بسبوسة شادية محمد عبد الوهاب معازف
عربي قديم

البسبوسة الممنوعة | آخر تعاونات شادية وعبد الوهاب

محمد سالم عبادة ۲۱/۰۹/۲۰۱۸

في عام ١٩٦٣ صدر فيلم زقاق المدق عن رواية نجيب محفوظ، بطولة شادية وإخراج حسن الإمام. حتى ذلك الوقت اقتبست ثلاث روايات فقط من أعمال محفوظ في أعمال سينمائية، حققت جميعها إقبالًا كبيرًا، خاصةً اللص والكلاب الذي كان بداية بطولات كثيرة لشادية في الأفلام المقتبسة عن روايات محفوظ، وكان خامس ترشيح من مصر للجنة الأوسكار. جعل ذلك اقتران اسم شادية بنجيب محفوظ وحسن الإمام صاحب المسيرة الزاخرة بالنجاحات وقتها ضمانًا لعمل يشاهد على نطاق واسع وشبه-مضمون النجاح. خلال العمل على أغاني الفيلم، أضيف إلى هذا الفريق اسم محمد عبد الوهاب ملحنًا لأغنية بسبوسة من كلمات حسين السيّد. لكن بعد انتهاء التصوير وفي مرحلة المونتاج، وجد الإمام أن واحدة من أغنيتَي الفيلم، نو يا جوني نو لـ محمد الموجي وبسبوسة عبد الوهاب، يجب الاستغناء عنها لمنع تطويل الفيلم دون سببٍ كافي وعدم تشتيت السرد. اقترحت شادية حذف بسبوسة إذ شعرت أنها مقحمة وطارئة على أحداث الفيلم، وإن كانت لـ عبد الوهاب، الذي وجد في تصرف شادية إهانةً جعلت بسبوسة آخر ألحانه لشادية، وربما أجملها.

كلمات طقطوقة الموجي بسيطة وتعالج بشكل مباشر موقف حميدة بطلة الفيلم إزاء عُشّاقها من الضباط الإنجليز. كذلك جاء اللحن أُحاديّ المقام (عجم – سُلّم كبير)، واستُعين في تنفيذه – بشكل موفّق جدًا – بتوزيع ينتمي إلى نمط موسيقى البيج باند الذي يُستعمل عند تلحين كوبليهات الأغنية بنفس اللحن، رغم أن الكوبليهات هنا مختلفة الألحان. انتشرت موسيقى البيج باند في أمريكا والعالم الأنجلوفوني في ثلانينيات وأربعينيات القرن العشرين وهيمنت على مشهد موسيقى الجاز، وهو ما يجعلها متجاوبة بشكل مباشر مع مشهد الضبّاط الإنجليز المحتشدين في حانة مصرية للاستمتاع بغناء ورقص حميدة.

أما بسبوسة، جاءت كلماتها من حسين السيد بسيطة الظاهر غنية الرمزية، أشبهَ بمونولوج تتحدث فيه حميدة عن ذكرياتها في الحارة، حين كانت تبيع البسبوسة، وتقارن حالها وقتذاك بحالها مع الترقّي الاجتماعيّ الذي حققته “من يوم ما مشينا من الحارة طلعنا في العالي / الخرطة بعشرة جنيه واكتر وكمان مش غالي.” لكنّ المفارقة المعتمِدة على معرفتنا بالخلفيّة الدرامية للأغنية هي قابليّة تأويل هذه الكلمات إلى معنى الرثاء للنفس مع انتقال حميدة للعمل كبَغيٍّ بعيدًا عن الحارة، والتي توحي بها سطور مثل “والغالي يا خوفي لحلاوتُه تِخلَص في ليالي / فتافيت السّكّر ما بقِتش تحلّي البسبوسة” وقبلَها “الكل حبايب ياما كانوا بيسندوا وقفتنا / لو بصّ غريب على حاجة تانية غير البسبوسة”، والأوضح منهما “جبتينا حلوين ليه يامّا؟ والنبي تدعي لنا / احنا اللي غلطنا ورخّصنا سِعر البسبوسة”. كان هذا الإيحاء من القوّة بحيث أيقنت منذ وقعت في غرام الأغنية – قبل أن أعرف علاقتها بالفيلم – أنّ المقصود بالبسبوسة هو جسد صاحبة المونولوج (دوسة متماهية تمامًا مع ما تحمله من بسبوسة)، وأنّ البغاء محور أساسي في نصّ الأغنية. كل هذا جعل فكرة بسبوسة بحد ذاتها أكثر تراجيديّةً وأقوى صلةً بالفيلم من نو يا جوني نو.

