.
مقدّمة:
ما الذي يعنيه أن يكون اسمك “فدعوس الصالح” سنة 1930
قبل 63 عاماً، التحق رائد الموسيقى الأردني توفيق النمري الذي كان يبلغ 32 عاماً بالإذاعة الأردنيّة برام الله (1949-1959).
لم يكن النمري معروفاً آنذاك. لاحقاً، وعندما بدأت الصحافة تهتم بسيرته، أي بعد أن عجز عن الغناء، أخبر صحافيّاً في جريدة الدستور أنه كان شبه منبوذاً من أهل قريته في “الحصن“. إذ كان يضع رأسه في أوعية الفخّار، التي كانت تستعمل لتخزين المياه الباردة، ويغنّي.
كان النمري يراقب الصدى الذي توفّره الأوعية الفخاريّة على الرغم من رحابة الريف الذي كان يغفو خارج التاريخ وخارج المكان. كانت الأوعية الفخاريّة تسمّى “الخابية“. وكان اسمها مجازاً مثاليّاً لمن أراد أن يخبّئ صوته، وموهبته التي تغرّب بها عن بقية الناس.
عندما ولد النمري سنة 1918، كان قد مر على الثورة العربيّة الكبرى عامين. وبعد ثلاث سنوات، استلم الهاشميون الحكم في عمّان ودمشق وبغداد، وأقيمت “إمارة شرق الأردن“.
بالنسبة لمن ولد في هذه الظروف بقرية محسوبة على الامتداد الجغرافي والاجتماعي الحورانيّ، كان ذلك غير مهمّاً. كان نشوء النمري بريئاً من التحوّلات السياسيّة التي كانت تجري من حوله. والتغريب عن هذه التحوّلات وعدم استيعابها كان دافعه وراء طرد المشهد الذي كان يلمع ببطء، والاحتماء بأوعية فخارية.
كان النمري يخبئ صوته بالـ“خابية“. كان اسمه في المدرسة “فدعوس الصالح“، قبل أن يحتمي باسمه الجديد “توفيق النمري“. وفي العام 1936، بدأ النمري بالغناء في الحفلات وفي سهرات الأصدقاء عندما كان عمره 18 عاماً.
كان فدعوس الصالح مجرّد صبي نحيل من قرية مسيحيّة تسمّى الحصن. وكان المشهد السياسيّ أمامه عبثيّاً بما فيه الكفاية حتى يمنعه من التورّط فيه. ولم تكن فلسطين تثير الحماس الثوري، لأنها كانت تحت الانتداب البريطاني، مثلها مثل بلاد الشام.
الفرق في أن تحقيق وعد بلفور غيّر كل شيء. وأصبحت الهويّة الفلسطينيّة مرهونة بالذاكرة العبثيّة للمنطقة. ولم يعد مقبولاً الحديث عن هويّة أردنيّة مخبأة في “الخابية“. إذ كان على النظام الجديد في شرق الأردن القبول بتوطين اللاجئين الفلسطينيين سنة 1948. وفي نفس الوقت: التأسيس للهويّة المحليّة الأردنيّة.
صورة الفلسطيني في الأغنية الأردنيّة: الشريك، الآخر، والثائر الجديد بعد الربيع العربي
ظهر الفلسطينيّ في الذهنيّة الأردنيّة الشعبيّة كشريك في النضال بالبداية. والحالة التعبيريّة الأصدق كانت تبرز في الغناء الفولكلوري. ففي معان، التي تمتلك تراثاً بدويّاً وريفيّاً يصلها بالبادية العربيّة شرقاً، وحوران شمالاً، بقيت “السحجة” الأشهر في الأعراس والمناسبات سياسيّة بامتياز. تشيد برجال معان والأردن، وتندب احتلال فلسطين من قبل اليهود وتؤكّد على أنها “عربيّة“، وتهدّد المحتلين بالدبابات الأردنيّة.
وللمفارقة، تم تشويه هذه “السحجة“، وإلغاء الجزء المتعلق باليهود والدبابات. وأصبح مصطلح “السحجة” الآن إشارة للموالاة العمياء للنظام. وذلك بعد أن استعملت أجهزة النظام هذا الفولكلور في “التسحيج” للزائرين الرسميين إلى معان والاحتفاء بهم. قبل أن يتم تأسيس “فرقة معان للفنون الشعبيّة“، ويتم تصديرها إلى المراكز الثقافية والمسارح في العاصمة عمّان للترفيه عن المسؤولين، ولتصدير “الفولكلور الأردني” لدى مشاركتهم في الفعاليات الثقافيّة العربيّة والعالميّة.
من أشهر “السحجات” هي “أول القول ذكر الله“. وهي لازمة تستعمل في الدبكات في سورية والسعوديّة وفلسطين والأردن.
