fbpx .

بيّن عليّ الكبر

ليلى العاجيب ۲۰۲۳/۰۸/۱۸

صورة الغلاف: كويّش سجّاد


عقلية لعبة الكراسي

يدخل اللاعب إلى الدورة الأولى وهو يعتقد أنه الفائز، والتي بعدها والتي بعدها. القاعدة في هذه اللعبة أن يخرج شخص مهزومًا مع كل دورة. والاستثناء هو الشخص الذي يفوز بآخر دورة ولا يبقى غيره. في الحياة، يظن البعض أنهم الاستثناء، ثم يتعرضون لصدمة أنهم القاعدة. يحلم الإنسان أنه في كل مرحلة آتية سيحقق ما يريد ويتصوّر، ثم يعيش حسرات الخسارة إن لم يحقق طموحه، لذا من الجيد من باب تحضير النفس أن يفكّر بعضنا تبعًا للمعطيات التي في حياتهم بأنهم ربما، ربما، يوجد احتمال أن مصيرهم في مرحلة الكبر في السن هو الإقامة في دار مسنين.

ليس تشاؤمًا، إنما واقعية، موجودة الآن، والدليل هو وجود دور المسنين. ليس من اللطيف إطلاقًا أن يعيش الإنسان حتى سن السبعين وهو ما زال يتعرض للمفاجأة من احتمالٍ موضوعيّ، لا أرى هذا يليق بإنسانٍ عاقل، خاصةً وأنّي شخص يكره المفاجآت بكافة أنواعها. أنا أعتقد أني ذاهبة إلى هناك، وما يهمني أن تكون دار مسنين فندقية. مطلّة على منظرٍ جميل، وفيها رفقة جيدة لديهم قصص تستحق الاستماع إليها، وسمّاعات ذات صوتٍ جيد للأغاني. 

لتحسين ظروف إقامتي في هذه الدار، بدأت بتجميع ملف موسيقي يحاكي مواضيعًا يمكن أن نسمعها أنا والرفاق هناك. لطالما كان دوري في الجلسات الجماعية الشخص المسؤول عن تمزيكها. وبالمناسبة، نحن نسمعها منذ الآن، نحن، بمعنى الذين نضع في عين الاعتبار هذا الاحتمال. فكما يوجد كبار سن روحهم روح شباب، يوجد متوسطي سن روحهم روح مسنّين. اللي بعيش ياما بشوف يا خالتي. 

سأبدأ بقائمة أغانٍ عراقية، إن كنت تشاركني الفكرة هات ما عندك من أغانٍ من مناطق جغرافية أخرى.

 

المسنّ الوجودي

هذه أغنية مناسبة لنزيل كان هاجسه الفهم. أن يُفهَم ويجد من يفهمه. شخص عوّل على الصداقة، على الحب، على المشاركة. ظل طيبًا رغم كل شيء، يحتفظ بصور من فيها كانوا احتمالات قائمة لعلاقة روحية مثلما يصوّر الفن والرواية العلاقات. لم يجدها، لكنه أبقى على دلائل مادية تثبت أنه ذات يوم لاح طيفها. شخصٌ ما يزال يسكنه الحنين لهذي المعاني، رغم اللوم والشكوى من أولئك الذين عوّلوا على أشياء أخرى، أو أجادوا لعبة الاستمرار، ثم يختم قوله بأن هذا ليس حسرات بل بقايا أمل، فكرة لازمة بصفتها ضرورة.

بصوت محمد جواد آموري. الموسيقار الذي كان له النصيب الأكبر من تلحين وغناء أجمل أغاني حياتنا. المجدد في اللحن العراقي، مكتشف أجمل الأصوات، النزق الذي يليق به هذا الطرح، يغنّي.

على حطة إيدك ما تغيرنا.

