.
ليلة الخميس الأول من ديسمبر في عام ١٩٦٠، جلس حضور في مسرح سينما قصر النيل، والتفّ آخرون أقل حظًا في حلقات حول الراديوهات مستمعين إلى صوت جلال معوّض بعد انتهاء أغنية هجرتك، للثنائي رامي والسنباطي، كلهم في لهفة للاستماع لألحان الشاب الذي لم تبلغ مسيرته الفنية آنذاك سوى سنوات قليلة. قدّم جلال معوّض أغنية حبّ إيه للوصلة الثانية من كلمات عبد الوهاب محمد، وألحان الموسيقار بليغ حمدي، لتكون تلك بداية مرحلة جديدة لأم كلثوم.
قصة لقاء بليغ مع أم كلثوم لاكتها الألسنة ومرّ عليها الزمن، أضيفت عليها تفاصيل حتى باتت ضرباً من حواديت ما قبل النوم، لكن من الثابت أنّ عبد الوهاب محمد كتب حبّ إيه، وبدأ بليغ تلحينها قبل معرفته بأم كلثوم. في لقاء مع عبد الوهاب محمد يقول إنّ أم كلثوم قد وافقت في نفس الوقت أيضاً على كلمات أغنية ظلمنا الحب التي لم ترَ النور إلا بعدها بسنتين، لكن يغفل الكثير للأسف ذكر شعب العراق الحر ثار التي سبقت حبّ إيه، وتغنّت بها أم كلثوم في يوليو ١٩٥٩ من كلمات عبد الوهاب محمد، وألحان رياض السنباطي. لا أحد يدري على التحديد إذا كانت الأغنية قد قُدّمت قبل لقاء بليغ بالست وهكذا تُنسف حدوتة التقاء الثلاثي معاً لأول مرّة في حبّ إيه، أم أنّ السنباطي قام بتلحين تلك الأغنية بعد معرفة أم كلثوم ببليغ وعبد الوهاب محمد وبذلك قد تحتمل الحدوتة الصواب أو الخطأ.
انضم بليغ حمدي لجوقة ملحّني الست بلحن عاطفي طويل على عكس من سبقه سواء كمال الطويل أو محمد الموجي، خطوة جريئة منها. لم يأتِ بليغ وحيداً، إنما جاء ومعه شعراؤه عبد الوهاب محمد ومأمون الشنّاوي ليخلع عن أم كلثوم عباءة السنباطي ورامي وزكريا وبيرم، ويبدأ في تفصيل عباءة جديدة لها بداية من العامية البسيطة جداً التي استخدمها الشاعران، وانتهاءً بالألحان الأبسط التي برع بليغ في تقديمها في أغانيه القصيرة لغير أم كلثوم مع حليم وغيره. لكن هل جاءت أم كلثوم ببليغ للهروب من قصيدة السنباطي وألحانه المركبة؟ بالرجوع لتلك المرحلة من أغانيها، نجد أن السنباطي لم يتخلّف عن تقديم لحن جديد لها كل عام، وأحياناً لحنين، باستثناء عام ١٩٦٥، قال السنباطي أنه نصحها الغناء لملحنين جدد، فكانت حفلة ديسمبر ١٩٦٠ بداية مرحلة بليغ، وحفلة فبراير ١٩٦٤ بداية مرحلة عبدالوهاب.
برهبة وحماس بدأ بليغ مشواره مع أم كلثوم، ويمكن تقسيم ألحانه لها إلى مرحلتين: مرحلة ما قبل سيرة الحب، وما بعد سيرة الحب. ولكل مرحلة خصائصها من ألحان وآلات وكلمات.
