس المجلس الدائم للتعاون الدُّوَلي للمؤلفين الموسيقيين Ständiger Rat der Internationalen Zusammenarbeit der Komponisten في ألمانيا النازية، مع كل من ألبير روسيل وأدريانو لوالدي، ورئاسة ريتشارد شتراوس نفسه مؤلف القصيد السيمفوني بعنوان هكذا تكلم زرادشت عن كتاب نيتشه بالعنوان نفسه، وسيمفونية جبال الألب التي دعاها مؤلفها باسم عدوّ المسيح وهو عنوان آخر لنيتشه. في عام ١٩٣٥ قبل سيبليوس ميدالية جوته من جوبلز شخصيًا، وزير دعاية هتلر. الملاحظ هنا، وهو دالّ في هذا السياق، أن سيبليوس قد عبّر عن ذات الروح الوثنية قبل-المسيحية التي تمجّد البطولة القومية (بخلاف بيتهوفن الذي عبّر عن بطولة إنسانية كما في إيرويكا وإيجمونت مثلًا). تلك البطولة التي عبّر عنها نيتشه وهيدجر (الذي لم يدعم النازي بوضوح لكنه كذلك لم ينتقده ولم يهرب كسواه من الأساتذة بعد صعود هتلر) في الفلسفة، وكل من ريتشارد شتراوس وكارل أورف – مؤلف كارمينا بورانا المأخوذة من نشيد وثني – في الموسيقى. استعمل سيبليوس في كولرفو وتابيولا عناصر من التراث القومي الفلندي، حيث كولرفو شخصية في الملحمة الفنلندية الشهيرة الكاليفالا، وتابيولا هو إله الغابات عند الفنلنديين قبل المسيحية. ليست لسيبليوس أية أعمال دينية تقريبًا، إذا لم نعتبر الموسيقى التي ألفها للمحافل الماسونية دينية، بعد أن صار من البنّائين الأحرار منذ عام ١٩٢٢. يذكر تيموثي جاكسون إن سيبليوس افتتن بنظرية تكوين وانحلال اللحن لهينرش شِنكر Heinrich Schenker الناقد الموسيقي النمسوي الشهير صاحب قائمة من ب إلى ب، أي من باخ (يوهان سيباستيان) إلى برامز، التي جمعت بين التركيب واللحن في توازن، تلك القائمة التي اتهمها كثيرون بالتحيز للمدرسة الألمانية تحيزًا نازيًا، وهي تستبعد فعلًا البناء المعقد الميلودي الثري والمتماسك في الوقت ذاته عند كورساكوف مثلًا و تشايكوفسكي وغيرهما.

سيبيليوس لما كان عنده شعر

لكن الملاحظ أيضًا أن مجموعة من الانقطاعات تلت هذا الدعم الواضح من قِبل سيبليوس للقومية المتطرفة أو ساوقت زمنيًا صعود الفاشية وانهيارها: ففي العام نفسه الذي قبل فيه نيابة شتراوس (١٩٣٤) توقف عن إكمال السيمفونية الثامنة، التي كان قد وعد الوكيل الموسيقي كوسفتسكي بإنهائها في تعاقد يمنح حق عزفها الأول لأوركسترا بوسطن. وفي عام ١٩٢٦ الذي صعدت فيه القومية السياسية في فنلندا بشكل غير مسبوق أكمل فيه سيبليوس تابيولا ثم توقف عن إنتاج أي عمل كامل. بين عامي ١٩٤٣ و١٩٤٥ (أعوام انكسار الرايخ الثالث) أحرق سيبليوس سيمفونيته الثامنة قرب منزله، حتى لا يبقى منها أثر يستدَل عليه، ولم تنج منها سوى ثلاثة اسكتشات.

يمكن قراءة هذه الانقطاعات في ضوء الفقد العكسي: لقد ساهم سيبليوس مساهمة لا نقول هامة بل عبقرية في تصعيد الفاشية على كل المستويات، ثم ظهرت هذه الدعوة الآثمة في تجليها الحقيقي المدمر حتى لأوطانها التي نشأت لترتقي بها. لقد نظر سيبليوس لنفسه في النهاية – في ضوء هذا التأويل – كمشارك في جريمة حرب حقيقة لا مجازًا. وهو لم ينقطع عن التأليف من باب الكف عن الذنب، ولم يحرق ثامنته من قبيل التكفير عنه، بل كان الانقطاع والإحراق نتيجة لتحول وجودي خطير في ذاته، هو فقد الهوية التي صنعها لنفسه في سلسال: لا سيبليوس بلا فنلندا، لا فنلندا بلا موسيقى فنلندية قومية، لا موسيقى فنلندية قومية بلا دعم للفاشية، لا فاشية بلا دمار جماعي قد أحاق بفنلندا نفسها، ثم في النهاية: لا سيبليوس مرة أخرى! هذا المفقود الدائري هو المدخل الأمثل لفهم أعماله فهمًا أنطولوجيًا، فيما يلي.