أول القول ذكر الله. أول القول ذكر الله
والشياطين نخزيها. والشياطين نخزيها
ديرتي حلوة المية. ديرتي حلوة المية
يا محلا شمخة اقصوره. يا محلا شمخة اقصوره
فلسطين العربية. فلسطين العربية
عند اليهود مأسورة. عند اليهود مأسورة
فلسطين العربية. فلسطين العربية
تنخا شباب العروبة. تنخا شباب العروبة
يا شباب الأردنية. يا شباب الأردنية
يا شباب المعانية. يا شباب المعانية
كلهم اسباع وانمورة. كلهم اسباع وانمورة
والدبابات أردنية. والدبابات أردنية
منها اسرائيل مقهورة. منها اسرائيل مقهورة
زغرتت كل نشمية. زغرتت كل نشمية
فرّعت كل مستورة. فرّعت كل مستورة“
وفي المنطقة ما حول معان أيضاً. تظهر الهويّة الفلسطينيّة على أساس أنها “الضفة الغربية للنهر“. ففي الحداء الذي سجله الموسيقي الأردني طارق الناصر في وادي رم في اسطوانة “يا بو رديّن” (إنتاج أمانة عمّان الكبرى 2004-2008)، يغني ناصر سالم الزلابية:
“مر العبيلي يا بنيّة/ يا الحلوة من أيّا سميّة
انت من هلي المشاريق/ ولا من الضفّة الغربيّة“.
وبالعودة إلى نموذج توفيق النمري، برزت فلسطين في أغاني النمري كجزء من تراث المنطقة. فمن غنائه “وين ع رام الله“، إلى “على بير الطيّ” اللتان تعتبران من الأغاني الفلسطينيّة التراثيّة، استطاع النمري على أن يعثر على الرابط العضويّ بين تراث المنطقة ككل.
وحين كانت الحاجة ملحّة للبدء بمرحلة الأغاني الوطنيّة، لحّن النمري وغنى عدة أغانٍ منها “مرحى لمدرعاتنا” (التي كتبها في رام الله) و“على ضفافك يا أردن” (مع عايدة شاهين). وبدأت على يده مرحلة كتابة كلمات الأغاني المحليّة الصرف، وذلك بداية من أغنية “درب الراتب واحد، ودروب السرقة مية” التي كتب كلماتها رئيس الوزراء آنذاك وصفي التلّ.
المفارقة أن النمري ساهم بتشكيل الهويّة الفنيّة الشعبيّة الأردنيّة من خلال الأغاني الوطنيّة بسياق ألحانها الشاميّة والحورانيّة والفلسطينيّة والريفيّة. وذلك بخلاف الأغاني الوطنيّة التي تنتشر الآن بشكلها البدوي الصرف، والتي تشير فقط للأصول الشرق أردنيّة ضمن مشروع إقصائيّ إقليميّ بدأ من ترويج مصطلح “الأردن أولاً” في بداية هذا القرن.
ومع إقصاء عناصر الهويّة الأردنيّة، التي لا تحصر في البدويّة نظراً للصلب الريفي في الشمال، والصّلب المَدَني في عمّان والسلط، تم إقصاء مشروع توفيق النمري نهائيّاً مقابل التركيز على الهويّة البدويّة. وتمت صناعة مغنيين آخرين ينسجمون مع هذا المشروع، ومنهم المغني فارس عوض الذي ينحدر من عشيرة “بني حميدة” الكبيرة والقويّة في لواء ذيبان بمنطقة مادبا. وهي المنطقة التي خرجت منها أول مظاهرة تطالب بالإصلاح والحريّات في نهاية سنة 2010.
بمعنى آخر، كانت رام الله مهمّة لتشكيل الهويّة الأردنيّة مثلما كانت درعا مهمّة لذات السبب. فمن دون رام الله، أو درعا، ستبدو الهوية ناقصة كما هي الآن.
إذ ساهم وجود النمري في رام الله لمدة عشر سنوات في إنتاج الهويّة الأردنيّة من خلال أغانٍ مثل “مرحى لمدرعاتنا“. وعند اختفاء هذا العمق الفطريّ، وتغيّر هذه الصورة بعد توقيع معاهدة وادي عربة سنة 1994، والمحاولات –الجارية حتى الآن– لفصل الهويتين الأردنيّة والفلسطينيّة بطابعهما المجتمعي والسياسي، برزت الحاجة لابتداع هويّة أردنيّة انفصاليّة خالصة يظهر عدوّها في “الأغاني الوطنيّة” بصورة كل من هو ليس أردنيّاً.
وما يجري الآن من اختلاق مشاريع مغنيين يقدمون أنفسهم على أنهم امتداد للتراث البدوي الخالص، يشير إلى نجاح هذا المشروع الآن على الأقل. إلى درجة أن هذه الأغاني أصبحت لازمة رئيسيّة في حفلات الأعراس، وفي السهرات الخاصة، وفي الإذاعات المحليّة، وفي الإذاعات الداخليّة لمعسكرات الجيش.
هذا الفصام أدى أيضاً إلى تغريب المغنيين أنفسهم عن فرديتهم ومجتمعاتهم وهمومهم. متعب الصقّار مثلاً– الذي ينحدر من الرمثا الحورانيّة، التي تقع على الحدود السوريّة– أصبح عضواً في هذه المنظومة التي أقصت تراثه الحوراني رغم أنه يحمل واحداً من أجمل الأصوات الأردنيّة التي ظهرت حتى الآن.
كما أن أعضاء فرقة “الأخوة اللوزيين” التي بدأت بالغناء في الأعراس اعترفوا في مقابلة صحافية أنهم تخلوا عن الغناء “العاطفي” واليوميّ لمصلحة الأغاني الوطنيّة الجديدة بسبب رغبتهم في التمتّع بالشهرة.
هذا الفصام، أدى، في مرحلته الأخيرة والمعاصرة، إلى بروز المشهد الموسيقي المستقل لمدينة عمّان. هذا المشهد الذي بدأ واستمر على أساس أنه مشروع انفصالي آخر، ينقطع عن التراث، ويحتفي بركاكة اللهجة العمّانيّة المختلطة.