رغم الحماس الشديد لبليغ ورغبته الدائمة لكسر القيود، فإن رهبة التلحين لأم كلثوم تغلّبت عليه في تلك المرحلة، جاءت ألحانه الأربعة كلاسيكية جداً، وبدت كمحاولات تبسيط لألحان سابقيه. جاءت حبّ إيه (ديسمبر ١٩٦٠ – عبد الوهاب محمد)، وكل ليلة وكل يوم (ديسمبر ١٩٦٣- مأمون الشنّاوي) نماذج مُبسّطة من ألحان السنباطي لأشعار رامي أو عبدالفتاح مصطفى. مقدّمة موسيقية قصيرة، غياب للانتقالات المقاميّة الجديدة أو الشاذّة، صعود مفاجئ للحن إلى الأدوار العُليا ثم سقوط بطريقة لم يستطع بليغ ضبطها في ألحانه الطويلة سواء مع أم كلثوم أو غيرها. بعدها يأتي الكوبليه الأخير مختلفًا باللحن. لم يستطع بليغ في هذه المرحلة السيطرة على تكامل بنيان لحن واحد إلا فيما ندر، على عكس السنباطي أو الموجي مثلاً اللذين تمتّعا ببناء متكامل للأغنية مع اللحن من البداية للنهاية.
أغنية أنساك (ديسمبر ١٩٦١ – مأمون الشنّاوي) جاءت كأن الزمن عاد بأم كلثوم عشرين عاماً للوراء، قدمتها بجوار روائع الشيخ زكريا في الأربعينات. الأغنية على مقام الراست، وإيقاع الواحدة الكبيرة، الذين اشتركا مع أداء الست في السلطنة. يُقال إن الشيخ زكريا بدأها، ويقال إنه أكملها، ويقال إنها كانت لفوزي وأعطاها لبليغ، لكن الثابت أنها من ألحان بليغ وروح زكريا أحمد بداية من السنكبة Syncopation تأخير الموسيقى عن الإيقاع، وحتى الصَبا الخاتِم للأغنية. تظل هذه من أشهر ألحان بليغ للست، وأكثرها تأثراً بكلاسيكيّات زكريا، وهي أول أغنية لمأمون الشناوي مع أم كلثوم بعد فشل التعاون بينهما في أواخر الأربعينات في أغنية الربيع التي تغنّى بها لاحقاً فريد الأطرش.
أمّا أغنية ظلمنا الحب (ديسمبر ١٩٦٢-عبد الوهاب محمد) فقد تجلّت فيها خصائص بليغ اللحنية من الجمل القصيرة، إلى الاعتماد على حوارات الآلات كديوهات موسيقية، إلا أن كلمات عبدالوهاب محمد لم تكن قويّة كفاية وحملت بعض التركيبات الهشّة لضبط الوزن والقافية مثل “وبرضه مشينا في التيّار، وجبنا للظنون سيرة”.
من تلك المرحلة نرى أن بليغ لم يقدّم بعد لأم كلثوم ما كانت ترجوه تماماً، لم يأتِ بجديدٍ، إنما كانت موسيقاه محاولات تجريبية لكلاسيكيات الست القديمة مع السنباطي أو الشيخ زكريا، لم تظهر روح بليغ إلا في لحظات من كل أغنية، فلا هو ارتقى لمستوى ألحانهم، ولا بدت كأعماله المتأخرة الشعبيّة البسيطة.
بدأ بليغ السير في تياره الجديد بعد إنت عمري في فبراير ١٩٦٤، أولى تجارب محمد عبد الوهاب الكلثومية الغارقة في التجديد الوهابي، ما عدا بعض أجزائها. فتحت إنت عمري الباب على مصراعيه أمام بليغ لينطلق في آفاقه هو لا آفاق زكريا والسنباطي.
كتب سيرة الحب في ديسمبر ١٩٦٤ مرسي جميل عزيز وكانت أغنيته الأولى لأم كلثوم. بصولوهات الإليكتريك جيتار، وصولوهات الأوكورديون الراقصة، والجمل القصيرة الخاطفة، ظهرت معالم بليغ اللحنية وطبعت أغنيات أم كلثوم ببصمة ميزته، كسيطرة الإيقاع (غالبًا مقسوم أو مصمودي صغير أو صعيدي) على اللحن. كلمات الأغنية بسيطة وساذجة، لم يتكلف شاعر الألف أغنية فيها سوى برصّ مجموعة منها للحصول على أغنية عادية المستوى أو أقل، تجلّى هذا بشدة في آخر غصن “صوتك نظراتك همساتك شيء مش معقول ، الله يا حبيبي على حبك، ما باقولش ف حبك غير الله”.