السيمفونية الأولى | قَصفُ الطبيعة

لم تكن الطبيعة موضوعًا مباشرًا لأعمال سيبليوس كما هو الحال في سادسة بيتهوفن مثلًا، وما شابهها، لكن الطبيعة حاضرة في كل أعمال سيبليوس تقريبًا حضورًا خلفيًا ثقيلًا وراء الألحان والتراكيب. وهي طبيعة قاصفة، يرى كثيرون أنها تمثل طبيعة المناخ المتجهم المظلم في أقصى الشمال. إنه الرعد، ذلك السديم الذي تتبلور منه كل ألحان سيبليوس تقريبًا – تماشيًا مع نظرية شنكر – فعادة يبدأ العمل بقرع مستمر للطبول، ثم تظهر منه الألحان، وتذوب فيه، ويتكرر هذا البناء ليكون من سمات التركيب عند سيبليوس بشكل بالغ التميز. السمة الثانية إلى جانب سديم الرعد هو الاستعمال القاصف للنحاسيات – على حد تعبير حسين فوزي عالم بحار وكاتب مصري صدر له كتاب عن بيتهوفن في ١٩٧١ – الذي يوحي بمزيد من الرعد أو البرق. ربما أوحى استعماله للنحاسيات بأصوات السفن في الميناء تحديدًا، ومع نبر الوتريات أو استعمالها في شكل ذبذبة إيقاعية معينة تكتمل صورة الميناء والبحر أو العاصفة. هو ذلك الالتحام بالطبيعة واستجلاب الوحي منها اقتداءً ببيتهوفن الذي احتفظ سيبليوس بتمثال نصفي ضخم له في مكتبه. تبدأ السيمفونية الأولى بطرق هادئ على الطبل بينما نسمع صوت الكلارينيت يغني لحنًا حزينًا. إنه لحن من تلك الألحان قوية التبلور الكئيبة المميزة للبناء الميلودي عند سيبليوس. هذا اللحن هو ما يتكرر في مطلع الحركة الرابعة، ليلف العمل ككل في بنية دائرية زاد ظهورها في أعمال سيبليوس مع تقدمه في العمر. ربما دلت هذه البنية على طابع صوفي يمت بصلة لوحدة الوجود رآه كثير من المستمعين والنقاد في أعماله عمومًا.

نسمع طنين الوتريات ثم تبدأ مجموعة من مجموعتي الكمان في عزف اللحن الأساسي للحركة الذي يتكرر بالنحاسيات في استعمالها القاصف بوضوح. لكن الطبيعة أكثر ظهورًا في الحركة الثانية. وبشكل عام يعد بناء السيمفونية رومانسيًا تقليديًا، وحركة تكوّن وانحلال اللحن فيها محدودة نسبيًا بالمقارنة مع السيمفونيات المتأخرة بدءًا من الرابعة. يستعين سيبليوس بالطبيعة في وجه الفقد، يستمد منها الأرض والجذور، يكوّن منها وطنًا، وهي ليست أي طبيعة، إنها طبيعة الشمال الذي منه جاء.

السيمفونية الثانية | الفولكلورية

تخطو السيمفونية الثانية خطوة أبعد في طريق التجديد الميلودي، تبدو ألحانها في تاريخ الموسيقى جديدة زاهية، وروحها مختلفة، وألوانها الأوركسترالية أثرى من السيمفونية الأولى. إذا كانت الأولى تؤسس الوطن كطبيعة، فإن الثانية تؤسسه كحكمة شعبية. يتضح استعمال الألحان الشعبية الفنلندية بالذات في الحركة الأولى، وتأتي الحركة الرابعة في صورة بطولية لافتة للانتباه، متصلة بالحركة الثالثة مباشرة مع تصعيد سريع قوي بالوتريات. إنها التغني بالبطولة الشعبية، أو بطولة الشعب، وخطوة واضحة على طريق دعم القومية موسيقيًا. الوطن الفولكلوري أقرب إلى الثقافة من الطبيعي، واستعمال العناصر الثقافية أكثر تحديدًا للهوية الشخصية – الجمعية في صيغتها الهيجلية سابقة الذكر في التقديم.

