.
كتب المراجعة هيكل الحزقي وعمار منلا حسن.
بعد بداية مسيرتها في برنامج نجم الخليج عام ٢٠١٠، لزم جميلة عامين وتجارب مختلفة الاتجاهات حتى عثرت على أغنيتها الضاربة الأولى، طيني ورور، والتي تحولت من وصلة على برنامج جلسات وناسة إلى فيديو مكتسح على يوتيوب. كان على جميلة حينها، كما على كل مغني بوب تفاجأ بنجاحه الأوَّل غير المحسوب، إما أن تكرر نجاحها بأغانٍ مشابهة لتأمين مكانتها الجديدة المتواضعة على ساحة البوب العربي، أو أن تواصل التجريب مخاطرةً بنجاح طيني ورور لصالح تحويلها إلى درجة أولى على سلّم أكثر طموحًا. واقفةً أمام هذا الاختيار المعهود بين الانسحاب أو مواصلة المقامرة، قررت جميلة أن تلوي قواعد اللعبة.
فبينما قد تضبط الكازينوهات أي شخص يحاول الاحتيال على اللعبة عبر عدّ الورق أو اتباع قواعد رياضية، لا تفرض الموسيقى محاظيرًا مماثلة، ولو ادعى أحدهم أنه يستطيع فهم قواعد المراهنة لدرجة تجعلها آمنة، فحلال على الشاطر. من هنا بدأت جميلة تجاربها الآمنة، ذهبت في البوب الخليجي والعراقي والمغربي إلى أماكن خارج المألوف، لكن ليست بعيدةً عنه، معتمدةً على خدع متعارف عليها في صناعة البوب عمومًا، كتحديث التوزيع، واستثمار الوقع الإيقاعي Groove لهذه الموسيقات في سياق إلكتروني راقص، بطريقة تجعلها أحيانًا تبدو كنسخة مبسطة من تجارب ياسمين حمدان الأكثر تقدميةً في ذات المجال.
في ألبومها الطويل الأوَّل، بنت حديدية، والصادر قبل ثلاثة أسابيع عبر تسجيلات بلاتنم التي تلعب دورًا ملحوظًا في تشكيل البوب المغربي المعاصر، تتخلى جميلة أخيرًا عن الحذر واللعب الآمن وتقامر بكل ما لديها. تريد لألبومها الأول أن يدفعها إلى طليعة نجوم البوب على مستوى العالم العربي، علّها تصير بنتًا حديدية فعلًا. لتحقيق ذلك، تحاول جميلة جمع الخبرات التي تعلمتها من نجاحاتها في أصناف مختلفة، خاصةً البوب الخليجي والمغربي، لتخلق عملًا غريبًا من موسيقى المزج. إذ بدلًا من إقحام عناصر عربية في قوالب أجنبية كالجاز والروك كما اعتدنا، تمزج جميلة عناصر عربية بأخرى، مهما بدت متنافرةً عند التفكير بها، وتحاول وضع ما ينجح في الخليجي فوق ما ينجح في المغربي، ما ينجح في البوب التقليدي فوق ما ينجح في الفولكلور المستعاد، لبناء برجٍ يصعب تخيله حتى سماعه.
تبدأ صورة هذا المشروع بالاتضاح بسرعة مع الأغنية الافتتاحية التي تحمل اسم الألبوم، بنت حديدية. لو أخذنا الكلمات مثلًا، لوجدناها: متناقضة داخليًا “أنا بنت حديدية (بعد أربعة أسطر) من الحب أنا خايفة”، متناقضة مع سائر الألبوم (يكفي أن نضع بنت حديدية إلى جانب اسم الأغنية السادسة ارحمني)، وساذجة بشكل مفرط (حكمتها أن خير طريقة لتفادي مشاكل الحب هو تفادي الحب من أصله). حتى بنية الأغنية كتابيًا لا تخلو من خلل، تبدأ بنبرة متحدية قبل أن تشرح لنا سببها، ما يدفعنا عند سماع: “أنا بنت حديدية” كسطر الأغنية الافتتاحي لأن نقول: “طيب صلي عالنبي.”
الجانب الذي تنجح فيه كلمات بنت حديدية على كل حال، هو التكرار. الأغنية مكتوبة بشكل رئيسي من لازمة ومطلع لازمة Pre Chorus، ومقطع واحد فقط يلتزم بنفس طول اللازمة ووزنها. كل ذلك مكتوب بأسطر لا تزيد عن ثلاث كلمات إلا ما ندر، ما يجعل سهولة الأغنية على التذكر والترديد رهانًا مضمونًا. كتب الأغنية سمير المجاري ووزعها ومزجها دي جاي فان، اللذان كتبا ووزعا أغنية إنتي لسعد لمجرد، والتي تجاوزت سماعاتها التسعين مليون. تعاونان مضمونان للأغنية الافتتاحية والترويجية. حتى الفيديو يتعلم من تجارب جميلة السابقة، ويعرف أن السياق والفكرة يأتيان في المرتبة الثانية بعد البهرجة والازدحام البصري.
