.
كنا قد انتهينا للتو من مراجعة دليل أسلوب معازف عندما صدرت أغنية رامي عصام الجديدة، وكان يتصدر الدليل بند ينصّ على ضرورة ألَّا نطلق أحكامًا قيَمية، فلا نحاسب فنانًا على تناقضات خطابه. وجد هذا البند تحديه الأول في أغنية رامي. فبينما يبني أغنيته حول لازمة تقول: “خلصت سنينك الأربعة / طولت علينا بطلّتك / وزهقنا خلاص من خلقتك”، وجدنا أنه لا بد من طرح هذا التساؤل: ألا يعي أن كلامه هذا يصح أن يقال عليه؟
لو نظرنا من مسافة معقولة، لرأينا الكثير من الشبه بين لحظتي صعود السيسي ورامي عصام. وصل السيسي إلى السلطة بسبب الاحتفاء المتسرِّع بـ “البديل”. فقدت الناس قدرتها على احتمال مبارك واعتبرت أن أي بديل سيكون أفضل، ثم أتى مرسي، وفقدت الناس قدرتها على احتماله أيضًا واعتبرت أن أي بديل سيكون أفضل، فجاء السيسي ضريبة عدم الحذر والتسرع بالاحتفاء بالـ “بديل”. كذلك سمعنا رامي للمرات الأولى في ميدان التحرير في ٢٠١١، حيث بدأت الناس تضجر من البوب الدارج ويخيب أملها من مواقف فنانيه، فحصل تسرُّع مماثل، وانفتحت بوابة غير حذرة أمام كل ما هو بديل في الموسيقى العربية في ٢٠١١. دخل عبر هذه البوابة الجيِّد والرديء، ودخل عبرها رامي عصام.
مع مرور السنوات اكتشفت الشعوب العربية، ومصر على وجه الخصوص، نتيجة التسرع بالاحتفاء بالبديل سياسيًا، ويمكن القول إن الأمر ذاته بدأ يحصل على الصعيد الموسيقي خلال العامين الأخيرين. استمرت الفرق (والفنانون) التي احترمت مستمعيها واستثمرت في موسيقاها، وأصدرت ألبومًا تلو الآخر موسعةً شعبيتها، فيما تكاسلت فرق (وفنانون) أخرى اكتفت بالتركيز على خطابها، أو على كونها تقدم موسيقى بديلة بغض النظر عن جدواها أو مبررها، فأخذت هذه الفرق بالتموُّت مع ألبوماتها الثانية والثالثة ما بعد ٢٠١١، واختزلتها جماهيرها إلى الأغاني القديمة المرتبطة بلحظات تاريخية معينة. صحيح أن هذه الفرق تجد لحظات من النجاح في الغرب، الذي يبجلها لخطابها ويتوّجها بأوصاف مثل الشجاعة والتضحية والثورية وما شابه، وعصام نفسه استفاد من هذا في أغنية له مع بي جاي هارفي، التي كالكثير من مشاهير الغرب نجدها تعلّق مَلَكاتها النقدية عند التعامل مع فنانين عرب. ولكن أي فنان جدّي، معنيّ بالفن، لن يقبل بهذا التحجيم ولن يتحمل تلك النظرة المغرقة بالشفقة
لا يقع رامي عصام في أيٍ من الفئتين. لا هو اشتغل على موسيقاه ولا هو اشتغل على خطابه. قرر رامي ببساطة أنه استشهد في ٢٠١١، وبات عاجزًا عن التقدم أو الإتيان بأي جديد في مسيرته التي بدأت ضعيفةً بالأساس. تمتد الأغنية لخمس دقائق محافظةً على لحنها، متكئةً على إيقاع متثائب، ومحشوةً بأصوات بايس وجيتار تفضح صمم أذني مؤلفها كليًا عن التفاصيل، وكأنه أحد أولئك الذين يشاهدون أفلامًا على شاشة الجوَّال ويقولون: ما يهم هو القصة. عندما تصل الأغنية إلى جسرها في الربع الأخير، تدفعنا للبحث عن أزرار القفز إلى الأمام على الكيبورد. لا نريد نسب الروك المستخدم هنا إلى أواخر التسعينات، لأنه مرفوض حتى لو رجعنا به عشرين عامًا للوراء.
إذًا لا تعدو الأغنية موسيقيًا كونها حشو وقت لمرافقة كلمات رامي، لكن الكلمات لا تزيد الطين إلا بلّةً. لو كتبنا هاشتاج بلحة على فايسبوك أو تويتر وجمعنا ثلاثين جملة ساخرة بنفس القافية لخرجنا بكلمات أفضل. لا تلعب الأغنية على كونها جادة، فلا تقول ما يهم، ولا على كونها لاسعة ومواجهاتية، سمعنا مؤيدين للسيسي ينتقدونه بكلمات أكثر حدةً، لكن المصيبة أن الأغنية تلعب على كونها طريفة ومهضومة، وعلى رصيد رامي عصام الثوري، ولا نعرف أي من الأساسين أكثر تداعيًا من الآخر.
تذكرنا أغنية رامي الجديدة بالمجمل، مختزلةً إياه كظاهرة، بـمقولة نيتشه: “لو حدقت طويلًا في البلحة، ستحدق البلحة فيك أيضًا.” فعندما ينهمك صاحبنا بالسخرية الظاهرية السطحية من السيسي كشخص، تضيع عليه رؤية السيسي كظاهرة، وبالتالي يضيع عليه الشبه بينه وبين السيسي كظاهرة. ولعل الأمر اللاذع والمجدي الوحيد الذي تقدمه الأغنية لنا، هو أن كل انزلاق نحو التسرع وعدم الحذر وضيق الأفق قد ينجب بلحة، وهكذا من المحال أن ينتهي البلح.