بليتش | نيرڨانا

الشنتيانة سلاح أبيض شائع الاستخدام في الأحياء الفقيرة والمناطق العشائرية في سوريا، يبدو كسيف طويل بلا قبضة واضحة، سوى أنه حاد من الطرفين، مرن لا يمكن التحكم بحركته بقدرٍ عالٍ من اليقين، وامتلاك الخبرة اللازمة لاستخدامه يعني عدة تجارب تكاد تكون مميتة. تذكرني الشنتيانة بالجرانج، أو العكس. هذا الصنف البذيء، الخام، الذي حاولت الفرق واحدة تلو الأخرى إخضاعه والتسلح به، وواحدة تلو الأخرى كانت تموت به.

في ١٩٨٩ أتى دور فرقة من مغني / عازف جيتار وعازف بايس لتجرب حظوظها، تقدمت إلى الاستوديو بلا خبرة أو خطة، مجرَّد التجريب كان دليلًا على عجرفة وفظاظة مراهقة، واتضح أن هذا بالضبط ما تحتاجه هذه الأسلحة. عندما خرجت بعد عددٍ عجول من جلسات التسجيل، كانت الفرقة منقوعةً بدمائها وعلى وجهها ابتسامةٌ عريضة. أحبت نيرڨانا الغرانج، وكان الحبُّ متبادلًا.

المسدسات

تعاقدت نيرڨانا لتسجيل الألبوم مع تسجيلات سَب پوب الضليعة بمشهد الغرانج، والتي اتفقت مع الفرقة على تسجيل شريطٍ قصير، لكن قائمة الأغاني التي أتى بها كيرت كوباين، رغم فلترتها وحذفه منها، شكلت ألبومًا طويلًا سجّل على ست جلسات بلغ طول مجموعها الثلاثين ساعة وفق فاتورة سَب پوب التي تجاوزت الستمائة دولار وفكة. تولى عازف الجيتار جايسن إڨرمان الذي انبهر بنيرڨانا وشاركهم التسجل في الاستوديو كلفة التسجيل، لكن الفرقة أدرجت اسمه دون المقاطع التي سجلها في الألبوم، واكتفت بكوباين كعازف الجيتار الوحيد.

بين قصر وقت التسجيل المتاح والاستغناء عن مقاطع الجيتار المسجلة من قبل إڨرمان، لم يستطع المنتج جاك إدينو صنع المعجزات، وعندما كانت الأغاني تقع على يديه شبه تقليلية ببضعة أسطر جيتار مكررة مستنزفة الجودة، كان يرفع البايس كسجادة يخبئ تحتها كوارث التسجيل.

علاوةً على تسجيل بليتش العجول، كان هناك أيضًا مزاج كوباين الملتوي ونزقه، حيث قال كوباين الذي كان يبلغ الثانية والعشرين حين تسجيل الألبوم إنه كتب كل أغنيةٍ عشية تسجيلها وهو في مزاجٍ تعيس. فوق هذا وذاك لم يكن في الفرقة عازف طبول، فسجلت بعض الأغاني مع دايل كروڨر، ثم اعتمدت في بقية الألبوم على العازف الهاوي آنذاك تشاد تشاننج Chad Channing، والذي كان يرافق الإيقاع أحياناً وأحياناً أخرى يوقعه.

واقفةً أمام نتيجة كل ما سبق، نفضت تسجيلات سَب پوب يدها من الألبوم عدا عن الضروري اللازم لإصداره، فلم تنفق عليه ما يلزم لإتقان إنتاجه حتى إعادة إطلاقه عام ١٩٩٢ بعد شهرة الفرقة. عند صدوره المتأخر بسبب ضحالة الميزانية المخصصة للطباعة والإصدار، كان بليتش ألبومًا مسكينًا، مليئًا بكدمات ليس آخرها صوت كوباين الملتوي والغائر وسط الآلات، والذي منع المستمعين من فهم كلمات لم يحفل كوباين لجعلها منطقيةً أو مفهومة من الأساس.

والورود

استقى الألبوم الكثير من الميتال، خصوصًا بأسطر الجيتار المكررة الثقيلة والبطيئة التي افتتحت وأثثت أغانٍ كـ سيفتِنج وپايپر كَتس، مدعومةً بإيقاعات طبول تشاد الذي كان حين يتأخر عن الإيقاع يُكسب ضرباته ثقلًا مضاعفًا آتيًا من تلكؤِها، وأسطر البايس التي أداها كرِس نوڨوزِلتش ونال منها التشويه لتخلق أصوات داكنة فاحشة كالتي نسمعها في مطلع بلو.

