مقطع من رواية بوصلة | ماتياس إينار

تُروى أحداث رواية بوصلة على لسان فرانز ريتر، مستشرق وباحث موسيقي نمساوي مصاب بالأرق. في هذه الليلة الطويلة يسرح ريتر في ذكرياته وأحلامه عن الشرق، بينما يهجس بمرض غامض أصابه وقصة حب لم تنتهِ. قُسمّت الرواية إلى فصول عُنون كل منها على وقت من تلك الليلة الطويلة التي نقضيها معه. أُخِذَ هذا المقطع من الفصل الثالث بعنوان ١١.٥٨ مساء.


سِرُّ تشبُّثِ هذا اللّحن برأسي لا يعلمه إلاّ الله، حتى وعيناي مغمضتان في محاولة للتنفّس بعمق، دماغي يعمل رغمًا عني، تبدأ علبتي الموسيقيّة الخاصّة في الاشتغال في الوقت غير المناسب. هل هي علامة الجنون؟ لا أعلم، لا أسمع أصواتًا، أسمع فرقًا موسيقيّة، أعوادًا، أغاني، إنّها تملأ أذناي وذاكرتي، تنطلق من تلقاء نفسها كأنّها ما أن تنتهي ضجّة حتى تظهر أخرى متخفيّة تحت الأولى لتنفجر من الوعي. أعلم أنّ هذه جملة من صحراء لفيليسيان دافيد ملحّن فرنسي (١٨١٠-١٨٧٦) عُرف برحلاته إلى الشرق وتأثّره بالموسيقى الشرقيّة أو أعتقد أنني على علم بذلك. أعرف فيليسيان، أوّل وأكبر موسيقيّ مستشرق، منسيّ ككلّ الذين كرّسوا أجسادهم وأرواحهم للروابط بين الشرق والغرب، وذلك بدون التوقّف أمام صراعات وزارات الحرب وزارات وُجدت في معظم البلدان الغربيّة من القرن الثامن عشر إلى القرن العشرين. وكانت تُعنى بتنظيم الجيوش في المستعمرات إضافة إلى العديد من النشاطات الأخرى المتعلّقة بالحروب. أو المستعمرات. نادرًا ما تُعْزَفُ موسيقاه اليوم أو يقع تسجيلها. مع ذلك، احتفى به الملحنون الذين عاصروه كأوّل من فتح مجالات خلق موسيقى جديدة، بهدير غير مسبوق وصوت غير مألوف. فيليسيان دافيد أصيل الجنوب الفرنسيّ، من فالكوس أو روسليون وتوفي (هذه معلومة متأكد من صحّتها، لأنّها غبيّة ويسهل تذكّرها) في سان جيرمان لاي المخيفة كأحواز باريس التي تنتظم حول قصر مليء حتّى ممراته الملاصقة للنوافذ بأحجار منحوتة وركام أحجار أخرى من بلاد الغال. فيليسان دافيد مات هو أيضًا بمرض السل سنة ١٨٧٦، رجل قدّيس، لأنّ  السِّيمُونِيين اسم يُطلق على المنتسبين إلى حركة فكرية سياسيّة واجتماعيّة نشأت في فرنسا واستمدت اسمها من مؤسّسها الفيلسوف الفرنسي هنري سان سيمون (١٧٦٠-١٨٢٥) كانوا جميعهم قديسين، مجانين وقديسين تماماً كإسماعيل أوربان صحفي ومترجم فرنسي (١٨١٢-١٨٨٤). عُرف برحلاته إلى الشرق وإجادته للغة العربيّة. كان مسؤولًا على سياسة نابليون الثالث في البلدان العربيّة. أوّل فرنسي جزائري أو أوّل جزائري من فرنسا والذي حان الوقت لكي يتذكّره الفرنسيون. أوّل رجل، أوّل مستشرق ناضل من أجل أن تكون الجزائر للجزائريين منذ سنة ١٨٦٠، ضدّ المالطيين، السِّيسِيلِيين، الإسبان، وسكان مرسيليا الذين يكوّنون نواة المستعمرات الزاحفة على خطى أحذية الجنود: إسماعيل أوربان كان مقرّبًا من نابوليون ااا في حين كان مصير العالم العربي على وشك التغير. لكنّ السياسيين الفرنسيين والإنجليز كانوا جبناء وماكرين وقد مات إسماعيل أوربان صديق عبد القادر ولم يعد هناك شيء يمكن فعله. سياسة فرنسا وبريطانيا العظمى غرقت في الغباء، الظلم، العنف والوهن.

