بشرة خير: الانسلاخ عن الواقع لخدمة الدولة

صالح ذباح ۲۳/۰۵/۲۰۱٤

 

من الصعب مشاهدة أغنية المغنّي الإماراتي حسين الجسمي الأخيرة بشرة خير” (كلمات أيمن بهجت قمر، وتلحين عمرو مصطفى) من دون الشعور بذلك الاستخفاف بعقل المشاهد المصري، وحتّى العربي، ومحاولة تزييف وعيه على وقع الأنغام الراقصة. فكأن ما نراه هو رقص على الدماء المصريّة التي سفكت منذ 30 يونيو حتى اليوم، إذ لا يستطيع مشاهد الكليب تجنب سيطرة الإيقاع على الجسد، في انصهار تام لصوت المطرب البارع بالغناء السريع، مع الإحكام على مخارج الألفاظ الواضحة: وهنا تكمن المأساة.

وفقا لصانعي الأغنية، قد تم إنتاج الأغنية والكليب لحث الناس على التصويت في الانتخابات الرئاسيّة المصريّة القريبة من دون التحيّز لمرشح بعينه. لكن من الصعب التصديق أن قناة سي بي سيالتي أنتجت العمل، بسمعتها كأبرز واجهة لإعلام الدولة العميقة، وأن الملحن عمرو مصطفى صاحب أشهر مواقف معادية لشباب ثورة يناير والمهادنة لنظام مبارك، شاركا في صناعة هذا العمل بمنتهى الحياديّة مع إعلان مواقفهم بدعم السيسي مرّشحاً. لنحصل، بالنتيجة، على أغنية تشعبنت بسرعة، وحصلت على ملايين المشاهدات على قناة اليوتيوب، وانتشرت في الشوارع وفواصل التلفزيون بصورة منسلخة عن الواقع.



محاور الانسلاخ عن الواقع حسب ظهورها في الأغنية

أولاً: تبدأ الأغنية بمطالبة الناس بالمشاركة في الفعل السياسي (المقتصر على التصويت) وعدم السكوت:

سكتت كتير
خَدِت ايه مصر بسكوتك
ماتستخسرش فيها صوتك
بتكتب بكره بشروطك
دي بشرة خير

لم يرد على مؤلّف الكلام السابق ربّما قانون حق التظاهر المتعسف الذي يحجّم ويلغي تقريبا هذا الحق، أو الاعتقالات العشوائيّة أحياناً، والزج بالنشطاء والمواطنين في السجون بأمر قضائي، ذات القضاء الذي قضى بإعدام جماعي لمئات من المصريين لانتمائهم إلى فصيل يتحتم على كل من ينتمي إليه أن يكون إرهابيّاً.

ثانياً: تعتمد الأغنية على خاصيّة فنيّة (موتيف) عرفناها في أغانٍ سابقة تعتمد على ذكر الأقاليم والمحافظات، كما غنت شادية وقت استرجاع الأراضي المصرية بعد معاهدة كامب ديفيد، في أغنية مصر اليوم في عيد“:

ياللي من البحيرة وياللي من أخر الصعيد
ياللي من العريش الحرة أو من بور سعيد

أو كما غنت داليدا في أغنيتها الشهيرة أحسن ناس ذاكرةً سوهاج وبنها والاسماعلية والمحلة وغيرها، وتتكرر نفس المحاولة لذكر الأقاليم والمحافظات البعيدة كقنا ودمياط والشرقيّة وغيرها، وصولاً إلى المناطق الحدودية كحلايب وسينا، بكثير من البهجة والرمنسة والعاطفيّة. المفارقة هنا أن هذه المحافظات على أرض الواقع تعاني مني التهميش والإهمال على حساب مركزيّة القاهرة المرهقة أصلاً. ليتم استعداء هذه الصور التحشيديّة الشعبويّة في أوقات المطامع السياسية لهدف الحشد أو/ والتخدير لا غير، كما كان يحصل في حملات الحزب الوطني أثناء حملات ترشيح حسني مبارك للرئاسة.