فمنذ العام 2004، برزت فرق ومغنيين عمّانيين تحتفي بالقضايا اليوميّة العمّانيّة الصرف. كانت المواضيع تتراوح بين قصص الحب المحرّمة، والفراغ العمّاني النفسي والمعماريّ. وبذلك، عاد المشروع الموسيقيّ الأردني للغناء في “الخابية“. ولم ينقذه منها سوى الربيع العربيّ.
ففي أواخر 2010، برزت حركة “هيب هوب” شبه ثوريّة بدأتها فرقة “ترابيّة” واستكملها “الفرعي” و“خطة ب“. لتعود القضايا العامة، والقضية الفلسطينيّة إلى الجلوس في مكانها الطبيعي داخل منظومة الهوية الموسيقيّة الأردنيّة.
فرغم تأثير هذه الحركة الجديدة المحدود، نظراً لانفصال روادها في البدايات عن المشهد خارج عمّان، وانشغالهم بالتقسيم الطبقي بين عمّان الشرقية الفقيرة والمهملة، وعمّان الغربيّة الغنيّة وحاضنة الاستثمارات، والتي تغنّي في “خابية” خاصة بها. بدأت فلسطين بالتسلل إلى كلمات الأغاني بالتزامن مع الغناء عن قضايا التحرّر، والفساد السياسي، والطبقيّة، لكن ضمن المدخل المحلي.
ففي أغنية “حراك” (ترابية مع الفرعي)، يتم انتقاد محاولات ضرب عناصر المجتمع الأردنيّ ببعضه، وذلك بعد أن تعرّض المتظاهرون الأردنيون الذين شاركوا بمظاهرات “الانتفاضة الفلسطينيّة الثالثة” يوم 15 أيّار/ مايو 2011 لإطلاق نار من مدنيين قيل أنهم يمثلون عشائر منطقة “الكرامة” القريبة من الحدود الأردنية الفلسطينيّة. لتندلع الاتهامات بين الطرفين على أساس أصول فلسطينيّة وشرق أردنيّة. وهذا بالضبط ما حصل قبل ذلك في مظاهرات 24 آذار/ مارس في السنة ذاتها، حيث تم تصنيف المتظاهرين على أنهم “شيعة” و“إيرانيين” و“فلسطينيين” من قبل المتظاهرين المحسوبين على النظام ويحملون صور الملك. وقتها، وصل التحشيد النفسي والمادّي إلى مستويات لم تشهدها العاصمة من قبل، ما أدى إلى تجمهر عدد كبير من الأفراد على دوّار الداخليّة، حيث أقيم وفضّ الاعتصام، وخلعت الحشود لافتة تشير إلى شارع يحمل اسم الملكة علياء (فلسطينيّة الأصل) وداسوها بالأقدام أمام الكاميرات.
جاء إنتاج أغنية “حراك” تحت ظل هذه الظروف. وفي وقت وصلت فيه التجربة “العمّانيّة” إلى ذروة استيعابها لما يجري حولها، وإلى أفضل مستوى أخلاقيّ تحمّلت فيه مسؤوليّتها السياسيّة والاجتماعيّة. وعندما توفّرت هذه الظروف، خرجت هذه الأغنيّة بالتجربة الجديدة من “الخابية” العمّانيّة. ولأول مرة تقريباً، يتم ذكر مدن ومناطق خارج العاصمة للتأكيد على “وحدة الحال“، و“الصراع الوطني“. وتفنيد الصورة التي ظهرت عليها العشائر بأنها تمثّل وترعى “البلطجّة“:
“واضح إنه فشلك لأنك بديت تخبّص
درك مدني لبّس، بس مسكوه متلبّس
حاطط ناس تتربص عند الحدود بالغور
شكلك أسقطت مادة من الدستور، وغيّرت التخصّص
(..)
بيجوز تسكّت عمّان بموضوع تفريق شعبين
بس العقبة لساتها ماخدة على خاطرها
(..)
وبتدّعوا إنه المحافظات إلها رأي مغاير بالإصلاح
كأنها بالفساد بتساير
حمّلتوا الجنوب جميلة بتوزيع طحين عالداير
هزلت البلطجيّة يمثلوا ولاد العشاير
غيّر أسلوبك الفاسد، حسّن الصورة
شعبك واعي بفترة بغاية الخطورة
لمّا يتم توقيع مشاريع بالبادية بينك وبين أبو خلج
هات لولاد معان والبقعة نسخة من الفاتورة”
بالنتيجة، كانت المفارقة دائماً، وبشكل غير منطقي، تقضي بأن صورة الفلسطينيّ في المشهد الموسيقيّ الأردني تتحسّن كلما تحسّنت جودة المنتج الموسيقيّ. مع إضافة عنصر جديد في هذه المعادلة: كلما توسّع مدار هموم المشهد الموسيقي الأردني، بدأت الهوية الأردنيّة بالتشكّل، مقابل تحلّل المشروع الإقليميّ الانفصالي.
يقول فالتر بينجامين “الانحياز الأدبي، الموجود ضمنيّاً أو صراحة في كل انحياز سياسيّ صحيح لعمل ما، يتضمّن جودته الأدبيّة لأنه يتضمّن انحيازه الأدبيّ“. مشيراً إلى أن هذا الانحياز الأدبي “يمكن أن يتمثّل إما في تقدّم أو في تراجع التقنيّة الأدبيّة“.