بررت رؤية عبد الوهاب للحن تلك اللقطة النادرة له في مجلة الكواكب وهو يرقص خلال بروفات الأغنية (لنا أن نتخيل حال عبد الوهاب بعد دعايةٍ كهذه بصورةٍ للموسيقار الكبير يرقص على أنغام لحنه الجديد لأغنية فيلم استبعدها صناعه بعد تلحينه لها). جاءت المقدمة في مقام العجم على إيقاع ثنائي سريع يحض على الرقص، تشترك في ضبطه آلة المثلث الأوركسترالية التي يجد لها عبد الوهاب وعلي اسماعيل قائد الفرقة توظيفًا مرحًا للغاية. عزفت الوتريات بطريقة متقطِّعة[Mtooltip description=” Staccato” /] فيما يشبه المداعبة، لترد مجموعة أخرى من الوتريات على كلّ جملة بعزف صوت تتابُعي[Mtooltip description=” Arpeggio” /] يلخّص إحساس المقام أو السلم سريعًا. يدخل بعد ذلك كورس السيدات في تتابع سريع يردّدن خلالَه “بسبوسة”، ثم المذهب “بِتّ يا دوسة يا دوسة شايلة البسبوسة / والله احلوّيتي وكبرتي وبقيتي عروسة”. يأتي الكوبليهان الأول والثاني في مقام العجَم الغالب على الأغنية، إلاّ حين تُعقّب شادية بعد “الخرطة بعشرة جنيه واكتر” بقولها “وكمان مش غالي مش غالي” حيث يظهر مقام الحجاز حزينًا حزنًا خاطفًا لا يسمح له عبد الوهاب بتكدير الحالة المرِحة للأغنية، خيارٌ ربّما كلّفه استبعاد الأغنية.

يستدعي موقع هذه الأغنية من قصة الفيلم ذكر أغنية أخرى لسيد درويش من مسرحية العشرة الطيبة هي اتمختري يا عروسة. في أغنية درويش كلماتٌ فرحة بشكل عام، وإيقاع الزفة الرباعي المبهج، مع لحنٍ شجن مصاغٍ بين مقامي البياتي والكرد وميالٍ إلى الحزن، ما قال عنه المايسترو والباحث الموسيقي سليم سحاب[Mtooltip description=” مقال سيد درويش رائد التجديد في الموسيقى العربية المعاصرة” /] إنه أول ظهور للجدلية الموسيقية في الموسيقى العربية، شارحًا ذلك بأن الإيقاع والكلمات معبران عن ظاهر فرحة العرس، بينما صوّر حزن اللحن حال البطلة التي تُزَف إلى غير حبيبها. كانت رؤية درويش للحن هي الأمثل ضمن سياق المسرحية وقادرة على جعل تفاصيل الحدث أكثر بروزًا وتأثيرًا. في حالة بسبوسة، كانت لكلمات حسين السيد بمعناها المزدوج القدرة على تحقيق أثرٍ ربما أكبر حتى من أغنية درويش، إن سلك عبد الوهاب طريق درويش في العبور إلى حقيقة الحالة بوضع المستمع بين مرح الكلمات والمأساة وراء جُمل مثل “جبتينا حلوين ليه يامّا؟ والنبي تدعي لنا / احنا اللي غلطنا ورخّصنا سعر البسبوسة.” بلحنٍ ينصف المأساة. لكن كان لعبد الوهاب وجهة نظر أخرى تجعل رؤيته أيضًا تستحق التأمل، خارج سياق الفيلم، ومن الصعب أن تُدرك دون سماعات متكررة للأغنية.

بدل بث الحزن في اللحن، يبثه عبد الوهاب ببطء عبر تثبيت الصورة التي ترسمها الكلمات بتكرارها على اللحن المرح ذاته. مثلًا، لدى غناء بيتَي “فين لما زمان كنا بنفرش على باب حتِّتنا / بنبيع الطيّب للطيّب من أهل حارِتنا” و”من يوم ما مشينا من الحارة طلعنا في العالي / الخرطة بعشرة جنيه واكتر وكمان مش غالي.” نلاحظ تكرارهما ثلاث مرات مع هبوط شادية بالتنويع الأدائي بين المرّات إلى أدنى قدر ممكن. صحيحٌ أن الإيقاع السريع للأغنية – والذي يبطئه عبد الوهاب في هذا المقطع كما في بداية المقطع الثالث والرابع ليتحول إلى إيقاع المقسوم الرباعي ملعوب ببطء – مع طبيعة الأغنية الخفيفة، قد يحولان دون إقدامها على التنويع، لكن من جهة أخرى، يبدو أنَّ قدرة صوت شادية التمثيلية كانت أحد الداوفع المهمّة وراء وضع عبد الوهاب اللحن على هذا النحو. تصبح في النهاية قيمة التكرار هنا هي تثبيت المشهد الذي تتآزر الكلمات مع اللحن في رسمه، لا التطريب، والمشهد هنا أشبه بمن يروي قصة طريفة وقعت له لما فيها من سخرية القدر، ولا ينتبه لوقوفه طويلًا عند تفصيلٍ فيما يروي لشدة تأثير هذا التفصيل فيه.

فكرة التكرار ذاتها نجدها في الكوبليه الثالث البادئ بـ “بصي يا دوسة شوفي الناس شوفي ازّاي بيبصّوا لنا / الجوع ف عينيهم حياكُلنا يامّا حياكُلنا” والذي يأتي في مقام الكرد، ليعود إلى العجم في البيت التالي. يبدو مقام الكُرد الشجيّ مناسبًا للحالة هنا، والتي تنفصل فيها بطلة المونولوج عن ظرفها وتتأمل موقفها إزاء الناس باعتبارِها هدفًا لجوعهم حتى إنها تخاطب نفسها باسمها (بصّي يا دوسة).