السيمفونية الرابعة | أجراس الموت

بعد مرور سيبليوس بجراحة ناجحة لإزالة ورم من الحلق – ربما بسبب السيجار الكوبي الذي صار جزءًا من شخصيته – بدأ التفكير في كتابة عمل يلخص تجربته في الإشراف على الموت. تلخص الحركة الرابعة من هذه السيمفونية تلك الخبرة بشكل مختلف، فهي ليست قرعات القدر في خامسة بيتهوفن، ولا زئير النحاسيات في رابعة تشايكوفسكي، ولا خطوات الموت الدانية التي يعزفها البيانو مع اللحن الجنائزي بالتشيللو والكمان في ثلاثية رحمانينوف الثانية (التي هي أصلًا مرثية لتشايكوفسكي)، بل هي حالة فريدة من تناغم الخوف والسلام، فكرة الموت، وشعور بالتصالح معه يبدو بطوليًا في ألحان هذه السيمفونية، إذ تظهر ضربات الجرس جنائزية عابثة، ربما مخيفة أحيانًا لمن يعلم سبب نزول السيمفونية. هذا العمل يمثل البداية الحقيقية للنضج السيمفوني عند سيبليوس، الذي تمتع بخصلة برامزية، وهي أن كل سيمفونياته على مستوى عالٍ من الجمال.

موت الذات ليس الفقد، لكن موت الآخرين بالنسبة لها كذلك، وبالتالي فموت الذات قد يكون منجاة من مفازة الفقد. يتصالح سيبليوس مع الموت الذي داعبه مداعبة قاسية (لكنها مجرد مداعبة) أثناء مرضه، ويجده – على الأقل – غير سيئ إلى هذا الحد. الموت لا يمكن أن يكون وطنًا؛ لأننا ننتهي في الموت، لا نبدأ به، ولا يمكننا فهمه؛ لأننا حين نفهمه نكون غير موجودين في هذه الحياة، لكنه في اعتبار البعض موت الألم كما هو نهاية اللذة، ودفع الآلام قد يقدَّم على جلب اللذات. لا يمكننا أن نتصور ذلك إلا حين نضع ضربات الجرس الجنائزي في هذه السيمفونية جنبًا إلى جنب مع طابع الشجن العميق الغليظ في أغلب ألحان سيبليوس.

السيمفونية الخامسة | خامسة سيبليوس

كما تميز الموسيقيون بعد بيتهوفن بعدد محدود من السيمفونيات لا يزيد عادة عن تسع، وهو ما يسمى بلعنة السيمفونية التاسعة The Curse of The Ninth فإنهم قد تميزوا بعده أيضًا بذروة الخامسة أو ما حولها، مثل خامسة شوبرت وتاسعته، رابعة تشايكوفسكي (سادسته هي الأخيرة)، رابعة برامز وهي الأخيرة له، تاسعة دفورجاك، خامسة شوستاكوفيتش وعاشرته، وغيرهم.