وهذا ما ينطبق على المشهد الموسيقيّ المستقل في عمّان أيضاً. فعندما عجز روّاد هذه الحركة الجديدة (يزن الروسان وعزيز مرقة) ابتداءً من 2009 عن استيعاب التطورّات والتغيرات المجتمعيّة والسياسيّة، والأهم عجزهم عن استشراف الثورات العربيّة، سقطت هذه التجربة في نفس “الخابية” التي كان توفيق النمري يغّني فيها بصباه.
فهل لنا أن نتخيّل معاصرة توفيق النمري لكل ما يجري الآن؟ وهل لنا أن نطمئن إلى، أو نجزع من مشروعه الموسيقيّ إذا ما دعته مؤسسة رسميّة، مثل الديوان الملكي، أو وزارة الثقافة، أو إذاعة القوّات المسلّحة أو إذاعة الجيش لإنتاج أغنية “وطنيّة” جديدة؟
بمعنى آخر، هل نستطيع الحديث عن مشروع توفيق النمري؟ أم عن ظروف استدعت إنتاجه لأغانٍ “وحدويّة“، تؤكّد على وحدة الحال المجتمعيّ والمصير السياسيّ الواحد؟
الجواب هنا يكمن في أغنية “بلف وبدور” التي كتبت على الأرجح أثناء وحدة الضفتين (1950-1988).
“بلف وبدور“: البحث عن الجغرافية الفلسطينيّة في الأغنية الأردنيّة
ثمّة سبب غير علمي في الاعتقاد بأن أغنية “بلف وبدور” كتبت في الفترة الأولى من وحدة الضفتين. وتحديداً أثناء إقامة توفيق النمري في رام الله، أي في الخمسينيّات، وتحديداً 1950-1959.
لا توجد معلومات أكيدة حول ظروف وتاريخ كتابتها، إلا أنّنا لا نستطيع أيضاً التأكّد إذا ما كانت إنتاج الأغنية تم بـ“إيعاز” من جهة رسميّة ما.
وإذا افترضنا حسن النيّة، فإن النتيجة تبدو بريئة وفطريّة وعفوية. ابتداءً من كلمات الأغاني البسيطة جداً– والتي تكاد أن تكون طفوليّة، واللحن الريفيّ البسيط بمرافقة واضحة للناي، وأداء النمري نفسه الذي يخلو من الحرفيّة أو الحذلقة.
“بلف وبدور، قاهرني ومقهور
بطلعله من العارضة، بنزل من ناعور يا أهل الله
وأنا بلف وبدور، بلف وبدور.
سابقني وراه، بركض ما بلقاه
بإربد بستناه، بنفد ع الاجفور (الجفر) يا أهل الله
وأنا بلف وبدور، بلف وبدور.
وين أقعد وحابس، وع ربا حارس
بسأل عنو بنابلس، بقولوا بالغور يا أهل الله
وأنا بلف وبدور، بلف وبدور.
بركب أوتومبيل، وبدعس نص الليل
بنشد بالخليل، بيبقى ببيت ساحور يا أهل الله
وأنا بلف وبدور، بلف وبدور.
بوصله ع معان، بيرجع لعمّان
عند أم الحيران بفتحله الزامور يا أهل الله
بفتحلوا الزامور، وأنا بلف وبدور، بلف وبدور
ظليت محاويه، تتلاحقت فيه
مش باقي إلا أرميه، رمية العصفور يا أهل الله
رمية العصفور وأنا بلف وبدور، بلف وبدور
بلف وبدور، قاهرني ومقهور
بطلعله من العارضة، بنزل من ناعور يا أهل الله
وأنا بلف وبدور، بلف وبدور.”
بناءً على ما تقدّم، فإن الأغنيّة موجّهة– بحسن نيّة– وبسذاجة أيضاً، مباشرة إلى سكّان الضفتين معاً. وذلك للأسباب التالية:
1. ثمّة تعمّد ملحوظ في عدم بذل أي جهد حَرَفيّ في الكلمات والأداء واللحن. وهذا ما ينفي عنها صفة الإيعاز. وذلك مقارنةً بأغانٍ “تم الإيعاز بها” مثل أغنية “أردن أرض العزم” لفيروز، من كلمات سعيد عقل وتلحين محمد عبد الوهّاب، وأغنية “عمّان” لنجاة الصغيرة من كلمات حيدر محمود وألحان جميل العاص، وأغاني مسرحية “برجاس” من ألحان زكي ناصيف وكلمات حيدر محمود.
2. في الأغنية ثمّة لجوء إلى شكل القصص التراثيّة المنتشرة. أو على الأقل الاعتماد على قصّة شعبيّة بسيطة، وهي: البحث عن الحبيب. إذ عاد النمري للتنبيش في التراث المحلي ليعثر على فطريّة التنقّل بين مدن وقرى الضفتين لسبب ساذج كالبحث عن الحبيب الذي يتهرّب منه من دون سبب.
3. ثمّة إهمال لذكر مدينة القدس التي ظهرت دوماً في الأدبيّات الخطابيّة الهاشميّة كمدينة مقدّسة تقع ضمن مسؤوليّات الهاشميين والأردن التاريخيّة والدينيّة.