 

 

كريم منصور

بما أنها دار مسنين فندقية، فهي خاضعة لأحكام السوق، تحتاج لحملة إعلانية ربما لزيادة المقيمين، أو لإرضاء التمويل والمتبرعين. إن كنت عراقيًا أو تعرف الفن العراقي بشكل جيد، ستعلم أن كريم منصور هو أفضل شركة إعلانات يمكنها أن تفيدك. كريم منصور قادر على إقناع شاب يملؤه الشغف بأنه واهم، وبأن الحياة أصلًا دار معاناة يجب أن نتقبّلها بالأحضان، احتضن حزنك، احتضن سقطاتك، احتضن خيباتك، لا تتقبلها وتتجاوز، بل كُن أمها وأبوها ومعالجها النفسي، مهمتك أن تواسيها. كريم منصور هو ما بعد التنمية البشرية، لا تعطِ وقتًا لحزنك وتتقبله، كُن عرّاب حزنك وخيباتك، دللها، نمّيها، اجعلها أغلى ما تملك. كريم منصور قادر على إقناعك أن مصيرك الوحيد أصلًا هو دار المسنين في أحسن الأحوال. 

الدنيا على الأوهام، تاخذنا وترد بينا

 

 

حسين نعمة

الذي نحب، الذي عشنا معه كل المراحل، الشغف، الواقعية، الانطفاء، ما بعد الانطفاء، بحقيقيةٍ وصدق، بل وأحقيّة في الشعور كل مرة. عندما يمضي العمر، وتظهر علامات كبر السن لتكون دليلًا على غياب فرص فُقِدَت للأبد. يغني لنا أيضًا:

بيّن عليّ الكبر والحيل راح الحيل 

بالغربة ضاع العمر ومساهر وي الليل

لا هلي ولا صحبتي ضليت أنا بغربتي 

لا هلي ولا ديرتي ضليت أنا بغربتي 

حقي من أصبّ دمعتي واصرخ وأصيح الويل

ضاع العمر غربة كل من مشى بدربه

حقي من أونّ عالمضى وأصرخ وأصيح الويل

دنيا وعليّ صعبة كل من مشى بدربه 

حقي من أون عالمضى وأصرخ الويل

 

يذكر نعمة حالة معينة مرتبطة بالغياب والكبر في السن معًا، لكنه يعطينا لازمة غنائية تصلح لنا جميعًا، المقيمين في الدار:

حقي من أوِن عالمضى وأصرخ وأصيح الويل.

 

السنوات التي نحتفل بمرورها صغارًا بحفلات عيد ميلاد وأغانٍ مقبلة على الحياة، ونصرخ خلالها أملًا وتفاؤلًا، تتحول لسنوات نحيي ذكرى وفاتها في مرحلة الكبر. يعلن ذلك حسين نعمة بلا تجميل، يعلنه بصفته حق أصيل: حقي من أون عالمضى وأصرخ واصيحن ويل. نصرخ الآن عتبًا، ندمًا، حسرة، ألمًا. نصرخ لأن الصورة اكتملت ورأينا الطرق التي سلكناها من نهايتها، والتي لم نسلكها أيضا. هذا عنوان مرحلة نرميه بوجه أولئك الشباب الذين يأتون زياراتٍ دورية للدار ليقيموا لنا حفلاتٍ ساذجة تخبرنا أننا ما زلنا على صلة برؤيتهم للحياة. بمعنىً أدق، رؤيتهم المحدودة الجاهلة للحياة، رؤية تحكي عن عمرٍ لم يعيشوه بعد، وتجربةٍ لم يعرفوها بعد، ولكنهم سذّج مثل أغنياتهم، تملؤهم الثقة والتأكيد. 