في ذلك الوقت، كان فيليسيان دافيد، دولاكروا، نيرفال وكلّ أولئك الذين زاروا الشّرق من الجزيرة الخضراء إلى إسطنبول أو في حديقتها الخلفيّة من الهند إلى كوشنشين. في تلك الفترة في الشّرق، وقع تطوير الفنّ، الآداب والموسيقى، خاصّة الموسيقى: بعد فيليسيان دافيد لا شيء سيظلّ على حاله. هذا التّفكير هو مجرّد أمل زائف، أنت تبالغ، قالت سارة. ولكن يا رباه. لقد بيّنتُ كلّ هذا، كتبتُ كلّ شيء ووضّحتُ أنّ ثورة الموسيقى في القرن التاسع عشر والقرن العشرين تدين بكلّ شيء للشّرق. لا علاقة للأمر بطُرُقٍ دخيلةٍ وافدة كما كنّا نعتقد في السابق. الغرابة كان لها معنى لأنّها تُقْحِمُ مجموعة من العناصر الخارجيّة، تهتم بالآخر، فهي بمثابة حركة واسعة تشبه موزارت، بيتهوفن، شوبار، ليزت، بارليوز، بيزاي، ريمسكي-كورساكوف، ديبوسي، بارتوك، هايندميث، شونبيرغ، سيمانوفسكي ومئات الملحنين في كامل أنحاء أوروبا، ففي كامل أرجائها تمرّ رياح الآخر، كلّ هؤلاء الرجال العظماء يستعملون ما هو وافد عليهم من الآخر ليغيّروا الأنا لكي يُفقِدُوهَا كامل خصوصياتها لأنّ العبقريّة تتطلّب خلع كلّ الميزات واستعمال وسائل خارجيّة لزعزعة ديكتاتوريّة غناء الكنيسة والتجانس. لماذا أَغْضَبُ وحدي أمام وسادتي الآن؟ لأنّني، بدون شكّ، مجرّد أستاذٍ جامعيٍّ بائس لم يحقّق أيّ نجاح بأطروحته الثوريّة التي لم يستفد منها أيّ شخص على الإطلاق. لا أحد يهتمّ بفيليسيان دافيد الذي بدأت شهرته منذ ٨ ديسمبر ١٨٤٤ بعد عرض صحراء الأوّل في باريس. سيمفونيّة بثلاثة أجزاء لقارئ، مغني أوبرا، مجموعة من المغنين وأوركسترا. وهي تحتوي على ذكريات من رحلة الملحّن إلى الشّرق بين القاهرة وبيروت.

في القاعة، حظر بارليوز، تيوفيل غوتيه وجميع السِّيمُونِيين ومن بينهم أونفونتان المعلّم الكبير للديانة الجديدة، الذي رحل إلى مصر ليجد زوجة تهبه أولادًا، امرأة مسيح. وهكذا يكون قد وفّق بين الشرق والغرب، جمعهما بالجسد. بارتيليمي أونفونتان سيخطّط لقناة السويس ومسالك الحديد في ليون، سيعمل على جلب انتباه النّمسا والعجوز ماتيرنيش ديبلوماسي وسياسي نمساوي (١٧٧٣-١٨٥٩) حاول الإبقاء على النظام القديم ضدّ التحولات التي بشّرت بها الثورة الفرنسيّة سنة ١٧٨٩. لمشاريعه الشرقيّة التي لم تلق نجاحًا. الأمير لن يستقبله، بعد مؤامرة كاثوليكيّة، ورغم نصائح هامر-بيرغستال مستشرق فرنسي (١٧٧٤-١٨٥٦) يُعتبر المؤسس لأدب المستشرقين وأوّل من قدّم دراسة علميّة عن الإمبراطوريّة العثمانيّة. الذي رأى في ذلك فكرة عبقريّة لإدخال الإمبراطوريّة في الشرق.

بارتيليمي أونفونتان فاسق خرافيّ، أوّل زعيم عصري ومسؤول متميّز، يجلس في القاعة بجانب بارليوز الذي لا يُخفي تعاطفه مع الجانب الاجتماعيّ للعقيدة السيميونيّة.

“الصحراء اجتاحت باريس”. بالإجماع، كانت هذه أجمل عاصفة وَلَّدَتْهَا الموسيقى، لا أحد استطاع الذهاب بعيدًا هكذا. كان هذا ما كتبه تيوفيل غوتيه في الصحافة جريدة فرنسيّة نُشرت أوّل مرة سنة ١٨٣٦. وهو يصف العاصفة التي حطّمت القافلة في الصحراء. هي أيضًا أوّل رقصة كراقصات مصر الفرعونيّة، وهي عبارة إيروسيّة نعرف ما تخفيه وراءها. والمفاجأة الكبرى، “أوّل صوت لمؤذّنٍ” كتب بارليوز في جريدة النقاشات جريدة فرنسيّة نُشرت من ١٧٨٩ الى ١٩٤٤ في ١٥ ديسمبر. “دافيد وضع حدوده هنا، لا بدوره كمقلّد ولكن كمنسّقٍ. فقد اختفى كليًا ليعرّفنا، في عُرْيِهِ وباللغة العربيّة، على الغناء الغريب الذي يؤدّيه المؤذّن.