خامسة سيبليوس هي ذروة أعماله في رأيي، فهي تجمع بين جدة الشكل وثراء الألحان والتركيب. كانت في الأصل من أربع حركات، غير أنها مرت – كأغلب أعمال سيبليوس – بتنقيحات عديدة، لتندمج الحركة الثالثة الإسكرتسو في النصف الثاني من الحركة الأولى (بعد نهاية إعادة العرض وقبل الكودا ختام الحركة). تبدأ الحركة الأولى بنحاسيات ووتريات غليظة تذكرنا بأصوات البحر والسفن، ثم تنمو التيمة تدريجيًا، بشكل يكاد يفارق الصوناتا، حيث يحل التفاعل محل العرض (أو هي صوناتا مقلوبة كما قيل عن الحركة الأولى من تاسعة بيتهوفن). يحل الإنماء تدريجيًا في أعمال سيبليوس. ثم تأتي إعادة العرض بشكل قاصف معروف لمستمع سيبليوس، في تصعيد درامي قوي، ينتهي بإنماءات راقصة غنية، توضح مهارة غير عادية في معالجة اللحن وتلوينه، يليه جَنين الحركة الثالثة. الحركة الأولى حبلى بالثالثة، لكنها لا تفقد هويتها، ثم تأتي الكودا التي تمثل أحد أهم إبداعات المؤلف السيمفونية. تأتي الحركة الثانية متهادية على لحن واحد، ينوع عليه المؤلف حتى نهاية الحركة بأشكال عديدة، يشوبها نوع من التطويل. تبدأ الحركة الثالثة والأخيرة (التي هي الرابعة في الأصل) في سرعة بالطبل والوتريات في لحن سريع مرح، لكنه ما يلبث إلا أن يتبدل ويتصاعد ليصل إلى مزيج بين المارش والترنيمة مشتق من لحن الحركة الأولى، في روح بطولية واضحة. يتكرر كل ذلك مرة أخرى مع قدر وافر من إعادة التوزيع والتلوين والتركيب، وتنتهي بست صيحات للنحاسيات مع دق الطبل. يستعمل سيبليوس في الحركة الثانية طابعًا شعبيًا في معالجات وتوزيعات أسطورية الجوّ، بينما يستعمل في حركتها الأولى موسيقى عناصر الطبيعة، ومن كل من الطبيعة والفولكلور تنبثق البطولة.

السيمفونيتان السادسة والسابعة

يخطو سيبليوس خطوة أبعد مع السادسة، التي ابتعد فيها إلى حد كبير عن الشكل التقليدي للسيمفونية، وهي غير ذات مفتاح محدد على المقام الصغير في أصلها، وتنبني ألحانها على المقام الدورياني Dorian mode مع تأثر إلى حد ما ببالسترينا Palestrina مما يجعل ألحانها مزجًا فريدًا من الطابع الإغريقي أحد أنواع الـ Dorian mode والنضوي والجاز، الذي يستخدم فيه هذا المقام بكثافة، ذلك أن سيبليوس استمع للجاز في أمريكا في فترة صعوده في العشرينات، بينما أتم تأليف سادسته في ١٩٢٣.

تمثل السادسة عودة قوية للخلفية الطبيعية، نرى أمواج البحر في طنين الوتريات، وأصوات الريح الخفيفة غير العاصفة في الهوائيات الخشبية. إنها تعبير حي قوي عن الروح الوثنية البطولية الطبيعية التي ظهرت عند الإغريق وتكررت في عصر النهضة، ثم تكررت مرة أخرى في القرن التاسع عشر والقرن العشرين مع نيتشه وهيدجر وفاجنر وكارل أورف وسيبليوس. وهي الروح القومية التي ترى أن سر نهضة الشعب هو الروح وليس مجرد التكنولوجيا أو الأيديولوجيا (بخلاف ماركسية الاتحاد السوفييتي والتصنيع الأمريكي، حاولت أوروبا وقتها أن تستخدم مخزونها الحضاري للحفاظ على سيادتها وشبابها عن طريق القومية).

أما السيمفونية السابعة فهي أكثر جرأة وتجديدًا، وجاءت في حركة واحدة، لتكون أكثر تعبيرًا عن وحدة الوجود. بالرغم من ذلك فهي تتضمن عدة أبنية سيمفونية؛ فقرب انتصافها مثلًا نسمع دورًا واضحًا للنحاسيات في الحركات السريعة من سيمفونيات سيبليوس ذات البنية التقليدية مثل الأولى والثانية. تبدو فيها كذلك الروح الصوفية الإغريقية النهضوية والبطولية في شكل بديع متماسك. إنها موسيقى جديدة. هكذا حاول سيبليوس التغلب على فقد وطنه الخاص بإنشاء وطن الطبيعة والقومية.

كونشرتو الكمان

أحد أفضل كونشرتات الكمان المعروفة، ذو بنية رومانسية تقليدية إلى حد كبير: حركة أولى في صيغة الصوناتا (وإن كانت الكادنزا مقطع سولو قرب الخاتمة تحل فيها محل التفاعل)، حركة ثانية متهادية، حركة ثالثة سريعة في صيغة روندو معدلة. تغلب على العمل تلك الثنائية المميزة عند سيبليوس والتي رأيناها في سيمفونياته: الحزن والبطولة. وبينما تنتشر الألحان الحزينة في العمل ككل، تبرز ذرى بطولية ثلاث في نهاية قسم العرض من الحركة الأولى، ونهاية الحركة الأولى، وبعد تكرار اللحن الثاني للحركة الثالثة بالكمان. يأتي اللحن الأول للحركة الثالثة أقرب إلى البولونيز، في حين يأتي الثاني أقرب إلى الفالز. ويتمتع العمل ككل بوحدة بنائية قوية وتوازن موتسارتي بين الأوركسترا والصولو. إن سيبليوس لا يعبر عن أحزانه الشخصية في ألحانه الحَزَانَى، بل يرسم ملامح التراجيديا البطولية، إنها خطوة كذلك في بناء القومية واستعادة وطن لم يعش فيه.