4. تفرض الأغنية شعوراً بانحسار المسافات بين المدن والقرى التي يتم ذكرها. وفي مقطع “مش باقي إلا أرميه رمية العصفور“، يتم تأويل هذه المسافات إلى “رمية عصفور“، سواءً إذا تم تفسير ذلك على حركة العصافير في مساحة ضيّقة، أو في اصطياد العصافير من مسافة قريبة أيضاً.
الأغنية تنقذنا من التعامل مع فلسطين كملجأ للتثوير العربي، أو اعتبارها كمكان افتراضيّ، أو على الأقل كبلدٍ تم تحميله قدسيّة وقوعه تحت الاحتلال، أو حتى رمزاً معنويّاً يمكن أن يتم إقحامه في أغنية.
إذ تعامل النمري مع المشهد الفلسطينيّ كجزء طبيعيّ من المنطقة، لا يتمتّع بامتياز يذكر سوى أنه مرتبط بالحبيب الذي يتم التشويش على مكان إقامته عمداً.
لكن هل هي صورة سلبيّة وحياديّة لفلسطين التي كانت تقع تحت الاحتلال؟ بمعنى، هل استغنى النمري عن التثوير باتجاه الدعوة لتحرير فلسطين مقابل التأكيد على وحدة الحال؟
قد يبدو الجواب على هذا السؤال عبثيّاً. خاصةً أن قيام دولة الكيان الصهيونيّ سنة 1948 كانت يهدّد المنطقة ككل. ويهدّد دولها بالانقسام والاحتلال والانتهاء إلى نفس المصير.
لذلك، يمكن، إلى حدٍّ ما، اعتبار أغنية “بلف وبدور” أغنية ثوريّة واعية، تستشرف المشروع الصهيوني الذي تلقّفته الأنظمة، سواءً في الأردن أو لبنان أو سورية، لتناصب العداء للفصائل الفلسطينيّة، ولتحميل “الفلسطينيّ” أخطاء قيادات تلك الفصائل.
وإذا أردنا تتبّع ظهور المشهد الفلسطيني في الأغنية الأردنيّة، لن نعثر على عدد مشجّع من الأمثلة. إذ تحوّلت فلسطين، في العقود التالية، إلى رمز يعيش فقط على الشاشات. وهذا ما انعكس على الفرق المتخصصة بالأغاني الثوريّة الفلسطينيّة، والتي أسسها لاجئون فلسطينيون في الأردن مثل فرقتي “الرايات” و“بلدنا” اللتان تأسستا في السبعينيّات والثمانينيّات، واستمرت “بلدنا” في نشاطها حتى اليوم.
لكن، وللمفارقة أيضاً، ظهرت فلسطين في الأغاني الأردنيّة مرة أخرى في أغنية “قادم” عند الاعتداء الإسرائيلي على غزة أواخر سنة 2008، وعلى يد عمر العبداللات، الذي يمكن اعتباره رمز الأغنية الوطنيّة الأردنيّة الإقليميّة والانفصاليّة.
العبداللات، الذي طالب مؤخّراً الديوان الملكي بفرض “رقابته على الأغاني الوطنيّة“، وذلك لأن الديوان “مخلي الناس تاخد راحتها، وأي شاب يستطيع الغناء عن الوطن بدون رقابة“، أوجد لغزّة تحديداً بعداً عربيّاً من خلال ترديد أسماء مدن فلسطينيّة وعربيّة في آن.
“قسماً ياغزة بالمعزة
قادم
ما تمنعنا الأعادي عن عكا ويافا وحيفا
كبر باسم الله العالي فوق الصخرة الشريفة
من طنجة وجدّة ومن مكناس
قادم
من قسنطينة من الأوراس
قادم
قادم قادم قادم
قسماً ياغزة بالمعزة
قادم
ما تمنعنا قنابل عن العفولة ورام الله
في الفلوجة نتقابل والراية منا تتعلا
من الجوف وكيتي ومن عطار
قادم
من جربة وسوسة ومن مكثار
قادم
قادم قادم قادم
قسماً ياغزة بالمعزة قادم
عربي فدائي أسمر ملقلق بحطّة خضرة
بيده المقلاع يدمر
والحجرة صارت جمرة
من الجبل الغربي للبطنان …قادم
من طنطا وسيناء ومن أسوان…قادم
قادم قادم قادم
قسماً ياغزة بالمعزّة قادم
وما نتجدّى نتحدى وكل يوم نزيد صلابة
بالحجارة نتصدّى، وما نقوى من دبابة
من عدن وصنعاء ومن عجمان
قادم
من نوبة وكسلا وبور سودان
قادم
قادم قادم قادم
قسماً ياغزة بالمعزة
قادم
مقتول ودمي سايل مقطع إيدي ولساني
أعمل كل الوسايل كل يوم يزيد إيماني
من حمص وحلب ومن لبنان
قادم
من البصرة وجهرة ومن عمّان …قادم
قادم قادم قادم
قسماً يا غزة بالمعزة قادم
فوق الجليل الأعلى وبير السبع وطبريا
علّمنا الظالم معنى شموخ الأمة العربية
من مكة وجدة ومن ظهران
قادم
من الدوحة محرق من عجمان
قادم
قادم قادم قادم”
قد لا تعبّر هذه الأغنية، التي حتى لو يتم الإيعاز بها، إلا عن رغبة مشوهّة بافتعال سلاسل مواقف نابعة من الكسل الذهني للعقليّة الرسميّة الأردنيّة. فالقوميّة العربيّة تسيطر على مزاج الأغنية بسذاجة، ومن دون أي حاضن أردنيّ رسميّ. وإن كان الشارع يميل لاستحداث البعد العربيّ في هويّته، إلا أن التحوّلات التي خلقتها الثورات العربيّة قد تبدو جذريّة. خاصة لدى التعامل مع العرب كآخرين يحتلون البلد ويقومون بغزوها ثقافيّاً.
