.
لم يكن صدى وفاة باكو دي لوثيّا في الصحافة والأوساط الثقافية الإسبانية العالي غريباً. الرجل لم يكن فقط فناناً عظيماً، وﻻ موسيقاراً فريداً، بل كان، بتواضعٍ كبير ودون صوتٍ أعلى من صوت غيتاره، أحد واضعي هيكل وشكل المشهد الموسيقي والغنائي الاسباني منذ ستينيّات القرن الماضي وحتى اليوم.
ولد باكو دي لوثيّا في الجزيرة الخضراء، في قادش الأندلسيّة. ابن موسيقار فلامنكو فقير بشكل مدقع، ولوثيّا، زوجته البرتغاليّة الأصول. ظهرت موهبته سريعاً، ورافقها دعمٌ كبير من أهله، إذ كان أخوه الأكبر قد سبقه إلى ميدان الفلامنكو على خطى والده. بعد خروجه من الحيّ الفقير، استبقى باكو الكناية بأمّه، كما كانت تتحدث عنه نسوة الحيّ، اسماً فنياًّ له. كان في هذا اﻻختيار وفاءٌ للأم، وأيضاً احتفاظٌ أبدي بلهجة ولكنة الأحياء الأندلسيّة الفقيرة في بحر السواد الذي عناه العقدان الأولين من ديكتاتوريّة فرانكو. تلك الأحياء التي تختلط فيها الأصول الغجرية بتلك “الباجيّة“. باكو “باجي“، أي أنّ أصوله العائلية ليست غجريّة.
اكتشف المنتجون موهبة باكو دي لوثيّا حين كان ما يزال مراهقاً، وعن طريقهم دخل في مشاريع فنّية عديدة – من بينها الانضمام إلى موسيقيي فرقة أنطونيو غاديس، أشهر راقصي اسبانيا في القرن العشرين– وجاب، برفقة هذه المشاريع، أركاناً متباعدة من العالم، ﻻ سيما في الأمريكتين. كلّ هذا قبل أن يبلغ باكو العشرين من العمر، وقبل أن يمرّ بالمحطة الأهم والأشهر في حياته: كامارون دي ﻻ إيسلا.
تعرّف باكو دي لوثيّا على كامارون دي لا إيسلا عام 1969، أي في نفس العام الذي وصل فيه الإنسان إلى القمر، حسبما كان يُذكّر باكو، ساخراً، في مقابلاته الصحفيّة. وكامارون دي ﻻ إيسلا (أي “جمبري الجزيرة“، بالاسبانيّة) هو اﻻسم الفنّي لخوسي مونخي فيرنانديث، وهو شاب غجري يشترك مع باكو دي لوثيّا في الأصول القادشيّة ويصغره بعام. توفي كامارون دي ﻻ إيسلا عام 1992 بسرطان الرئة، وتحوّل حينها إلى أسطورة عند أهل الفلامنكو، ﻻ سيما الغجر منهم، تتوازى، في القامة الأيقونيّة، مع تشي غيفارا عند اليساريين، إذ يُعتبر أهم قامة غنائية أنجبها الفلامنكو في العصور الحديثة.
أنتج دويتو كامارون وباكو، بين عامي 1969 و1979 تسع اسطوانات، جميعها نجحت جماهيريّاً وأسست فنيّاً لظاهرة هي الأعظم في تاريخ الفنون الموسيقيّة اﻻسبانيّة الحديث. تراوح طراز هذه اﻻسطوانات بين الفلامنكو الأكثر “أرثوذكسيّة” وتجديدات ومزوجات جريئة مع أنماط موسيقيّة تعرّف عليها باكو دي لوثيّا خلال أسفاره بين الأمريكتين، مثل الجاز والبلوز والبوسا نوبا البرازيليّة. يُحسب لباكو دي لوثيّا أيضاً أنه استورد من الموسيقى الفلكلوريّة في البيرو آلة “الصندوق” الإيقاعيّة، وأدخلها في منطق الفلامنكو الأكثر كلاسيكيّة. ﻻ يمكن أن يغيب إيقاع الصندوق اليوم عن أي مقطوعة فلامنكو.
