عربي جديد

بلا بزر | حوار مع سعيد سلباق

معازف ۲۵/۰۳/۲۰۱۸

إيمان جبور – رام الله


مسألة تعريف الموسيقى الفلسطينية أو الثقافة الموسيقية السائدة في فلسطين، تشغل الكثير من العاملين في الفضائين الثقافي والفني، لأسباب واضحة تدخل في صلبها قضية الاحتلال الإسرائيلي وما نتج عنه من شرذمة الشعب الفلسطيني الى مجموعات تحيا في بيئة ثقافية وسياسية مختلفة؛ ما بين الداخل الفلسطيني (إٍسرائيل)، والضفة وقطاع غزة، فضلاً عن دول الشتات. وربما ينشغل الفلسطينيون بالداخل بهذا الشأن أكثر من غيرهم، نتيجة الهيمنة الثقافية التي تتسم بها السياسات الإسرائيلية.

موسيقى فلسطينية؟ أم موسيقى ألّفها فلسطينيون؟

قد لا نجد إجابةً واضحة للسؤال هل هناك موسيقى فلسطينية؟ أم هناك موسيقى تؤلف من قبل فلسطينيين، وهل يمكن الحديث عن مشهد موسيقي خاص بالفلسطينيين بالداخل؟ تاريخيًا، نهل الإنتاج الموسيقي في فلسطين من الموسيقى الشرقية في البلدان العربية قبل نكبة عام ثمانية وأربعين، حين كانت فلسطين جزءًا مما سمي حينها ببلاد الشام. لكن النكبة أحدثت قطيعة بين ماضي وحاضر الشعب الفلسطيني، وصار على المتتبع للحالة الموسيقية أن يدرس تطورها في الداخل عبر تجارب مختلفة، أنتجت اليوم مشهدًا ثقافيًا لم تتبين ملامحه بعد، رغم بعض التجارب التي تركت بصمة خاصة، ونذكر منها فرقة صابرين التي اتخذت من القدس مقرًا لها، وأنتجت العديد من الأغاني والتجارب الموسيقية الخاصة.

من التجارب الموسيقية اللافتة التي تعرفت اليها مؤخرًا، كانت تجربة المؤلفين والعازفين سعيد سلباق وأكرم حداد، في عرض أطلقا عليه يا عيني عليكم، المؤلَّف من موسيقى آلاتية. تميّز العرض بالتوليفة الناجحة ما بين آلتي العود والبيانو إضافة الى الإيقاع المتنوع والمكون من وحدات غير متماثلة وغير منتظمة تخللت المقطوعات الموسيقية، مما يجعل من تجربة الملحنين جريئة وجديدة قياسًا لما هو متداوَل في الفضاء الموسيقي المحلي.

بفرجها ربك، من عرض استرسال. عود: سعيد سلباق، بيانو: أكرم حداد، إيقاع: يوسف حبيش

التقيت الموسيقيّ وعازف العود سعيد سلباق، الذي يقيم في مسقط رأسه في شفاعمرو، وهي مدينة فلسطينية تتوسط المدن الرئيسية الثلاث في شمال فلسطين، حيفا والناصرة وعكا. وكانت لنا جولة بين أزقة بلدتها القديمة المطلة على قلعة ظاهر العمر الزيداني، مؤسس الكيان الفلسطيني الحديث، فلا غرو بأن مهابة التاريخ طالت هذه البلدة التي يبرز عمقها التاريخي من بين ثغور تراثها المعماري القديم.

كان سلباق بين المقطوعة والأخرى في العرض الموسيقي، يطلق التعليقات المضحكة والأسماء الساخرة للمقطوعات الموسيقية. سألته لماذا بُنيَ هذا المشروع على تقديم العروض دون إطلاق إسطوانة؟

فكرة تقديم العروض هي البديل المنطقي لانعدام توفر الشروط الملائمة والظروف المادية للانتاج في بلادنا. هي عروض حية، أتاحت لنا بين مقطوعة وأخرى أن نتواصل مع الجمهور لإيصال فكرة العرض وشرح ثيمته. ورغم الحراك الثقافي الذي تتسع رقعته في السنوات الأخيرة، إلا أننا ما زلنا نفتقر الى أدوات بناء العروض الموسيقية وكيفية إنتاج الأعمال الموسيقية، فضلا عن النقص بالمؤسسات التي ترغب بتبني وتمويل مشاريع كهذه.”

ما بين التقليدي والمعاصر

لم يكن عرض يا عيني عليكمهو الأول الذي يجمع بين العازفين سعيد سلباق وأكرم حداد، بل سبقه مشروع وبعدين؟عام 2012، الذي اشتمل على مقطوعات موسيقى آلاتية وإعادة توزيع أغنيتين (كوفر)، شد الحزام على وسطكلسيد درويش الذي يصف سلباق أعماله بحالة من البساطة والعبقرية، وملاءَمة نادرة ما بين اللحن والكلام الشعبي“. إضافة الى أغنية، بيتك يا ستي الختيارةمن تلحين الأخوين رحباني وغناء السيدة فيروز.

وبين أغنية بيتك يا سيتي الختيارة، وبين جدة سلباق الحاضرة دائمًا في حكاياته، انتقل بنا الحديث الى الجذور. فالفن بالنسبة له الملتقى بين الشخصي والعام، بين الحالة الاجتماعية والسياسية الحاضرة التي تعيشها الأقلية الفلسطينية في إسرائيل، وبين جيلين لا تفصلهما الفترة الزمنية فقط، بل عوالم متكاملة شكلت طفرة من حالة سياسيةثقافية الى أخرى.

