.
في وقت سابق من هذا العام، تلاقى عالمان متباعدان ونادرًا ما تقاطعا، الموسيقى التجريبية والتيكتوك. نجح تحدي ذَ كايرتايكر (جايمس ليلاند كيربي)، الذي شهد توثيق جمهور التيكتوك لمشاعرهم لدى استماعهم إلى دراسة كيربي عن فقدان الذاكرة والخرف الممتدة إلى ست ساعات: إيفري وير أت ذَ إند أُف تايم، في إيصال هذه الموسيقى المؤلمة المفعمة بالنوستالجيا إلى جمهورٍ أوسع (حتى لحظة كتابة المقال، وصلت القطعة ذات الست ساعات إلى ٥٫٢ مليون مشاهدة على يوتيوب). من الصعب تخيُّل ألبوم موسيقى بولروم، مختزلٍ إلى ذبذبات شريط كاسيت وخشخشات أسطوانة فاينيل وضجيج، أن يجذب كل ذلك الاهتمام قبل هذا التحدّي. على كل حال، ساهمت أنواعٌ مثل فايبر وايف وتشيل وايف في زيادة شعبية أصوات وخامات اللو-فاي بين جمهور الموسيقى الرائجة عبر العقد الماضي؛ ربما نتاج هذا التحدي ليس بتلك الغرابة كما بدا لأول وهلة.
يُظهر بحثٌ سريع عن موسيقى اللو-فاي على إنستجرام ويوتيوب آلاف الفيديوهات لأشخاص يصنعون الموسيقى بلوبات شرائط وأجهزة البكرتين، مع عشرات، إن لم تكن مئات، آلاف المشاهدات. أصبح اللو-فاي اليوم صوتًا يبحث عنه الناس ويدعمه الموسيقيون ويتزايد اهتمام صُنّاع الآلات الموسيقية ومطوري البرامج بتقديمه. أصبح هذا الصوت جزءًا من الوعي الأوسع، ولم تساهم فرقة في صنع ذلك بقدر الثنائي الاسكوتلندي بوردز أُف كندا.
فيما أثار ألبوميهما القصيرَين السابقَين، توّيزم وهاي سكورز، الانتباه والإعجاب، بالإضافة إلى إفريثينج يو دو إز أ بالون الذي كان ضاربًا إلى حدٍّ ما، كان ألبوم ميوزيك هاز ذَ رايت…، الصادر عن تسجيلات وارب وسكام ريكوردز، هو الذي شهد تأسيس الأخوَين ماركوس إيوين ومايكل سانديسَن لصوتهم الخاص. ساروا بعكس معظم ما كان يُنتج وقتها، صانعين موسيقى اعتبروها قد شغلت “مساحةً ميّتة في الموسيقى، ومساحة واضحة.” نشأ رابط عميق وشخصي مع مستمعيهم حين اعتنى الثنائيُّ بالنغمية؛ التي كانت متجاهلة بشكل شبه كامل في مشهد الموسيقى الإلكترونية حينما بدأوا بإصدار أعمالهم. وصلت في التسعينات أنواع مثل برلين تكنو والجانغل/درَم آند بايس إلى ذروة نجاحها، مسرعةً نحو المستقبل، وكانت ثلاثتها مبنيةً بالكامل تقريبًا على هياكل إيقاعية، مع اهتمام طفيف أو معدوم بعناصر الأغنية التقليدية من لحن وهارموني. بدت موسيقى بوردز أُف كندا ومضة من الماضي، بينما كان الجميع يتدافعون نحو الألفية الجديدة، ما يُمكن اعتبار موسيقاهم ردة فعل عليه. ليست النوستالجيا بالضرورة هي ما تعرّف موسيقاهم، الكلمة الأدق التي يمكن أن تصف ما تستثيره موسيقاهم في مستمعيها هي أنيمويا. صاغ المؤلف جون كونيج هذه الكلمة في معجمه البديع ديكشناري أُف أوبسكيور سوروز، وهي “حنينٌ إلى زمنٍ لم تعرفه يومًا”، وبشكل لا يتطلّب التجارب المشتركة أو الحاجة إلى أن تكون قد مررت بحدث معيّن كما في حالة النوستالجيا.