كانت هذه نقلة بليغ مع أم كلثوم، بعدها انطلق مع مأمون الشنّاوي في يوليو ١٩٦٥ ليسطر واحدة من أجمل ألحانه معها وهي بعيد عنّك. امتزج أسلوب بليغ، مع روح أم كلثوم في مزيج يسلطن، تجلّى بأوضح ما يكون في حفلة قصر الرياضة بالمنزة بتونس في يونيو ١٩٦٨، وعلى الرغم من ضعف كلمات مأمون الشنّاوي، “ما تبعدنيش بعيد عنك”، “والعمل إيه العمل ماتقول لي أعمل إيه”، “عندي كلام وحاجات وحاجات“، لكن استطاع أداء الست ومعه لحن بليغ السيطرة على الأغنية التي تعتبر من أنضج أعمال بليغ لأم كلثوم.
بعدها عاد بليغ لعمل آخر استعرض فيه أسلوبه بشكل أقوى مما سبق، فات الميعاد (فبراير ١٩٦٧ – مرسي جميل عزيز) كعادة مرسي جميل عزيز، جاءت الكلمات متوسطة المستوى، كثيرة المترادفات والعطف، كأن الشاعر صفها على عجل، خصوصاً في آخر غصن، “بيني وبينك غدر وهجر”، أما اللحن قام فيه بليغ بإدخال الساكسفون وأهداها صولو في المقدمة، وصولو آخر في موسيقى الغصن الأول، لم يفرّط عاشق الساكس سمير سرور في الهدية، فانطلق ينفخ في الآلة وبقيت الصولوهات أبرز ما يُذكَر من فات الميعاد. يظهر في هذه الأغنية ملمح يذكرنا ببليغ ما قبل سيرة الحب، هو عدم اكتمال بنية الأغنية، فبدا الجزء الأخير مقحمًا عليها، “من ناري من طول لياليّ”، كأنه أغنية أخرى لا علاقة لها بفات الميعاد، رغم جمال المقطع نفسه.
في بداية الألفية الثالثة، اكتشف الموزّعون كنز اسمه ألف ليلة وليلة، أعاد توزيعها أكثر من موزّع عربي وغربي وأصبحت من أشهر القطع الموسيقية المستخدمة في المكسات والرقص الشرقي بشكل خاص. كان هذا هو اللقاء الثالث والأخير بين بليغ والست ومرسي جميل عزيز في فبراير ١٩٦٩. اللحن راقص من بداية فتح الستار إلى غلقه، سيطرة الإيقاع واضحة بشكل رئيسي طوال الأغنية، الصولوهات المتتالية خصوصاً في المقدمة بين الكمان والساكس والجيتار، حوار الأوكورديون والساكس الذي لا يسعك معه سوى تخيّل راقصة تتمايل على نغماته الناعمة (المتدلّعة). الأغنية مثل سابقتها، جاء مقطعها الأخير منفصلاً عن اللحن باستثناء الجو الراقص الذي تشارك فيه الإيقاع مع صولو الأوكورديون وصولو الساكس. تُعد هذه الأغنية من أشهر أغاني بليغ لأم كلثوم على الرغم من أنها ليست أفضل أعماله لكنّ إعادة توزيعها مؤخراً، ولحنها الراقص جعلها مُقرّبة للجمهور. أما مرسي جميل عزيز فلم يخرج عن النمط المُستخدم في الأغنيتين السابقتين إنما استمرّ على نفس الوتيرة. من المثير للعجب كيف تغاضت أم كلثوم -وهي الضليعة في الشعر واللغة– عن ركاكة تلك الكلمات في مواضع عدّة، سواء معه أو مع أحمد شفيق كامل كما سنرى لاحقاً، فسَّر البعض هذا برغبة الست في النزول إلى الذوق العام بكلمات بسيطة وإن كانت ركيكة، وهو السبب الرئيسي الذي دفعها لغناء ألحان بليغ.