 

 

إيغالًا بالفكرة، يشارك فؤاد سالم في ذكرى النعي: ذبل عودي

 

 

في جلساتٍ مسائية تجمعنا على شرفة الدار الواسعة المطلّة، سهلة الوصول، سنتبادل القصص. يمكن أن تكون قصصًا معتادة، لكنها مليئة بحسن السرد والتسلية، أو قصصًا استثنائية، أو قصصًا مملة لكنها لصديقٍ مقيمٍ معنا، لا يملّ من تكرارها. يمكن أن تكون صامتة متأمّلة، للذين يمكن توقع قصصهم بحكم أن المجموع البشري يعيش أحيانًا نفس القصص باختلافٍ بسيطٍ في التفاصيل.

أغنية لرفيقٍ جديد يتوقع أن تأتيه زيارة من شخصية محورية في حياته الماضية، شكّلت الكثير من حزنه. ثم تعود محمومة بالشعور بالذنب، أو ربما نُسمِعُهُ إياها لنخفف بها عليه احتمال انتظار قدومها يومًا، وخيالاته عن كيف سيلقاها.

 

وبالطبع، أغانٍ للذين لم يضعوا احتمالية دار المسنين في حسبانهم. أولئك الذين عملوا بجد على تجنبّها، وظنوا أن ما يخطط له الإنسان ويعمل لأجله يحصل وفقًا للخطة، ثم لم يتقبلوا المفاجأة. سنكتفي ببضعة أغانٍ لصعوبة المشهد، ومحاولة صغيرة لتوعية الواثقين من النهايات.

هذا النوع من الأغاني يبدأ عادةً باستنكارٍ أو استفهام، لا نتمناه لك عزيزي.

 

أهمها سردية: ربيتك صغيرون حسن بصوت صديقة الملاية 

 

 

سعد الحلّي: لا يا ولدي

 

 

كاظم الساهر بلحن لطمية تراثية: من قسّاك 

 

 

بعدني ما طحت مني تبريت، بصوت محمود أنور

 

 

يمكنكم أن تجدوها بصوت ملحنها الأستاذ جعفر الخفاف، وسعد الحلّي، وآخرون. 

 

اللامبالاة

مرحلة الشيخوخة هي التمظهر الأكبر للـلامبالاة، حيث لم يعد شيءٌ مهم، ولا انتظارٌ لشيء. بالأصح، لعبة الانتظار لم تعد مسليّة، فالقادم الوحيد المتوقع مجيئه إما مرض أو موت. وقت الإجابات الحقيقية والواضحة ماثلة أمامك، غنّي لها وعليها، وقت يبدو به كل شيء بلا قيمة، أو كما قال الجواهري: لم يبق عندي ما يبتزه الألمُ  حسبي من الموحشات الهمُّ والهرمُ.

 

وغنى كاظم موال

هِمّ يا قلب للـ يجي وحن يا قلب عالراح 

واسبح بشط الحزن ظهر ومسا ومصباح 

 

 

 

لمن لم يستسيغوا الفقرة السابقة:

للمتفائلين، أولئك الذين يصرون أن هذا تشاؤم وسوداوية لا موضوعية وواقعية، يتحمسون للمساعدة لأن الأمر في نظرهم قضية عاجلة يجب معالجتها، الذين يرون أن هذه أفكار يجب أن لا تخطر ببالنا، ويا للهول لماذا جيلٌ ثلاثينيّ يستشرف هكذا مستقبل، ذوي القلوب النابضة دائمًا، والألوان، وأسراب الفراش، الذين يخشون الحزن، واليأس، بالنسبة لهم شيءٌ لا يحتمل، مرضٌ يجب علاجه. نخبرهم أن لدينا في دار المسنين أغانٍ لهم في حال لم تسر مخططاتهم كما يجب، لكنهم لم ولن يستسلموا، وسوف يظلون يجلبون لنا قصصًا جديدة يثبتون لنا فيها أن الحياة ولّادة، وأن الحب والسعادة ليس لهما عمر أو عرق أو دين، نختم لهم هذا الاحتمال الوجودي بأغنية: عدنا قلوب ما تكبر، يموت ال قلبه مو أخضر.

 

 

المزيـــد علــى معـــازف