ذَكَرتَ جدتك في الكثير من المواقف خلال هذا اللقاء، ما هي مكانتها في حياتك الشخصية وإنتاجك الموسيقي؟

جدتي وجدي عاشا نكبة فلسطين بتفاصيلها في قرية الدامون المهجرة القريبة من شفاعمرو، لم يتبقَ اليوم أثر للقرية سوى مقبرتها. تُحدثتني جدتي عن الفرق بين جيلها وبين جيلنا. هذه الفجوة بالطبع نجدها في المجتمعات كافة، لكن في فلسطين على وجه التحديد كانت التغيرات كثيرة ومختلفة، فقد مرّ مجتمعنا قفزة غير طبيعية، لتأخذنا خارج التواصل التاريخي الطبيعي.

كان لهذا تأثير مباشر على إنتاجك الموسيقي الجديد والذي أطلقت عليه إسم بلا بِزِر، كيف اخترت هذا الإسم؟

أعود مجددًا هنا الى جدتي التي تمازحني وتسخر من جيلنا وتقول دومًا بأن الفواكه المعاصرةخالية من البذور. فنحن نستهلك اليوم الكثير من الفواكه والخضار التي مرت بتطور تكنولوجي، نأكل مثلا عنبًا لا يحتوي على البذور، واخترت هذا الإسم لأنني في موسيقاي أود التحدث عن حياتنا المعاصرة وعن جيلنا. ثيمة المشروع تغوص في العلاقة ما بين الأجيال، مثل المنتجات الزراعية التي تغيرت خصائصها بعد مرورها بتحولات جينية لتصبح خالية البذور، مقابل ما نسميه في بلادنا المنتجات الأصلية أو الخضار البلديّ“. فالجيل الجديد يفضِّل المنتجات خالية البذور بينما جيل جدتي لديه الأفضلية لما هو طبيعي.

ويتضمن مشروع بَلا بِزِرسبع مقطوعات، أربع منها موسيقى آلاتية، إضافة الى أغنيتين كُتبتا بأسلوب ناقد وساخر بغية كشف مظاهر إجتماعية زائفة. وننتظر إطلاقه خلال شهر اكتوبر القادم.”

اعتاد الجمهور المتذوق للانتاجات الموسيقية الحديثة في فلسطين على تسميتها بموسيقى فلسطينية معاصرة، ففي المنتج الفني لسلباق وحداد مثلا، هنالك دمج ما بين الشرقي والغربي لا يقتصر على دمج آلتي العود والبيانو معًا، بل على دمج عناصر من ثقافتين موسيقيتين أنتجتا وحدةً فنيةً متكاملة. عن هذا الدمج يقول سلباق، من حيث السمع، هناك اختلاف كبير ما بين البيانو والعود، فلكلتى الالتين شخصية مُبلورة وخاصة. كان علينا أن نجد التوازن الدقيق ما بين الآلتين ونلتقي في هذه النقطة. أعتقد بأن الأمر يتعلق بالعلاقة الموسيقية التي تجمع بين الملحنين، وحين يتواجد التفاعل الموسيقي الملائم بينهما، سيكون الإنتاج الموسيقى أسهل.”

تجولت في الكثير من الدول وعزفت مع عشرات الموسيقيين من أرجاء العالم، كيف يؤثر هذا الأمر على إنتاجك الموسيقي وعلى الرؤية الموسيقية القادرة على تأليف ما يجمع بين أكثر من ثقافة وحضارة؟

التراث الموسيقي هو بمثابة الشخصية التي تشكل قوام وعماد الثقافات المختلفة، ويمكننا تحليلها لعوامل أساسية وفهمها. الانكشاف على هذه الثقافات يفتح أمامنا السبل للخروج من القوالب المعتادة والإستنساخ، إذا كانت الفضاءات الموسيقية واسعة، يمكنك أن تستخدم تراثك الموسيقي وتدمجه مع عناصر من ثقافات أخرى، دون التخلّي عن الشخصية الأساسية. اختراق لغة الموسيقى يتيح لنا فهم الشعوب أيضًا، فهي مبنية على فلسفة متكاملة، هذا يذكرني بتجربتي في الارجنتين، حين شاركنا بمسيرة ذكرى التحرر من العبودية، وفكرة المسيرة مبنية على إيقاعات خاصة تمكننا من فهم مسيرة الشعوب.”

في السنوات الأخيرة، نشهد تجارب موسيقية جديدة بالداخل الفلسطيني، معظمها يتميّز بالبحث عن الجذور والتعبير عنه بطرائق مختلفة ومحاولة إنعاشه ضمن قوالب معاصرة. ويتميز المشهد بتعدد الجانرات الموسيقية وأحيانًا بتأليف موسيقى المزج (فيوجن)، التي تدمج عناصر موسيقية من ثقافات عدة وهو ما يميز العديد من الأعمال الموسيقية في أرجاء العالم في الحقبة الما بعد حداثية. معظم تلك التجارب هي فردية، مثل تجربة سلباق، وتحتاج الى منصّات ومؤسسات داعمة لتوفير تجربة متراكمة للفنّان تُمَكّن الجمهور والنقّاد تبيّن ملامحها وتحليل عناصرها وتذوقها كمشروع موسيقيّ متكامل، فمن المؤكد بأن الفضاء الفني يشهد نهوضًا غير معتاد، ويبشِّر بأن ما سيكون، يختلف عما كان وما هو كائن اليوم.

المزيـــد علــى معـــازف