أخيرًا يظهر مقام الحجاز من جديد في الكوبليه الرابع “يالله يا زباين حنشطّب، فين الأكّيلة؟ / الشهد خلاص قرّب يجبُر، ما بيدّنا حيلة”. يتميز مقام الحجاز بين أجناس المقامات العربية بما يُسمّى (البُعد الوافر) أي بُعد درجة ونصف بين نغمتين متتاليتين من نغماته، وأعتقد أنّ ظهور هذا البعد في أي تتابع نغمي كفيل بإضفاء لمسة حزن على المقطوعة، ما يجعله مقابلًا هنا للكلمات المنذرة بقُرب انتهاء اللذّة المُتاحة، فالشهد الذي تملكه دوسة، أو يكمن في جسد حميدة، لن يدوم كثيرًا. لا يمكن تخيل إدراك المستمع لكل هذه التفاصيل في لحنٍ قصير ضمن فيلم لا يمر فيه إلا مرة واحدة. كانت شادية على حق، لكن في نفس الوقت من الصعب القول إن عبد الوهاب كان على خطأ، بالكامل.

إلى جانب ما نلاحظه عبر الاستماعات المتكررة، نجد حياةً أخرى للحن ظهرت بعد ربع قرن من ولادته الأولى بفضل أنغام، والتي تدعم رؤية عبد الوهاب وتضيف إليها تفاصيل تزيدها عمقًا وإثارة. كان اختيار الموسيقار محمد علي سليمان – والد أنغام والمشرف على مشروعها وقتها – لأغنية بسبوسة لإدراجها في ألبوم أنغام الأول موفّقًا لإبراز سمة الدراميّة الأساسيّة في صوتها، والتي تكتنز بها الأغنية. بالنتيجة، أظهرت بسبوسة إمكانات أنغام الاستثنائية كمطربة ممثلة وقادرة على مسرَحَة الأغنية – إن جازَ التعبير.

تغني أنغام ثلاث كوبليهات فقط من الأغنية، مسقطةً الكوبليه الثالث “بصّي يا دوسه شوفي الناس شوفي”، وهو الأكثر تعبيرًا عن موضوع البغاء. قد يعود ذلك إلى حداثة سنّ أنغام وقتها. يأتي التّصرُّف الأدائيّ الأبرز لـ أنغام في الكوبليه الثاني حين تقول: “والغالي يا خوفي لحلاوتُه تخلص في ليالي”، وتحديدًا في “لحلاوتُه”. قُلنا عن لحن عبد الوهاب إنه يعود من الحجاز في جملة “وكمان مش غالي” إلى العجم في هذه الجملة تحديدًا. هذا ما تلتزم به شادية، أمّا أنغام فتقفز قفزة التون ونصف التون (البُعد الوافر) بين “لـ” و”حلاوته”، فكأنّ الأثر الحزين لجنس الحجاز يبقى معها برهة أطول مما يبقى مع شادية، ربما بقصورٍ ذاتيّ في المقام لا يساعده في الظهور إلا ذلك الحزن الأصيل في الشخصية الغنائية لـ أنغام، بمقابل المرح المعروف عند شادية. يبدو هذا الفارق بين الأداءين من اللطف بحيث يستدعي تكرار سماع الأغنية أكثر من مرّة في نسختيها للوقوف عليه بوضوح، خاصة أنّ أنغام تنحاز في حفل قديم إلى أداء شادية الأصلي وتتخلى عن قفزتها القصيرة الخاصة في مقام الحجاز.

كذلك يسهل أن نكتشف وقوع الشخصيتين الغنائيتين لشادية وأنغام على قطبين متقابلين من الفرح والحزن على الترتيب، حين نقارن أداء شادية لجملة “فتافيت السكّر ما بقيتش تحلّي البسبوسة” بما فيه من المرح والخفة، بأداء أنغام المحمَّل بالسخرية المَريرة، خاصةً حين تبطئ أداءها لكلمتي “ما بقتش” كما لو كانت تضحك ضحكة مطفأة مهزومة. أو حين نتأمّل تكرار شادية لكلمة بسبوسة في نهاية الأغنية كما لو كانت تداعب طفلًا رضيعًا، في مقابل حشد أنغام لأقصى ما يسمح به المقام من عُرَب في كلّ جملة. ربما انتبه محمد علي سليمان لهذه الشخصية الغنائية المتأمّلة الحزينة، فآزَرَها باللحن الكونترابنطي الذي أضافه في توزيع المذهب، فخلقَه خلقًا جديدًا لا يقلّ رونقًا عن خلق عبد الوهاب وعلي إسماعيل في النسخة الأصلية. حتى أن عبد الوهاب قال لـ سليمان بعد صدور الأغنية مهنئًا: “حلوة قوي خالص قد الدنيا كلها.”

المزيـــد علــى معـــازف