وذلك كان الحال مع الفلسطينيين، أو لاحقاً ما سمّي بالأردنيين من أصل فلسطينيّ، الذين تشن ضدّهم حملات إقليميّة تطالبهم بالكفّ عن النداء بالحقوق الكاملة. أو الكفّ عن التفجّع على الحقوق المنقوصة على أقل تقدير.
ولأنه كان على النظام حماية ذاته، استغنى عن البعد الفلسطيني كما استغنى عن البعد السوري واللبنانيّ، وتغنّى باسمنت عمّان ورمال العقبة “الذهبيّة” ومياه البحر الميّت الشافية.
ولن نجد حضوراً لهذا المشهد الفلسطينيّ إلا على استحياء، وبإشارات مرموزة بعيدة تحتمي باللغة الشاعريّة. كما في أغنية فرقة المربّع: “حدا تاني” من اسطوانة باسم الفرقة صدرت سابقاً هذه السنة 2012، التي كتبها طارق أبو كويك. هنا تظهر فلسطين في خلفية مشهد باهت وبعيد كـ“حدود” ليس أكثر. حدود مرتبطة بالاختلافات الطبقيّة في عمّان ذاتها.
ورغم أن الاختلافات الطبقيّة مدخل لتحليل المشهد الفلسطينيّ نظراً لارتباط الفلسطينيين في الخارج بالمخيّمات، إلا أنها عقليّة قاصرة وغير واعية أو قادرة على النّظر إلى ما بعد الكارثة الفلسطينيّة. هذه العقليّة تنسى أيضاً أن ثمّة قرى أردنيّة لا تصلها الكهرباء أو المياه أو الخدمات.
“بدّك هالعيشة، مالناس بتموت
سيارة كبيرة، والكل مبسوط
بشارع بيت أهلك، السيارة ما بتفوت
حتروحي سياحة فين: جمب الحدود؟
السيارة ما بتفوت“.
هذه العقليّة التي تربط ما بين المأساة وبين القسوة والفراغ أحالت المشهد الفلسطينيّ في الأغنية الأردنيّة إلى مجرّد مدن يتداول اسمها كما يتداول اسم الفراغات التي تقصي سكّانها: مستوطنات جديدة في الذهن العربي والأردنيّ.
لكن إذا اتفقنا على ذلك، فيجب أن نتّفق على أن الربيع العربي غيّر الكثير في هذه الذهنيّة من دون أساس راسخ.
والدليل على هذا: شرفة في رام الله أطلقت مشروع طارق أبو كويك في أغنية “مدينة حديثة“.
بوصلة الأغنية الأردنيّة البديلة بعد الربيع العربي:
التحرّر من الأنظمة الاستبداديّة، أم الوقوف إلى جانبها بمواجهة المحتلّ؟
في شهر شباط/ فبراير 2011، أصدر طارق أبو كويك، الذي يسمّي مشروعه “الفرعي” أغنية “مدينة حديثة” على اليوتيوب. غنّى أبو كويك الأغنية من على شرفة في رام الله، والتي كتبها هناك أيضاً.
كانت تلك أول مرة نسمع فيها “الفرعي” بمشروعه الواضح الذي وصفه لاحقاً بأنه “يتّخذ من ضفتي نهر الأردن، حيث ينتمي، نقطة انطلاقه“.
“باسم الجيل الصاعد بدي أكتب تصريح
نفوت على المكتبات العامة ونعمل توضيح
تحديدا رف جديد وراء قسم التاريخ
عن رغبات السفن واتجاه الريح
لأنه بصراحة بطرحك هاد عشان أكون صريح
عم تنسب المستعمر للسيد المسيح
لأ! هذه مش طبيعة الأراضي هاي
مش باسم العنصرية يوقع الدين جريح
فخدني عربي راب خد نهج ابن الخطاب
كان تعدد الأديان ما يسبب اضطراب
وين العلماء؟ وين أولوا الألباب؟
عم الرسول كان كافر فكونا من الأنساب
فكونا من العوائل فكونا من الألقاب
صفوا النية بالمنهاج خلينا نفهم الأسباب
اللي خلت العباسي ما يفهم الأموي
وبين الفاطمي والعثماني نفتح علينا باب
علمانية عالمية وشوية فوائد
بس أنا شايف الشرك العربي هو اللي أصبح سائد
هالمرة قدام أهدافي بدي أصفن بالتاريخ
وأسدد بالحلقة الجاي كأني الكابتن ماجد
ادخل بالجول معاي عشان يخف التباعد
نقرب الطبقات شوف كيف منقدر نساعد
لما يخلص الرف الجديد في المكتبة الوطنية
إن شاء الله زي الأستاذ غنام إلى حيفا عائد..