الروك البديل وصل إلى الألبوم بالمثل، غالبًا عبر كلمات كوباين المكتوبة بشخصية حميمية ونزق لزج، مازجًا ثماتٍ نفسية فرويدية قريبة من كلمات جيم موريسن مع ذ دوورز، والتي كان كوباين شديد التأثر بها، مع أسلوبه الخاص الأكثر تقليليةً ورمزيةً ولذعًا، كما في سكوول التي تدور حول شابٍ عاد لمدرسته الثانوية لكن هذه المرة كعامل تنظيف وصيانة. تقوم كلمات الأغنية على تكرار عبارات قليلة بسيطة ورمزية مثل “لم لا تصدقينني؟ سوء حظي هو المذنب” و”عدت للمدرسة مجددًا”. صوت كوباين نفسه كان نقطة التقاء للمدرستين، الميتال باستخدامه المتكرر للصياح وما يخلفه من حنجرة مخدوشة من جهة، وصوت أكثر حميميةً وقربًا وشخصيةً نسمعه في أباوت أ جرل، أكثر أغاني الألبوم خلودًا وإدراجاً في مجموعات أفضل أغاني نيرڨانا.

بإمكاننا تتبع أثر الروك البديل في بليتش أيضًا من حيث الاعتماد المفرط على أسطر الجيتار المكررة البدائية، كما في أغنية سكوول التي قامت على التبديل بين أربع أسطر وسولو مقتضب، وهي التوليفة التي اعتمدتها الفرقة في معظم أغاني الألبوم، ولاحقًا في ألبوماتها المقبلة.

كانت الموافقة في الاستوديو بين الميتال الميَّال للحفاظ على موروث الروك التقدمي الاحترافي والمصقول عندما يتعلق الأمر بالإنتاج، وبين طريقة دبّر حالك Do It Yourself التي فتى بها الروك البديل لحل معظم مشاكله، كانت موافقة مماثلة هي الأزمة الرئيسية التي جعلت الغرانج يمتلك صوته الخام حاد الحواف وصعب الترويض، لكن كل المشاكل التي واجهتها نيرڨانا خلال تسجيلها الألبوم قد شكلت طرف خيط الحل.

بليتش

لحسن حظ الفرقة أو حسن مهارة إدارة الأزمات لديهم، لا فكرة أكيدة لدينا، اتّحدَت مشاكل تسجيل بليتش في صوت واحد بدل أن تظهر متمايزةً، صوت خشن الملمس، غير مصقول لدرجة فاحشة، فوضوي الترتيب خلال المزج، يظهر فيه صوت المغني غائرًا والبايس طاغيًا على البقية معظم الأحيان، يملأ فجواته الصوتية المعيبة إما بالبايس أو بالضجيج الناتج عن سوء التسجيل. شكل هذا الصوت، رقم التحكم به بشكل أفضل إنتاجيًا في أعمالٍ لاحقة، نقطة قوة نيرڨانا التي فتحت في عام ١٩٩٢ بوابة العبور لعشرات من فرق الروك البديل والمستقل والغرانج وسائر الأصناف الفرعية التي تشكلت خلال تلك الفترة.

لكن ميراث الألبوم الأكبر يظهر بوضوح لدى حركة الپوست پنك المنبثقة مطلع الألفينات، مع فرق مثل إنترپول التي ميَّز مغنيها پول بانكس بليتش وسط أعمال نيرڨانا، بينما حصل المغني الرئيسي من ذ ستروكس، جوليان كازابلانكاس، على حقوق جزئية لبيع الألبوم عبر شركة تسجيله الخاصة كلت ريكردز. قامت الحركة على الجماليات التي أتى بها بليتش، دُفِنت أصوات المغنين بين الآلات، أصبحت الأفضلية لذوي الحنجرات المبحوحة، برزت الكلمات الشخصية المبهمة والمثقلة بالترميز من بين البقية، وسادت أسطر الجيتار المكررة القصيرة والبدائية عدا عن مقاطع عزف منفردة مقتضبة.

عند العودة إليه اليوم، يبدو بليتش مثل شهادة شوارعية لإتقان استخدام الشنتيانة، شهادة قائمة على البقاء لا السلامة، إذ لا يزال الألبوم يحمل رائحة الدم الطازجة التي حملها حين خروجه من الاستوديو، لا يزال يفوق حدِّةَ وبذاءةً العديد من الأعمال التي تصدر اليوم وهُّمها الزعرنة عبر تخفيض جودتها التسجيلية، وأخيرًا لا يزال قادرًا على هز الرأس بعنف واستدراج المستمع المنفعل إلى غمامته الداكنة المسعورة التي أمطرت ولا تزال على قرابة ثلاثة عقود مما تلاها من موسيقى معاصرة.