على خلفية هذه الوقائع، تظهر جميلة كمغنية بوب محنكة تريد الاستفادة من الدروس التي تعلمتها، حتى القاسية. تعرف أن الكلمات الضعيفة من حيث المضمون لا تهدد نجاح أغاني البوب، والكلمات القوية نادرًا ما تساهم بنجاحها. تريد أن تظهر كمرأة قوية لا يهزها الحب، لأن هذا ينفع، وكمرأة خائفة من الحب وآلامه، لأن هذا ينفع أيضًا، ولا تلقي بالًا للتناقض بين الصورتين لأن التاريخ يخلو من أغاني بوب فشلت بسبب تناقضها. الصادم في بنت حديدية على كل حال، أنه رغم كوننا عندما نسمعها عن كثب نجد كل شيءٍ متفككًا، إلا أننا عندما نرجع خطوتين للوراء ونسمعها بلا كثيرٍ من التدقيق كأغنية بوب شغالة على سماعات السيارة، تشدنا. تبدو متماسكة وجذّابة، بل وفي بعض اللحظات، حديدية.
تشكل بنت حديدية واحدة من أغاني الألبوم المغربية الثلاثة، إلى جانب ارحمني ودون المستوى. تقوم ارحمني على لازمتين، واحدة غنائية وأخرى آلاتية إيقاعية، وكأن ما تريد الأغنية قوله للمستمع حقًا هو “احفظني”. بينما لا نجد شيئًا مميزًا فيها على مستوى الكلمات، أغنية حب مكسورة مقياسية، تتناقض كل كلمة فيها مع كل كلمة في بنت حديدية. إلا أن الأغنية تغدو مثيرةً للاهتمام على مستوى التوزيع. تولى دي جاي فان مجددًا توزيع ومزج إرحمني، ومنحها الأسلوب الذي جعله يعد من رواد البوب المغربي المعاصر – بإمكاننا تتبع أثره عبر عمله مع منال ورضوان برحيل وحنان الخضر ومهدي المزين وداب أفريكا. في ارحمني، نجح دي جاي فان في خلق صوت يتردد دون استقرار بين العنف والنعومة، وخلق من رحم هذا التردد اللازمة الإيقاعية الراقصة التي يكاد يستحيل منع الرأس (والخصور) من الاهتزاز معها.
في دون المستوى، عادت جميلة للتعاون مع جلال الحمداوي الذي كتب الأغنية ولحنها ووزعها، بعد أن كان قد أنتج أغنية جميلة الأشد نجاحًا، بلاش بلاش، والتي تجاوزت سماعاتها المائة وستين مليون. حملت الأغنية ملامح التيار الخاص بجلال حمداوي في البوب المغربي، والمعروف من تعاوناته العديدة مع سعد لمجرد من بين آخرين؛ ميَّالًا لإيقاعات وأصوات جافة وعدائية، تبدأ بوتيرةٍ واحدة ثم تتصاعد تدريجيًا لتبلغ ذروتها الصاخبة في منتصف الأغنية. تعفي إيقاعات الحمداوي الحيوية الأغنية من هوس الإمساك بالمستمع، وتفسح المجال لصوت جميلة الذي يأتي متمكنًا من خلال المساحات البينية التي يخف فيها عنف إيقاعات الحمداوي.
عندما يدخل الألبوم شقه الخليجي المكوَّن من ست أغانٍ، يبدأ اللعب بالنار. كتب تركي الشريف أغنيتي حمي الطار العرائسية وأسرارنا الرومنسية النمطية، هو شاعر يقول بايو حسابه على تويتر: “تأثرت بالغيوم لأنها متمردة”، وتقول خانة العنوان: “حيثما توجد الدهشة”. حتى لو حاولنا العثور على الشريف وفقًا لعنوانه، لا نهتدي إليه لغياب أي قبس من الدهشة فيما يكتب. مجرد كون الكلمات لا تهم جدًا في أغاني البوب، لا يعني أن عليها أن تكون محرجة لهذا الحد. الملفت على كل حال هو توزيع العراقي زيد نديم، والذي بات ذو بصمة في البوب الخليجي المعاصر، مع نزعة لا تزال خجولة للتجديد ودفع الحدود، سمعناها في هاتين الأغنيتين، وفي أغنية أنا أنا التي وزعها زيد لكل من راشد الماجد وماجد المهندس ووليد الشامي.
تستفيد أنا وأنا من ثلاثي موفق بين أنور المشيري الذي كتب كلمات خفيفة ومهضومة: “أنا وأنا ويا بعض / لا حد يدخل بيننا”، ميثم علاء الدين الذي منح الأغنية آخر ما توصل إليه البوب العراقي على مستوى التوزيع، وهو أمرٌ لو تعلمون عظيم، وأخيرًا مزج جاسم محمد الذي حرص على أن تكون معظم أغاني الشق الخليجي من الألبوم مصقولة وسلسة بقدر نظيراتها المغربية. تصبح الأمور مثيرة للاهتمام في بطِّل، والتي يحاول فيها عبد الله العلي أن يجمع بين الإيقاعات الخليجية وبين توزيع أقرب للبوب المغربي، فاتحًا بابًا على منطقة تستحق الاستكشاف بشكل موسَّع خلال أعمال لاحقة لجميلة ولغيرها. تسير ماشي ماشي على خطى بطِّل، بينما تقع عسى نوم العوافي على وجهها، لتصاب بكل رضوض وجروح أغنية البوب الخليجي النمطية الروتانية المستهلكة.
بعد هذه الرحلة الوعرة بين تضاريس كل صنف موسيقي مرت به جميلة في مسيرتها، يبدأ الألبوم بالتكشف لنا على ما هو عليه، محاولة جميلة أن تضع كل ما تعلمته من حيل وأصناف وتعاونات وأسماء كبيرة فوق بعضها البعض، وعدم التوقف حتى يبدأ هذا البرج الهزيل بالتأرجح. بنت حديدية هو برج جميلة المائل، هو جميل كما هو، لكنه مائل بما يكفي لأن يكون مهددًا بالسقوط في العديد من اللحظات.