عام 1979 انفصل باكو دي لوثيا عن كامارون. توجّه باكو لتأسيس فرقة سُداسيّة ليعمل من خلالها على رفع غيتار الفلامنكو إلى مصاف النخبة الموسيقيّة العالميّة، لتنفتح أمامه أبواب أهم مسارح وصالات الموسيقى في العالم، فيما توجّه كامارون، برفقة عازف غيتار اسمه “توماتيتو” (طماطم، بالاسبانيّة) نحو تجذير تحديث الفلامنكو ورفع القداسة الطهرانية عن مزجه بأنماط موسيقيّة مثل الروك.
حقبة باكو دي لوثيا وكامارون دي ﻻ إيسلا معاً، وأيضاً عملهما اللاحق المنفرد، هي حقبة جوهريّة في دورها كإعادة تأسيس لكل المعنى الموسيقي، بل والثقافي إجمالاً، في اسبانيا. قبلهما كان الفلامنكو طرازاً موسيقيّاً متقادماً، صدئاً، يعلوه الغبار، يكاد ﻻ يخرج من الحانات المتواضعة في أفقر أحياء الجنوب الاسباني إﻻ ليزور برامج الموسيقى الفلكلوريّة المُملّة، بالأبيض والأسود، في التلفزيون اﻻسباني، أو لتقديم وصلات متواضعة ومكرورة في المهرجانات “الفنّية” السخيفة التي تُقام على هامش المناسبات الدينيّة أو “الوطنيّة” في تلك العقود. ﻻ يمكن المرور على التحوّل الفني والموسيقي للفلامنكو من هذا الشكل الرمادي إلى اللون الفنّي الرفيع الذي وصل إليه اليوم، بشُهرةٍ عالميّة، مروراً بحقبة تمرّد على طهرانيي النوع وسادني حمايته من “التلويث” بألوانٍ أخرى، تمرّد ﻻ يمكن قراءته إﻻ كجزء من اﻻنعكاس الفنّي لحالة الغليان والتمرّد في الشارع اﻻسباني، خصوصاً القطاع الشاب منه، خلال سنوات حكم الديكتاتور الأخيرة وبداية عهد التحويل الديمقراطي في أواسط السبعينيّات، من دون الاعتراف بدورٍ طليعي وجريء لكامارون وباكو دي لوثيّا. لم يكن بالإمكان أن نسمع، وأن نسمع عن، أسماء مثل إنريكي مورينتي، أو خوسيه ميرثي، لولا التفجير الذي أسس له باكو وكامارون.
لم ينغمس باكو دي لوثيّا في الحياة العامة اﻻسبانيّة خارج الأطر الفنّية والموسيقيّة. لم يُخف، في شبابه وفي الزمن المتقدّم، ميوله اليساريّة، رغم أن زوجته الأولى كانت ابنة أحد أبرز جنرالات فرانكو، لكنه تجنّب ظاهرة الفرز الحاسم لدور الفن والفنانين خلال السبعينيّات وأوائل الثمانينيّات في اسبانيا. كغيتاره، وكالفلامنكو إجمالاً، كانت حواراته الصحافيّة طافحة بلمعات ذكيّة من الكوميديا السوداء.
كان باكو دي لوثيّا في الفترة الأخيرة مفعماً بالحيويّة، ومنغمساً في حياة عائلية هادئة بين مايوركا، الأندلس، والمكسيك. مع ذلك، قدّم وصلة أسطوريّة في الصيف الماضي تبدو اليوم وكأنها وصيّته الأخيرة، حين ختم، برفقة موسيقار الجاز الشهير جيك كوريا، مهرجان سان بيتوريا– غاستيث السنوي للجاز، في عاصمة إقليم الباسك، بتقديم بعض مقطوعاته الأشهر، قبل أن ينغمس مع رفيقه في وصلة ارتجاليّة غير مخطّط لها دامت أكثر من ساعة وأوقفت كل الجمهور على أقدامه طوال الوقت مصفّقاً بذهول. عدّة مجلات موسيقيّة متخصصة اعتبرت أن تلك الوصلة كانت أهم حدث موسيقي أوروبي عام 2013.