ثالثاً: ما يثير العجب كذلك هو ذاك الكم من الرقص والتهريج، وكأن الشعب المصري أصبح نسخة من شخصيات أفلام السبكي الرديئة. ما عرضه الكليب هو شخصيات لمباويّةأو كركريّةلا تمت للواقع المصري الصعب بصلة، سوى مشهد واحد لرجل يحمل أنبوبة غاز. في مفارقة أخرى يشير فيها الفيديو، ولو من بعيد، إلى أزمة الغاز والفقر والبطالة والجوع والعشوائيّات قد يحلّها مرشح رئاسي من دون برنامج سياسي.

رابعاً: تحييد المرأة جانباً على مستوى خطاب الأغنية. إذ كما يحصل في أي منصّة ثقافيّة واجتماعيّة وسياسيّة أخرى، تختزل المرأة المصرية في الأغنية بجرة قلم. يتجلى ذلك في مطلع اللازمة التي تتكرر في الأغنية: “قوم نادي ع الصعيدي، وابن اخوك البورسعيدي، والشباب الاسكندراني، اللمه دي لمة رجال“. وعند إقحام المرأة في الفيديو، يغازل المخرج النساء مستهبلاًإياهن في تصوير نوعيّات مختلفة من النساء (جميع أنواع المرأة كما قالها محمد مرسي ذات مرة) منهن الفلاحات ونساء المدينة والسمراوات وغير السمراوات، في حين أن الكلام المغنى يتحدث عن لمّة الرجال.

أغنية بشرة خيرهي المنتج الفني الثاني الأبرز الذي أفرزته المرحلة السيسسيّةبعد أغنية تسلم الأيادي. تشترك الأغنيتان في نفس جو الصهللة والنوايا الحثيثة في تمجيد السيسي حتى وإن كان ذلك بشكل مبطن. ولو نظرنا إلى ما أفرزته ثورة يناير من فن معارض ومختلف وبديل مثل: اسكندريلا، مسار إجباري، محمد محسن، دينا الوديدي، مريم صالح وغيرهم، نجد خروج هؤلاء الفنانين عن القوالب المعهودة للأغنية التي يحبذها النظام: إذ أن الأغنية التي تلبي نداء التيّار المركزي” (المينستريم)، تجاريّة وراقصة وتدّعي الهم الوطني، في حين أنّها سطحية ولا تتطرق الى الواقع المعاش، في انصياع تام لما يجب ان تكون عليه الثقافة الجماهيريّةوفقا لثيودور أدورنو.

لا يخفى على أحد أن الدولة العميقة في مصر استردت عافيتها. فللثورة المضادة مرشح رسمي، وللثورة المضادة فنانون وكلاء لها، كملحّن هذا العمل على سبيل المثال. في الجولة الحالية، ما بعد 30 يونيو، يبدو أن الثورة المضادة قد كسبتها باستشراس وشراهة. وهذا الإفراز الفني خير شاهد على ذلك: إذ لا تختلف كثيرا بشرة خيرعن أعمال انتجت في عهد مبارك في عز فساد النظام لا صلة لها في الواقع، رومانسيّة في توجهها، سلسة وفرحة، ويعتريها الشجن المسطّح في لحنها وتوزيعها (أنا مصري لنانسي عجرم، ويبقى إنت أكيد في مصر لمي سليم ومحمود العسيلي). لتقوم بترويجها قنوات رجال الأعمال: أحد أهم أذرع الدولة العميقة بنفوذهم وأعمالهم. وفي حال إعادة انتاج نظام مبارك بشكل متطابق وربما أسوأ وبدور أكبر للمؤسسة العسكريّة، قد نكون أمام أغنيات تقلّد سابقاتها من أغاني المرحلة السيسيّة“. هل هي بشرة خيرحقّاً؟ قطعاً لا.

المزيـــد علــى معـــازف