وودي آلن | بلوز الرجل الجامح

في فيلم آلن الذي صدر في ٢٠٠٤، مِليندا آند مِليندا، يقوم كاتبان بتخيل سيناريوهين لوصف محاولات شخصية مفترضة لاستعادة الاستقرار في حياتها، ويحاجج كل من الكاتبين لصالح طرحه، أحدهما يرى مشاكل الشخصية ومحاولاتها كوميدية بينما يراها الآخر تراجيدية. شكلت هذه الثنائية والتردد المقترن بها سينما وودي آلن إلى مدىً بعيد. فلو استثنينا أفلامه الأولى التي كانت كوميدية بالضرورة استجابةً لما تنص عليه عقود شركات الإنتاج، حاول آلن منذ أن أسس لنفسه اسمًا في السينما محاكاة مخرجيه المفضلين ذوي النزعة التراجيدية الواضحة، أمثال برجمان وفليني وكوروساوا، ونجح في ذلك بالفعل في حالاتٍ نادرة أكثرها كمالًا إنتريُرز الصادر في ١٩٧٨. لكن معظم محاولاته لإضفاء الجدية التراجيدية على سينماه باءت بالفشل.

يشرح آلن فشله في مقابلة حديثة، حيث يقول إن معظم أفلامه الشهيرة كـ مانهاتن وهانا آند هر سيسترز كتبت بنهايات تراجيدية محبطة، لكن خلال تصوير هذه الأفلام شعر آلن بأنه لم ينجح بحشد ما يكفي من الزخم والرصانة على طول الحبكة لدعم تلك النهايات التراجيدية، ما دفعه مرةً تلو الأخرى لتغيير النهاية أو إعادة تصويرها بعد الانتهاء من الفيلم، والتحول إلى ختام أكثر تفاؤلًا وكوميديةً. تسويات وحلول وسط جعلته يكره، أو ينظر بعدم الرضا، إلى عدة من أكثر أفلامه نجاحًا جماهيريًا ونقديًا.

لكن بالعودة إلى أفلام كـ مانهاتن وهانا، لو حاولنا تخيل نهايات تراجيدية بديلة لهذه الأفلام لما بدت شديدة النفور، إذ أن هناك ما يدعم ويتفق مع التراجيديا على طول هذه الأفلام، سواءً في الحبكة ذاتها، وهو منطقي كون الأفلام كتبت بالأصل لتنتهي إلى خواتم تراجيدية، أو في العناصر الفيلمية الأخرى كالتصوير وتصحيح الألوان وإعداد المشاهد وحتى التمثيل.

يأتي ذلك من الدور الإخراجي الذي يمنحه آلن لنفسه. فعلى خلاف الإنتاجات السينمائية الضخمة، كأفلام كيوبريك ونولان وڨيلِنوڨ، حيث يلعب المخرج دور الموجه في أوركسترا، حريصًا على أن تصب كافة الآلات لدعم التطور اللحني والإيقاعي الواحد للعمل، وعلى خلاف الأفلام المستقلة، كأفلام لينكلاتر وجرموش التي يلعب فيها المخرج دورًا شبيهًا بدور الفنان الشامل في الموسيقى المستقلة، والذي يقصر عمله على عناصر السرد الأساسية ويقوم بالإلمام بمعظمها. يتَّبع آلن في أفلامه فلسفة إخراجية مختلفة، قريبة جدًا من الجاز. يبدو دور آلن كمخرج في أفلامه أقرب ما يكون لدور عازف الآلة الرئيسية (الساكس أو الكلارينت غالبًا) في فرقة الجاز، صحيح أن له دورًا توجيهيًا، لكنه بعيد عن دور موجه الأوركسترا وما يتسم به من صرامة. المساحات الارتجالية في أفلام آلن واسعة، وطابع العفوية اللحظية حاضر بوضوح. معظم المشاهد يتم اعتمادها من اللقطة الأولى، مشبعة بذاتية كل فرد من الكادر وبفهمه اللحظي للفيلم. عندما يقدم آلن فكرة جدية تراجيدية في بداية العمل على فيلمٍ ما، يترك باقي أعضاء كادر الفيلم يعملون على أساسها بعد تحويله النص إلى الكوميدية. المشاهد الرصينة والألوان الشاحبة التي رأيناها بصحبة نكات وهزل آني هول ومانهاتن، هي ذاتها التي رأيناها في فيلم آلن غير المتسع لنكتة واحدة، إنتريرز، كما أنها غير بعيدة عن المشاهد التي خلقها المصور نفسه، جوردن ويلز، في ثلاثية العراب خلال عمله مع كوبولا.