فرجّعولي لغتي خلوني أفيع
هلمرة أفيع فيها مش عنها أضيع
كل يوم الصبح أسقيها وبالليل مواضيع
ناسي أدرى فيها بس بصالون وسيع
سريع انقراض الناس العائلة
احنا مندفع ضريب قاعدين على منتجات هاملة
روح اسأل أمريكا بالأربعينات شو عاملة عم تدعم المتجددين والسلفية الفاشلة!
هاي البلاد فيها جبال كثير..بأي مغارة مخبيها..حبيبة قلبي مدينة حديثة…الضبع وين مودّيها
نوع فكر مشي علينا بس خلصت صلاحيته
خلصت بطاقة الشحن خلصت بطّاريته
تقريباً كل يوم عم بنزل تليفون جديد
بس الموضة تشتري المنتج على هوا فعاليته
اللي معوش بلزموش واللي معاه حسب نيته
الشارع صار مدووش عشان يثبت إلهيته
حضرة جناب الشب اللي بده يبرز كباريته
ويا ريته مدرك الحكي هاد كله ايش ماهيته
كلشي بالنهاية نعمة هذه حالة نقص
بس يروح المكياج ببين اليأس
بنظام بنوك بعبر عن حالة من البؤس
لو يشوفونا أجدادنا يصاب كيفهم بالبعص
بعص بعصب بينحر بينغص
لأنه بعض بيتغرب بيتدرب بيرجعش
بلدان يتحامى الشيخ فيها بالقص
بالراب منتسلى يابا بس أنا بمزحش
فهات موال يخاطب مشاعر الناس
وبتقدر تهدي أغنيتي هاي للحرس الخاص
بضرب أنا تحية لما يكون في تنوع
تخيل تفوت على خضرجي بس ببيع انجاص..
تخيل نعبد الله مش نعبد أشخاص
وبالتطور العلمي نطلع راس براس
مع دول متقدمة أنا سامع صوت جراس
سامع صوت أذان بس برضو سامع التباس..
يا طخه يا اكسر مخه ولا كلمة أو عم تردحي؟!
هو انتي يا خمار يا بالمرة بتشلحي
بحب أترّك لحية بس مش معناته ملتحي
لا تفكرني خايف لا تفكرني مستحي
هذا مش كلام رسول أنا بس بعبر عن نفسي
متعددة الطقوس وأنا معتدل طقسي
بكون مبسوط إذا فاتت كل كلماتي على راسك
بس اعرف إنك ما فهمتها إذا أخدتها شخصي!”
يمكن، من على هذه الشرفة، التفكير في أبو كويك على أنه ابتدع نفس مسار توفيق النمري قبل 63 عاماً. فمن على هذه الشرفة، غنّى عن هذه المدينة الحديثة على أنها عمّان وببالها رام الله. أو رام الله وببالها عمّان. هذه الأغنية، التي يمكن اعتبارها أنها أول اختراق ناجح للعلاقة الرسميّة والتجاريّة المتشنّجة بين المدينتين، كانت من أوائل الأغاني التي ساهمت بتحديد مسار موجة الأغنية الأردنيّة الجديدة.
المقارنة هنا تكاد أن تكون استنساخاً عن تجربة النمري صغيراً في “الحصن“. فمثلما خبّأ النمري صوته في “الخابية“، يتساءل أبو كويك عن هذه البلاد التي تحتوي على “جبال كثيرة“- وبأي “مغارة يمكن له أن يخبئها“.
تساؤل أبو كويك عن كل هذه الجبال يحتوي على مرارة أكثر من حملها لشعور وطنيّ عارم. مبتعداً، على الأقل، عن الشعور الساحق بالغضب لدى فرقتا الهيب هوب: “ترابيّة” أو “خطة ب“.
إذ عادت فلسطين للظهور في أغاني الاثنين على شكل رمز قوميّ ضمن مشروع تحرّري ظهر قبل مولد أعضاء فرقة “ترابيّة” (أعمارهم بين 18-22) و“خطة ب” (23 عاماً).
رافق هذه العودة تسلّل المصطلحات السياسيّة الرسميّة المتداولة حاليّاً. ففي أغنية “بدل وطن” تتم مهاجمة مشروع “الوطن البديل” كنتيجة الاحتلال الإسرائيليّ وتخاذل الأنظمة العربيّة من خلال توقيع معاهدات السلام.
“جيل خري على كل معاهدة سلام
لإنه بالأخير طلعت كلام بيخرّي
حاولوا يزرعوا مبدأ ثقافة “عدو صديق“
وقد ما الدنيا تضيق، ما إله نفس إلا في أرضنا
بس طول ما إحنا إلنا نفس بهالدنيا
ما له أي حصة فيها“
قد تبدو تجربة فرقة “ترابيّة” تحديداً استدراجاً للتثوير الأردنيّ قبل أن يبدأ. لا يمكن اعتبار هذا الاستدراج مزيّفاً إذا ما تمت مقارنته بالشعور العام في الشارع الأردني عندما بدأت الفرقة سنة 2009، لكنه يقترب من درجة الافتعال هذا الشعور كطريق لتحقيقه. وهذا ما يقوله فراس شحادة، مؤسس الفرقة التي انحلّت الآن: “في البداية قوبلنا باستهجان متوقّع. لإن محتوى أغانينا كان راديكاليّاً، وكان من الواضح أننا صادقين ولا نسعى لتزييف أنفسنا ولا الواقع.”