يكاد الطريق يصل لمُنتهاه، مع أغنية من أضعف ما غنّت أم كلثوم في مشوارها الفنّي. الحبّ كلّه، أدتها على المسرح لأول مرة في يناير ١٩٧١، كلمات الشاعر أحمد شفيق كامل الذي قدّم بالإضافة لإنت عمري والحب كلّه، أمل حياتي وليلة حب. بالنظر إلى مُجمل أعماله مع أم كلثوم، من الصعب أن تجد له جملة شعريّة ذات وقع جميل على الأذن، أو حتى صورة جميلة تستوقفك لتهتف منتشياً للكلام قبل اللحن والأداء. الحب كله تُعتبر أضعف ما كتب في الصور و القوافي المُقحمة أو المُعادة أحياناً. أما بليغ فبدا وكأنه أحسّ بنهاية مشوار أم كلثوم فكأنه خلق لحناً لمطربة أخرى تخلفها، لم يحاول حتى الحفاظ على كلثومية اللحن بعدما ضاعت كلثومية الكلمات، بل وصنع لحناً بسيطاً مليء باللازمات الموسيقية والجمل البسيطة. الأغنية باهتة، لم يكن هذا بسبب ضعف صوت أو أداء أم كلثوم، إذ قدّمت قبلها دارت الأيام لعبد الوهاب في مارس ١٩٧٠، وقدّمت بعدها أجمل أداءاتها للقلب يعشق كل جميل للسنباطي في فبراير ١٩٧١. أم كلثوم لم تكن بحاجة لهذا اللحن الضعيف الذي تستطيع أي مغنية مبتدئة تأديته بسهولة.
أخيراً، جاءت أغنية حكم علينا الهوى في نسختها الإذاعية، ولم تُقدّم على المسرح. ربما كان هذا من رحمة القدر بأم كلثوم كي لا تنتهي مسيرتها على المسرح بهذه الأغنية. فرض بليغ شخصيته على اللحن من حيث الإيقاعات وسيطرة الآلات الغربية، ليبدو اللحن كالمسخ، بين صوت أم كلثوم والمقامات الشرقية من جهة، و سيطرة الآلات الغربية على التخت من جهة أخرى. معادلة صعبة نجح بليغ بها في فات الميعاد، وفشل فيما عداها.
كانت السينما في بداية الثلاثينات دافعًا للتبسيط النغمي، بمعنى أن تكون الموسيقى غير معقدة على الأذن ويستطيع الجميع دندنتها، سار على هذا النهج الكثير على رأسهم محمد عبد الوهاب. مع ذلك بقي هناك الاتجاه الآخر المُحافظ الذي قدم أغاني تتطلب أكثر من الجمهور، لا تُبسّط من نفسها ليفهمها، بل ترفعه هي لمُستواها وتفاصيلها الجميلة، دافع السنباطي عن هذا الاتجاه حتى جاء بليغ و أخذ فكرة التبسيط على عاتقه، وربّما لهذا لم نرَ له لحناً لأم كلثوم باللغة الفصحى مثلما فعل غيره، لم نرَ له حتى أغنية من كلمات رامي أو بيرم، كأنه حاول خلق عالم جديد لنفسه معتمداً على الكتّاب الذين تغنت بكلماتهم الأصوات الموجودة في الساحة. اختفت تدريجيًا من الموسيقى كل التفاصيل التي تتطلب التركيز من المستمع، وأصبحت الموسيقى مُجرّد مصدر إلهاء يدوّي في الخلفية دون الاهتمام بما تقوله الآلات أو المغني.
يمكن القول إن بليغ ما قبل١٩٦٤ كان متأثراً تماماً بملحني أم كلثوم سواء كان السنباطي أو زكريا، فجاءت ألحانه كامتداد لهذين النبعين الكبيرين، وإن لم تخلُ من جمل عبقرية، ظهرت فيها حلاوة بليغ، أما بعد ١٩٦٤ وتجربة محمد عبد الوهاب بإدخال الآلات الغربية، وتجاربه الموسيقية عموماً مع أم كلثوم، اكتسب بليغ جرأة كبيرة وقام بالتجريب هو أيضاً، صاب حيناً وخاب حيناً وبقي لنا منه تُراث لا يستطيع أحد نقده نظرًا لمكانة الست في نفوس المصريين، أو لمكانة بليغ الفتى المُدلل العبقري الذي لحّن لأم كلثوم ولم يتجاوز الثلاثين من عمره.