مقطوعة لو رأيت أمي لـ سيدني باشيه في افتتاحية فيلم آلن الأنجح تجاريًا، منتصف الليل في باريس

تؤدي فلسفة الجاز الإخراجية هذه إلى تشكيل أفلام آلن بالشكل الذي نعرفه، بترددها المستمر بين الكوميديا والتراجيديا، ترددًا تسمح له الروح الارتجالية أن يتعدى الحبكة إلى كافة العناصر الفيلمية الأخرى، ليخلق غالبًا تناقضًا طفيفًا لكن محسوسًا، هو ما يمنح نكتة آلن أثرها المضاعف، وما يمنح أفلامه عامةً حسها القريب من الـ آرت فيلم توجه سينمائي جاد وتجريبي يخالف التوجه الهوليوودي السائد، الحس الذي يشكل ميراث آلن السينمائي المحتفى به ويعزله عن معظم ما يتم إنتاجه من كوميديا.

ثاني أفضل عازف جيتار في التاريخ

“أنا أُعتبر أفضل عازف جيتار، ربما… ربما أفضل عازف جيتار عاش بالتاريخ” يصمت راي بتردد وكأنه اقترف فعلاً مشينًا، “الأفضل قطعًا في هذا البلد (قاصدًا أمريكا)” يقول ملوِّحًا إصبعه بطريقة تشي بسكره، ثم يضيف معترفًا في نهاية المطاف: “هناك هذا الـ… هذا الغجري في فرنسا… وعزفه هو أجمل صوت سمعته في حياتي.” كان سويت آند لوداون أول فيلم أراد آلن كتابته عندما تواصلت معه شركة إنتاج سينمائي للمرة الأولى، لكن الشركة اشترطت حينها أن يكون الفيلم الذي يكتبه كوميديًا بحتًا، ما اضطره لإرجاء المشروع لأكثر من ثلاثة عقود حتى أتيح له كتابته وإخراجه في ١٩٩٩.

يدور الفيلم الوثائقي الزائف  Mockumentary حول موسيقي وهمي اخترعه آلن يدعى إيمت راي، ويصف نفسه بأنه ثاني أفضل عازف جيتار في العالم بعد ذلك الغجري الفرنسي، جانغو راينهارت وهو عازف جيتار حقيقي. يتخلل الفيلم البيوجرافي لقطات لمؤرخين وخبراء جاز وصانعي أفلام باعتبارهم كادر الوثائقي، يتحدثون عن إيمت راي على أساس كونه شخصية حقيقية غامضة تتبعوا ملامح حياته عبر جمع قصص شاحبة المصداقية، بعضها متناقض. يظهر آلن في أول مشهد من الفيلم كأحد أفراد كادر الوثائقي، ويقدم لنا راي: “أعتقد أنه كان بالفعل عازف جيتار عظيمًا… و… وكان طريفًا! أو، كما تعلمون، أو… لو كانت طريف الكلمة الخاطئة فإنه مثير للشفقة بشكلٍ ما. كان جامحًا، وكان، كما تعرفون … غير مصقول الشخصية، ومنفّرا” ينهي آلن جملته بابتسامة ساخرة، مقدماً الجانب الأول الهزلي من إيمت، ثم يليه الدي جاي بِن دنكن الذي يقدم لنا الجانب الآخر، التراجيدي، جانب ثاني أفضل عازف جيتار في العالم: “لم نعلم الكثير عن إيمت راي سوى أنه كان عازف جيتارٍ مذهلاً، سأقول حتى أنه ثاني أفضل عازف جيتار في العالم. جانغو راينهارت كان الأفضل. وثقوا بي عندما أخبركم بأن إيمت قدَّس جانغو، كان يصاب بالخشوع في حضرته. هناك هذه القصة بأن إيمت رأى جانغو يعزف في فرنسا. أغمي عليه. رآه مجدداً في مطعم في ألمانيا. أغمي عليه مجدداً. يبدو أن تأثير جانغو عليه إما بجعله يغمى عليه أو يبكي.”

إيمت راي، ثاني أفضل عازف جيتار في العالم

من هذه الثنائية خلق آلن الشخصية التي ترشح شون پِن لأوسكار أفضل ممثل رئيسي عن أدائها. أتاحت شخصية إيمت لآلن استعراض الكثير من علاقته بالموسيقى. ففي وَجَل إيميت راي من جانغو راينهارت يعبر آلن عن وجَله الخاص من سيدني باشيه عازف كلارينِت وساكس فرنسي، يعد في عزف هاتين الآلتين نظير جانغو راينهارت في عزف الجيتار، بشكلٍ ندي، من عازف كلارينت لآخر. وفي شخصية إيمت الجامحة، إيمت الذي يتسكع بصحبة مسدسه، لا يستيقظ من السكر ولا يأسف لهجر شابة فاتنة لأخرى، كان آلن يتصالح مع الصورة الذهنية للنجم الموسيقي الجامح، والتي ربما بسببها نبذ الروك (وسخر منه) من أفلامه حتى مؤخرًا استخدم أغاني روك في مسلسله الجديد Crisis in Six Scenes الذي يدور حول الستينات في أمريكا. ربما يكون سويت آند لوداون مجرد فيلم آخر لم يعثر على الزخم والرصانة الكافية لدعم تراجيديته، ولكن ربما هو أقرب ما أخرجه آلن لسيرة ذاتية تصف حياة متخيلة فانتازية لم يعثر على الفرص والزخم الكافي ليعيشها.