تميّزت موسيقاهم بعبورها للزّمن بفضل تقنيات الإنتاج الخاصة بهم والاعتماد على السنثات الأنالوج والمعدّات العتيقة. تسيدت السنثات والأصوات الديجيتال بين الثمانينات ومنتصف التسعينات وباتت السنثات الأنالوج وأي شيء يقترب من الأصوات الاستعادية خارج الموضة. استطاع ثنائي بوردز أُف كندا، مستلهمين من الخامات الصوتية لموسيقى الأفلام المصورة بكاميرات سوبر-٨ والأفلام الوثائقية القديمة عن الطبيعة، إعادة السنثات الأنالوج إلى واجهة الموسيقى الإلكترونية المعاصرة. كما أطّروا هذه السنثات بتسجيلات لآلات هوائية مثل الفلوت، والوتريات التي “عالجوها […]، دمّروها […] ثم أعادوها إلى شيء إلكتروني بالكامل”، مضْفين على الموسيقى خامةً حيوية. أصبحت عادة تدمير الأصوات ثم إعادة بنائها لتصبح شيئًا مختلفًا تمامًا بمثابة ثيمة دائمة الظهور عبر مسيرتهم. كما أعادوا البيتات المستلهمة من الهيب هوب والتريب هوب إلى داخل مزيجهم، بدل إبقائها في الصدارة كما فعلوا في ألبوماتهم القصيرة السابقة، حيث كانت الدرَمز بشكل شبه دائم في المقدمة والمركز؛ ويعد تراك هاي سكورز مثالٌ نموذجي على ذلك. هكذا حرصوا على أن تحافظ التراكات على حركتها الكراوتروكية (krautrock) المتطورة عبر إيقاعاتها الدافعة، لكن دون سحب البريق من العناصر النغميّة والتركيبية.
كان تأثير ميوزيك هاز رايت تو تشيلدرِن على بوردز أُف كندا فوري، والذي لُخّص في مقدمة مقابلة ريتشارد سذرن مع الفرقة لمجلة جوكي سلَت: “فجأة، أصبحت لوبات السنث تلك، المبطّأة والميلانكوليّة بعض الشيء، في كل مكان. في تراك جوريلّا لـ سوبر فري أنيمالز […]، وهابي هير لـ دانماسّ، وفيرجن سويسايدز لـ أير […] وعند راديوهِد، الذين يقترب ألبومهم المثير للجدل كيد إيه من ميوزيك هاز ذَ رايت.” خلال وقت قياسي، بدأت بوردز أُف كندا بتغيير الموسيقى المعاصرة.
في قَصر موسيقى إيوين وسانديسَن على النوستالجيا، ظلمٌ كبير. هناك جو لا يمكن تجاهله من الرهبة وحاضرٌ طوال الوقت تقريبًا، والذي يبدو دومًا منسلًّا داخل الموسيقى. مثلًا، يجب أن يكون قول طفلٍ: “أحبك” حاملًا لأكبر قدر من النقاء والراحة النفسية، لكن بالطريقة التي يمطّون الجملة بها ويشوهونها بخلفية موسيقية تقليلية في تراك ذَ كَُلُر أُف ذّ فاير يخلقون أجواءً مُقبضة ومؤرقة. أجواءٌ استكشفوها بشكلٍ أوسع، وربما أوصلوها إلى الكمال، في ألبومهم اللاحق جيوغادي.
بينما يحتوي ميوزيك هاز ذَ رايت… العديد من أشهر تراكات الفرقة، مثل رويجبيف وتُركواز هِكساجون سَن وأكوايريَس، يعتبر جيوغادي من قبل الكثيرين المحطة التي بلغ فيها الثنائي ذروتهم الإبداعية. اشتمل جيوغادي على جمال سابقه، لكن أضاف إلى مزيجه ذلك الإحساس المُقبض والظاهر في كل تراك تقريبًا، بدايةً من التراك الافتتاحي، ميوزيك إيز ماث، الذي اقتصر فقط على الإيقاع النابض والسنث الدافئ والنغمة الثانوية المتكررة التي تزداد ظلاميةً في كل مرة، وتتحلل بالكامل بالقرب من نهاية التراك. لشرح الأمر بكلماتهم، عندما يصفون تراكًا آخر لهم يوظّف التكنيك ذاته: “نحن نصنع أحيانًا نغمة متحولة، حيث تبدأ مثل تراك إلكترو أو ديسكو قديم، لكن في منتصفها تصبح فجأة شيئًا كابوسيًا، وكأن دماغك بدأ يواجه عطلًا في منتصف النغمة. يمكن للمخدرات السايكدلية أن تجعل الموسيقى تبدو مختلفة تمامًا، حيث تصبح التفاصيل الدقيقة هائلة، حتى تشعر لدى تعاطيك إياها أن تراكًا من خمس دقائق استمر لخمس ساعات.”