المفاجئ في الأمر أن الفرقة بدأت في لقاء عبثيّ في مقبرة بمدينة العقبة تم فيه الحديث عن حادثة رمي عامل الميناء عاهد العلاونة من سيارة الدرك خلال اعتصام عمّال الموانئ في العقبة، هناك حيث بدأ حراك الشارع الأردنيّ بالتململ. الأمر الذي يدعو للتفكير بظروف مثاليّة لمولد صدفة ترافقت مع البحث عن أي شرارة في الشارع.
وإذا اتفقنا على أن الشارع الأردني تحرّك فعلاً سنة 2012، فإن اسطوانة “التطوير الحضري” التي أصدرها “خطة ب” أوائل هذه السنة كانت محاولة لمواكبة تصحيح البوصلة السياسيّة في الأغنية الأردنية الجديدة، وليس استشرافاً.
ففي أغنية “مقاومة شعبيّة” يشير الرابر إلى الحل السحري: “مدينتك ما بتتطوّر إلا لما تروح إسرائيل“، وإلى “أسطورة ليلى خالد“، ومطالباً بإيقاف التطبيع، و“تمزيق (معاهدة) وادي عربة“، و“تدمير السفارة (الإسرائيليّة) في (منطقة) الرابية“، وعدم التخلّي عن، أو نسيان “حق العودة“.
النبرة الخطابيّة في أغاني “خطة ب” تقوم بتعبئة الظروف الثوريّة التحرّريّة المثاليّة، وهو خطاب يساريّ بامتياز، وهو ما يبدو أنه يتناقض مع أغنية “مقاومة مدنيّة” لأبو كويك أيضاً في اسطوانة “فرع المداخل” (2012) التي صدرت مع اسطوانة “التطوير الحضري“.
الدعوة هنا إلى المقاومة المدنيّة من دون تحديد نوع هذه المقاومة. وذلك من خلال تفريغ الجملة الجوابيّة “هل تعلم إنه (..) هو نوع من المقاومة“.
لكن مشيراً في نفس الوقت إلى هذه المقاومة “المدنيّة“- وغير المسلّحة في تحديد ماهية “المقاوم المدنيّ“:
“تصبح مقاوم لمّا تبطّل إنسان غير مبالي لمّا تبطل ترمي محارم من شباك السيارة
وإنت قاعد بتروي للشباب قديش الغرب مثالي
صوت الشعوب عالي مقاوم مدني مقال بوتّر المستعمر وبقشعرلي بدني“.
وهو ما يقترب، بشعريّة متفجّعة، من أغنية “ما عندك خبر” لفرقة “المربّع التي صدرت في اسطوانة بنفس الاسم هذه السنة أيضاً (2012) “الغاز يتغلّى ويتخصخص، وانت ما عندك خبر. والقدس تتحرّر وتتطهّر وانت بعدك تعبد بالنار“.
ولأن تحليل الوعي المتيقّظ أو الساذج وراء هذه الأغاني معقّد كتعقّد الأوضاع السياسيّة العربيّة، فإن هذه الأغاني تشوّش على فلسطين وقضيّتها كما تشوّش عليها المواقف والمناورات الرسميّة والمبادرات المدنيّة. وكما أعادنا الربيع العربيّ إلى صفر السياسة وصفر الحريّات في بداية طريق أصعب وأكثر قسوةً– لأن التعاطي مع ديكتاتور أسهل دوماً من التنبيش عن العلل الداخليّة، ظهرت هذه الموجة الجديدة بعد الربيع العربي كتشويه ضروري لكل ما كنا نؤمن أو نكفر به.
الفرز الأخلاقي هنا، إذا ما تمّ، يتعدّى مسألة الغناء للبلاط الرسمي وحاشيته أو للشارع. إذ يتم على أساس الخطاب السياسيّ؛ فإما أن يكون مقاوماً أو مهادناً. وهو أمر جدليّ قد تسقط معه ملامح الشخصيّة الفرديّة لمصلحة الهمّ العام الذي يتمثّل في بلد محتلّ.
قد يبدو هذا معياراً صحيحاً، لكنها مجرّد هلوسة شعريّة أحياناً إذا ما وُضِعَتْ في مقدّمة مشهد فلسطيني سياسيّ بارد ومشوّه ومنقسم. خاصة إذا ما أخذنا المواقف تجاه الثورة السوريّة، واتهام أصحاب الموقفين للآخر إما بالتواطؤ مع المشروع الإمبرياليّ الذي يهدف لتفكيك أسباب المقاومة وتجفيف مصادرها، أو بالسعي لترسيخ أنظمة شموليّة جديدة تتغذّى على القضيّة الفلسطينيّة.
وإذا تساءلنا عن دور الموسيقى هنا فهو حسم الذاكرة الجمعيّة وتنقيتها من تشويش الخطاب السياسيّ. وذلك لن يكون باعتبار الموسيقى أداة للتكفير عن الذنوب الشخصيّة أو العامة، أو اعتبارها رديفاً مجانيّاً لسياق الأحداث. بل العودة لاختراع الأغنية الشعبيّة بديلاً عن الموسيقى البديلة. وهذا ما نجح فيه توفيق النمري قبل أن يتم إقصاؤه، فين حين فشل أبو كويك ورفاقه في ذلك.
تم إنجاز هذه الدراسة لمشروع للنهر ضفتان ونوقشت يوم ١٠ تشرين الثاني ٢٠١٢ في ‘مكان‘. نشرت الدراسة على موقع المشروع http://