بلوز الرجل الجامح

“أتذكرين عندما كنت أتدرب على الكلارينت في غرفتي؟” يسأل وودي أمه في حوار مصور من وثائقي Wild Man Blues الصادر في ١٩٩٧، “نعم، كنت تقفل الباب، أتذكر، كنت تقفل الباب، تعزف بصوتٍ عالٍ، أتذكر الشخص الذي كان يأتي، كان رجلاً أسودًا…”، يقاطع آلن بحماس: “جين سيدريك كان عازف كلارينت / جاز عظيماً، عظيماً! اتصلت به على الهاتف وسألته، رأيته يعزف في البلدة، سألته لو من الممكن أن يأتي للمنزل، وكان يتقاضى دولارين فقط للدرس، دولارين وكان يأتي على طول الطريق من هارلم. لم يكن أيٌ منا (يقصد على الأغلب هو وشقيقته الصغرى) يقرأ الموسيقى أو أي شيء، كنا نجلس في غرفة الجلوس، وكان يحاول مساعدتي بطريقةٍ ما. كانت دروسه مفيدةً بالفعل.”

رغب وودي آلن بأن يصبح موسيقيًا منذ الصبا، وأخذ كلمة وودي في اسمه الفني من عازف الكلارينت / الجاز وودي هرمان. لقرابة أربعين عامًا بات آلن، الذي لم يتوقف عن عزف الكلارينت بانتظام منذ صباه، يجول العالم مع فرقته المدعوة بـ Woody Allen and His New Orleans Jazz Band، مؤدين حفلات في الولايات المتحدة وجولات في أوروبا، باعتبارهم إحدى الفرق شديدة الندرة التي لا تزال تحيي جاز نيو أورلينز  يعرف أيضاً بالـ ديكسيلاند في الولايات المتحدة والـ ترادجاز في بريطانيا اختصارًا للـ Traditional Jazz على أصوله، علمًا أن نيو أورلينز التي تعد مسقط رأس الجاز تخلو أو تكاد تخلو اليوم من فرقة نيو أورلينز جاز بنفسها. تتقن الفرقة ألفاً ومائتي أغنية ومعزوفة جاز وبلوز وراجتايم، تم تأليف العديد منها أو عزفها أو أدائها من قبل سيدني باشيه أو لويس آرمسترونج أو جيمي نون. صدرت خمس عشرةَ مقطوعةً وأغنية للفرقة خلال الموسيقى التسجيلية لوثائقي بلوز رجل جامح الذي رافق إحدى جولاتها الأوروبية.

لا يتعامل آلن مع فرقته كمشروعٍ جانبي أو هواية، بل بجدية ربما تفوق تعامله مع أفلامه. ففي الفرقة يرى نفسه منوطًا بمهمة الحفاظ على صنف موسيقي كبر على سماعه ويشعر بالكثير من الامتنان له، مهمة ربما تمتد لتوظيف أفلامه لخدمتها يستخدم آلن الجاز والبلوز، وخصوصًا الجاز العشريناتي، كموسيقى تصويرية لأكثر أفلامه، علماً أنه عزف مقطوعات جاز لأربعة من أفلامه. لذلك يحافظ وودي على تدريبات عزف الكلارينت بحماس، ويعمل على تطوير آلاته أو محاولة العثور على موديلات هجينة تطور أداءه. في الوثائقي سابق الذكر، يظهر آلن في متحف آلات موسيقية في فرنسا، يعثر على كلارينت مصنوع بشكل حصري ليعطي صوتًا مفتوح النهاية بشكلٍ أكبر، قد يكون سيدني باشيه قد عزف عليه. يعزف آلن قليلاً وتعتلي وجهه ابتسامة رضا طفولية، “أأستطيع شراءه؟” يسأل موظفي المتحف المتحلقين حوله، “سيدي، هذا جزء من تاريخنا” يجيب أحدهم بابتسامة فرنسية، “لكن … ” يحتج آلن بلا إلحاح، “فكر بالأمر، ستكون مناسبةً تماماً لما أصبو لعزفه!” يقول دون أن يتشتت افتتانه بالكلارينت، ثم يتابع العزف.