من العوامل الأُخرى الجوهرية والمُميِّزة للألبوم طريقة استعمال الصوت البشري المُعالَج والفوكودرز. كانت الأصوات البشرية وأصوات الأطفال بشكل رئيسي قد أصبحت أساسًا علامةً مُسجّلة لأعمالهم المبكّرة، والتي أضافت إلى غرائبية موسيقاهم وإلى نوستالجيّتها. في جيوغادي دفع الثنائي التجريب الصوتي إلى حدودٍ أبعد، ما أضاف إحساسًا بالألفة، وإن أكّد ظلامية الألبوم المتأصّلة. ذَ بيتش أت رِد بوينت تراكٌ شيطانيٌّ صريح، يبدو محجوزًا تحت سطح الماء، مع صوت إيقاع نقري مُعالج بتأثير البيت كرَشر (bit crusher)، وسطور سنثٍ معطّل تطفو على أمواجٍ من الكلام المرقمَن. في تراك ١٩٦٩ هناك كورَس، يُحيل صوتيًا وثيماتيًا إلى طائفة برانش دافيديان المسيحية، والتي كانت مصدر الإلهام الأساسي لألبومهم القصير إن أ بيوتيفُل بلايس آوت إن ذَ كَنتري، الصادر قبل عامَين من جيوغادي. حتى أن كلمات ١٩٦٩ تقول:
“رغم أني لست من أتباع دايفِد كورِش، هي برانش دافيديانيّة مُخلصة”، حيث يُحتمل أن المشار إليها هي آمو بيشوب رودن، إحدى أعضاء الطائفة. بالحديث عن الطوائف:
“ظننا أن وضع هذه الأمور السريّة داخل التراك قد تكون شيئًا مثيرًا للاهتمام، قد يتعثر بها مستمعٌ أو اثنين لدى مرورهما بالتسجيل. لم نظن أن الأمر سينتهي إلى خلق طائفة.” ~ مايكل سانديسَن في مقابلة مع مجلة إيربلَج، ٢٠٠٥.
لا تكتمل مناقشة لموسيقى بوردز أُف كندا دون ذكر مريديهم، المخلصين بشكل هائل، والمشكلين لشبه طائفة. هناك مواقع كاملة مكرّسة لتحليل ومناقشة كل قطعة عملوا عليها، ومحاولة التنبؤ بخطوتهم القادمة.
لطالما أبقت الفرقة كل ما تفعله سريًا للغاية. نادرًا ما يؤدون بشكل حي، وغالبًا ما يجرون المقابلات عبر الإيميل بدلًا من لقاء شخصي أو مكالمة هاتفية. حتى إنهم أبقوا حقيقة كونهم أخوين سرًا إلى أن صدر ألبوم ذَ كامبفاير هيدفايز في ٢٠٠٥. كان تواصلهم مع عشاقهم وتحديهم لهم دومًا عبر رسائل مخبأة وأصوات يدخلونها في موسيقاهم. قام الناس بفك شيفرة بعض هذه الرسائل، واستغلوها في بعض الحالات، كما في تراك ذَ سمولِست ويرد نَمبر (أصغر رقم غريب)، وهو ٧٠، في إشارة إلى شركة تسجيلاتهم القديمة ميوزيك٧٠. أيضًا، جمع كل الأرقام في تراك أكوايريَس يساوي ٦٦٦ (الرقم الشيطاني)، كما تحيل المدد الزمنية لبعض التراكات في ألبوم جيوغادي إلى آيات في سِفْر رؤيا يوحنّا من الإنجيل، والتي ترتبط بدورها بعناوين تلك التراكات. يبين ذلك مدى إخلاص وحب جمهورهم.
يعيد بحثُ على اليوتيوب عن بوردز أُف كندا مئات الفيديوهات التي صنعها عشاقهم لأغانيهم، والمميزة بجودة عالية وملفتة. هناك وثائقيان عن الفرقة من صنع الجمهور، وكلاهما يستحق المشاهدة. قليلةٌ الفرق التي تستطيع إلهام ردات فعل كهذه من جماهيرهم. اختُبر هذا الإخلاص الجماهيري بشكلين مختلفَين تمامًا في ألبومَي بوردز أُف كندا اللاحقّين.