آخر أبيات هذه الصرخة اللّحنيّة تنتهي بمجموعة متكوّنة من مجالات أصغر من أنصاف-أصوات والتي أدّاها بيفور بإتقان لكنّها سبّبت مفاجأة كبيرة للمستمعين.

صوت خشن، صوت نسائيّ خشن فعلًا (بيفور، أب لثلاثة أطفال) تمكّن، بصوته الغريب من تشتيت الجمهور قليلاً أو ربّما توجيهه من خلال إثارته بأفكار مثل الحريم. بعد أداء الصلاة التي أقامها المؤذّن، تَستأنِفُ القافلة مسيرها، تبتعد وتختفي وتبقى الصحراء وحيدة. الصحراء دائمًا تبقى وحيدة. والسيمفونيّة كانت ناجحة إلى درجة أنّ دافيد قام بأدائها في كامل أنحاء أوروبا وخاصّة في ألمانيا والنّمسا أين يبحث السيمونيون عن بسط نفوذهم دون جدوى. بعد سنة، سيُقابل فيليسيان دافيد ماندلسون وسيقدّم العرض في فرنكفورت، بوستدام، أمام قاعة في بروسيا، في ميونخ وفي فيينا، في ديسمبر، ٤ حفلات في فيينا وسيحقّق نجاحًا حقيقيًا سيشارك فيه هامار-بيرغستال الذي سيحتفظ بذكراه، كما يروي هو نفسه، عن ذلك الشرق الذي يبدو بعيدًا جدًا الآن.

طبعًا يمكننا لوم دافيد بسبب صعوباته في إعادة كتابة الإيقاعات العربيّة في مقطوعته. لكن كثيرًا ما يُنسى أنّ الملحنين العثمانيين أنفسهم يجدون صعوبة في نقل إيقاعاتهم إلى الطريقة الغربيّة. إذ يعملون على تبسيطها كما يفعل دافيد. وكان يجب أن ننتظر بيلا بارتوك ورحلته إلى تركيا لكي تكون عمليّة التدوين أكثر دقّة، حتى ولو أنّه، خلال ذلك الوقت، كان سيلفادور دانييل، تلميذ فيليسيان دافيد، أستاذ الكمان في الجزائر، أوّل أنثروبولوجي موسيقي ترك لنا ألبومًا من الأغاني العربيّة، موريّة نسبة إلى سكان شمال أفريقيا وتحديدًا البلدان المغاربيّة الذين كونوا من السكان المسلمين في الأندلس. هنا يشير الكاتب الى موسيقاهم التي تعتبر موروثًا مهمًا نهل منه الموسيقيون فيما بعد. وقبائليّة نسبة إلى مجموعة من السكان البربر الذين يسكنون المرتفعات الجبليّة في شمال الجزائر.: ريميسكي-كوساكوف سيعيد توظيف هذه الأغاني، المهداة من بورودين، في العديد من السيمفونيات.

فرانسيسكو سالفادور دانييل، صديق غوستاف كوربي رسام ونحات فرنسي (١٨١٩-١٨٧٧) وجيل فالاس كاتب وصحفي فرنسي (١٨٣٢-١٨٨٥)، اشتراكي وكوموني اسم يطلق على المساند/المشارك في كومونة باريس سنة ١٨٧١، مدير معهد الموسيقى أثناء الكومونة، فرانسيسكو سالفادور دانييل سَيُعْدَم من قبل سكان فيرساي، سيحمِلُ السلاح ويعتلي حاجزًا. بعد التخلي عن الكمان وتعويضه بالسلاح، لا يوجد مكان في هذه الأرض لفرانسيسكو سالفادور دانييل الذي مات منذ أربعين سنة ودخل غياهب النسيان. لا يوجد مكان لذكراه لا في فرنسا، إسبانيا أو الجزائر. لا مكان لتخليد ذكراه ما عدا ألحانه في أعمال ماسينيه، دليباس، ريميسكي والتي تُعتبر أكثر تطوّرًا ولكنّها ما كانت لتكون كذلك لولا المادّة التي خلّفها فرانسيسكو سالفادور.

أتساءلُ متى يتمّ استعادة هؤلاء من النسيان؟ متى نُعيد لهم حقوقهم؟ كلّ الذين عملوا، بحب للموسيقى، لاكتشاف الآلات، الإيقاعات وتفاصيل الموروث العربيّ، التركيّ أو الفارسيّ.

أطروحتي ومقالاتي، قبر لفيليسيان دافيد، قبر لفرانسيسكو سالفادور دانييل. قبر مظلم أين لا يمكن الإزعاج خلال النوم الأبديّ.


مقطع من رواية بوصلة لماتياس إينار، روائي فرنسي درس في معهد اللغات والحضارات الشرقية بباريس. فازت الرواية بجائزة غونكور عام ٢٠١٥.

صورة الغلاف عمل للفنان التشكيلي السوري سمير الصفدي.