السيمفونية الثامنة المحترقة

لم يبق من الثامنة كما قلنا غير الاسكتشات الثلاثة الأولى، التي يمكن مطالعتها أعلاه. لهذا ليست السيمفونية نفسها محل التحليل، بل احتراقها. لقد ذكرنا أن المؤلف قد أحرقها في منزله كي يمحو أثرها، وكي يوقّع بهذا حكم إعدام ذاتي، أو انتحار موسيقي من نوع متفرد، هو موضوع هذه الدراسة. ولكي نفهم دلالة هذا الحادث الوجودية، علينا أولًا أن نستكشف المعنى الأنطولوجي للحرْق.

إن الحرق هو أبلغ إعدام. والإعدام أبلغ رقابة. إنه الحركة الأقرب إلى العدم، حيث يتحول شيء إلى رماد، وحيث يُحذَف تمامًا تقريبًا من الوجود كلحظة خارجة. لكن حرق سيمفونية له معنى أكثر تركيبًا؛ فإن سيبليوس حين حرق ثامنته عمدًا لم يصر (مؤلف السيمفونيات الثماني إلا واحدة)، بل صار (مؤلف السيمفونيات السبع، وقاتل مؤلف السيمفونيات الثماني). وإذا كان تاريخ النقد الأدبي المعاصر يتحدث في سياق البنيوية عن موت المؤلف، نستطيع نحن في هذا المقام التحدث عن انتحار الموسيقار.

ما الذي أراد سيبليوس أن يثبته بهذا الفعل؟ لقد أراد أن يثبت أعجوبته الأخيرة: أنه قادر على العدم تمامًا كما هو قدرَ على الوجود. من الصعب للغاية على مؤلف ناجح ذي أسلوب محدد شديد التميز أن يعتزل بهذه البساطة تمامًا دون ردة، دون تراجع في الموقف، دون أية علاقة تالية بالموسيقَى، وهذه هي مقدرة سيبليوس الخارقة: أنه يستطيع أن يكون عدمًا متى شاء بلا رحمة، دون أن يطرف له جفن، ودون أن يبدل موقفه.

لكن السؤال هو: هل أراد سيبليوس أن يثبت هذه المقدرة كإبداع أخير صامت، أم أنه صار عدميًا فعلًا؟ تبقى حقيقة أن القومية التي دعمها سيبليوس قد أثبتت إجرامها في أواخر سنوات الحرب الثانية، وهي الفترة التي أحرق فيها عمله. إن احتراق ثامنة سيبليوس هو تجسد لما دعاه شبنجلر بـ غروب الغرب Untergang des Abendlandes ، اضمحلال الحضارة الغربية، ونكوصها على أولياتها الحضارية، وتفككها. وفي الواقع لم تكن هذه نهاية الحضارة الغربية، بل نهاية الغرب الأوروبي، وبداية الغرب الأمريكي، أو العولمة الغربية، أو المحيط بين-الثقافي الذي لم يزل يتمتع بالمركز الغربي حتى اليوم. لا شك أن ثامنة سيبليوس كانت نهاية، نهاية مؤلف، وأيديولوجيا، وحضارة. ومن المثير دائمًا، أن نراقب الأشياء العظيمة وهي تنتهي بإرادتها الحرة.


المراجع:

  1. Goss , Glenda Dawn, Jean Sibelius: A Guide to Research.

  2. Goss , Glenda Dawn, Sibelius: A Composer’s Life and the Awakening of Finland.

  3. Jackson , Timothy L., Sibelius Studies.

  4. Mäkelä , Tomi , Jean Sibelius.

  5. McKenna, Mark, Who stopped the music: How Jean Sibelius ran out of notes, The Monthly Journal.

المزيـــد علــى معـــازف