“أسمعُ تراكاتٍ ينجزها الناس اليوم ويقومون فيها بما قمنا به منذ ثماني سنوات. هناك إيقاع الهيب هوب، سنث مونو، وصوت طفل يقول شيئًا ما. في الوقت الذي كنا نفعل فيه ذلك، لم يكن هناك من يفعله، وسيشعرك سماعه اليوم بالضيق. في هذا التسجيل، أردنا أن نثبت للناس أننا قادرون على ما هو أكثر بكثير من ذلك.” ~ماركوس إيوين في مقابلة مع مجلة إيربلَج، ٢٠٠٥.
مستلهمين من الرحلات الطويلة ونيران المخيمات، أصدر ثنائي بوردز أُف كندا ألبوم ذَ كامبفاير هِدفايز، أكثر ألبوماتهم إثارةً لانقسام الآراء حتى تاريخه، في ٢٠٠٥، وأتبعوه بالمثير للجدل بنفس الدرجة ترانس كندا هايواي في ٢٠٠٦. غابت السنثات التي هيمنت على صوتهم، بينما حلت مكانهم الجيتارات لتصبح آلتهم الرئيسية. غابت هنا أيضًا السخرية والقلق المخبأين في أعمالهم السابقة. في كامبفاير هِدفايز قرر الثنائي أن يصنعوا ألبومًا يُركّز على الجمال، وقد نجحوا بالتأكيد. لم تنل النقلة في الصوت إعجاب بعض عشاقهم، لكنها أكسبتهم جمهورًا جديدًا من خلفيات مختلفة. كوني شخصيًا آتٍ من خلفية روك، كان هذا الألبوم، بأنغام الجيتارات البِكْر والأجواء المحيطية، هو ما أدخلني إلى عالم الموسيقى الإلكترونية. ينطبق ذلك على الكثيرين مثلي، والكثيرين غيرهم كذلك. يمكن اعتبار تراكَي دايفان كاوبوي وبيكوك تيل بالتأكيد من أفضل تراكاتهم على الإطلاق.
افتقر كامبفاير هِدفايز إلى إثارة سابقيه، وكان ربّما أحاديّ البعد أكثر مما يجب بالنسبة لعدة سماعات، لكنه نجح بلا شك فيما صُنع لتحقيقه.
في نيسان / أبريل من عام ٢٠١٣، بدأ ألبومٌ طويل من تسجيلات ريكورد ستور داي، حاملٌ لرسالة رقَمية مشفّرة، مطاردةً شبيهة بالبحث عن بيضة عيد الفصح، والتي يُمكن أن تُعتبر واحدة من أفضل الحيَل المحبوكة والممتعة التي تجلت في ألبوم على الإطلاق. سيتطلب الخوض في التفاصيل مقالًا كاملًا بطول هذا المقال، لكنني أشجّع على القراءة عن القصة هُنا أو مشاهدة الوثائقيات المذكورة آنفًا، حيث شُرحت الحملة باستفاضة. باختصار، أصدر ثنائي بوردز أف كندا ألبومًا جديدًا شهد عودتهم إلى صوتهم العتيق. لكن هذه المرة كان الصوت أثقل، مضغوطًا أكثر، بغيضًا أكثر، والبيتات تحديدًا أصخب ومشوّهة بتأثير البيت كرَشر، كما يظهر في تراكات مثل جاكارد كوزاواي وريتش فور ذَ دِد، عائدين إلى صوت شرائطهم غير الرسمية أحيانًا. كما سُمح للأجواء المُقبضة التي اعتدنا اختباءها خلف الجمال بأن تحتل الصدارة في غالبية الألبوم. كان ألبوم توموروز هارفِست عودةً حقيقية إلى لياقتهم السابقة وما زال من أعمالهم الأقل تقديرًا في مسيرتهم. يتميّز الألبوم بثيمة مركّزة ومتماسكة عبر الألبوم، بعكس بقية ألبوماتهم، ويحتوي بعضًا من أفضل تراكاتهم، والتي أفضّل منها شخصيًا بوزي بالاس، بجروفها المفكك الأعوج، وعيناتها الصوتية القبَليّة. ما زال هذا الألبوم، على مدى سبع سنوات حتى اليوم، آخر إصداراتهم الرسمية، عدا عن بضعة ريمكسات وميسكتايب صدر بمناسبة عيد إطلاق تسجيلات وارب الثلاثين.
مؤخرًا، يبدو أن هناك نشاطًا على حسابات بوردز أُف كندا على السوشال ميديا لأول مرة منذ وقتٍ طويل، والذي يقوم معجبوهم بتحليله كلمةً كلمة، بالحرف والصوت. هل يمكن أن يكون هناك عملٌ جديد في المطبخ؟ يمكننا فقط أن نأمل ذلك.