البطولةُ للفانين | تسليح الموسيقى الكلاسيكية

تتمتع الموسيقى الكلاسيكية بميزة واضحة تفرقها عن كل من أصناف الموسيقى المختلفة، الشرقية منها والغربية، وهي كونها موسيقى خالصة. صحيح أن هذا في حد ذاته لا يميزها بدقة، ولا يؤسس لتعريفها تعريفًا دقيقًا، لكنها أوضح صفة بالنسبة للمستمع غير الدارس. تعني الموسيقى الخالصة كونها تعبر عن فكرتها، أو مضمونها أيًا كان، عن طريق الموسيقى فحسب، دون مصاحبة شِعر أو مشهد تمثيلي – بخلاف الموسيقى التصويرية مثلًا – أو حتى برنامج معين. أما ما يخص الموسيقى الكلاسيكية حقًا، ويميزها عما سواها، فهو أنها أعمال اشتقاقية، أي تعتمد على اشتقاق الألحان بعضها من بعض. ناقش الكاتب هذه المسألة باستفاضة في مقالة سابقة، لكن لا مراء في أن الموسيقى الكلاسيكية في أغلبها، وأشهر أعمالها، موسيقى خالصة.

الموسيقى الخالصة هي كذلك غالبًا موسيقى مطلَقة. الموسيقى الخالصة في الواقع خصيصة شكلية بحتة للعمل الموسيقى، تعني كما قلنا كونه قائمًا بذاته دون الحاجة إلى مصاحبة شعر أو مشهَد أو برنامج. أما الموسيقى المطلقة فهي خصيصة مضمونية: تعني أن العمل الموسيقي لا يعبِّر عن قضية أو فكرة معينة، ولا ينحاز إلا إلى نفسه؛ باختصار كونه لا موضوعيًا. ولما كان ريتشارد فاجنر (+١٨٨٣) على العكس منحازًا إلى الموسيقى الموضوعية، المعبرة عن موقف اجتماعي أو سياسي، وهو الواضح من استلهامه للتراث الجرماني والشمالي بصفة عامة، مع مسحة اشتراكية واضحة، فقد أطلقَ تعبير الموسيقى المطلقة على تلك الأعمال، التي تزعم لنفسها صفة الحياد، والتي قام برفضها Chua, Daniel K. L., Absolute Music And the Construction of Meaning, Cambridge University Press, 2004.. لا يعرف الكثيرون من دارسي الموسيقى الكلاسيكية وهواتها أن فاجنر هو صاحب هذا الاصطلاح: الموسيقى المطلقة. السبب في ذلك ليس الجهل، أو قلة الاطلاع، بل أن هذا المصطلح استُعمِل بعد فاجنر في سياقات مختلفة، مبايِنة تمامًا عما قصد إليه صاحبه، حتى صار ذلك التعبير المنحاز، الذي صِيغَ على يد فاجنر من وجهة نقدية-أيديولوجية، يستعمَل للإشارة إلى نوع من الموسيقى على نحو محايِد. لكن هل كانت الموسيقى الخالصة محايِدةً حقًا؟ بعبارة أخرى: هل كانت فعلًا مطلقة؟

تصل قصة هذا المصطلح إلى الذروة حين يدخل إدوارد هانسلك (+١٩٠٤) إلى الساحة. كان هانسلك ألدّ أعداء فاجنر في مجال النقد الموسيقيّ، ليس لأن هانسلك رفض موقف فاجنر من الموسيقى فحسب، بل لأنه كان ناقدًا ذا وزن معتبَر، وذا أثر لا ينكره أحد على النقد الموسيقيّ في الغرب بأسره. اعتمدت نظرية هانسلك على أن الموسيقى في ذاتها لا يمكن لها أن تعبّر عن أي فكرة أو عاطفة أو مضمون. يرى هانسلك أن كل ما نشعر به أو نفكر فيه في خبرة السماع المباشر إنما نحن من يخلعه على ما يسمعه. بالتالي لا يمكن للموسيقى أن تكون منحازة Hanslick, Eduard, Vom Musikalisch-Schönen. Ein Beitrag zur Revision der Ästhetik der Tonkunst, Leipzig, Druck und Verlag von Breitkopf & Härtel, 1922.. كما سنرى، نجحت أطروحة هانسلك في فرض نفسها على النقد الموسيقي الغربي لوقت طويل. لكن هل كان هذا النجاح بسبب منطقية أطروحات هانسلك، أم كان له سببه الأيديولوجي هو نفسه؟

يرى بعض الباحثين أن هانسلك، حين بلورَ مفهومه عن الموسيقى الخالصة باعتبارها مطلقة في جوهرها، لم يكن هو نفسه محايدًا، أو عِلميًا. يعتمِد مفهوم الموسيقى الخالصة، وكذلك الموسيقى المطلقة، على نوع من الفصل بين الموسيقى والتاريخ. يعني أن الموسيقى غير مرتبطة بالضرورة بالمرحلة التاريخية-الاجتماعية، وذلك بسبب عجزها عن التعبير، ما يؤدي إلى عجزها عن حمل مضمون تلك المرحلة التاريخية؛ وهي المقدمة، التي بدأ منها هانسلك كما نرى. ولما كان هانسلك معاصرًا لصعود الهيجيلية، فلسفة جيورج فلهلم فردرش هيجل (+١٨٣١)، التي عقدت الصلة بين كل الإنتاج الإنساني من جهة، ومنه الموسيقى، ومراحل التاريخ من جهة أخرى، فقد نقد هذه الصلة. يعتقد هانسلك أن هيجل قد قام على نحو غير دقيق بخلط الطبيعة الموسيقية المحضة بوجهة نظره مسبقة التجهيز عن التاريخ المصدر السابق، ص ٨٢ - ٨٣.. قد نعرف على نحو الدقة الظروف التاريخية المحيطة بالمؤلف في وقت تأليف العمل، لكنها لا تلعب أي دور في العمل نفسه في رأي هانسلك المصدر السابق، ص ٩٨.. يقول: “إن الاعتبار الجمالي يجب ألا يرتكز على أية ظروف تاريخية تقبع خارج العمل ذاته.” Ebd. ’Die ästhetische Betrachtung kann sich auf keine Umstände sitzen, die aufierhalb des Kunstwerks selbst liegen’.

يرى باحثون أن فصل هانسلك للموسيقى عن التاريخ، هو في حد ذاته فعل تاريخي، ففي خضم تداعيات الثورة الفرنسية – بحسبهم – قُدّمت الموسيقى الخالصة كفكرة حداثية عابرة للتاريخ، ومن أدلتهم أن مصطلح الموسيقى الخالصة نفسه لم يظهر إلا بعد هذه الثورة على أيدي الرومانسيين Chua, Daniel K. L., Absolute Music And the Construction of Meaning, op. cit., p. 9.. ما يعني أن الموسيقى الخالصة هي موسيقى الثورة الفرنسية، التي رأت نفسها “الثورة” بالألف واللام في وقتها، وقدمت نفسها كحل نهائي لكل التناقضات الاجتماعية في العالم كله. بالتالي لا يمكن اعتبار الموسيقى الخالصة موسيقى محايدة، أو مطلقة. لقد اعتقد فاجنر أن هناك موسيقى مطلقة، ورفضها. في المقابل اعتقد هانسلك أنه لا توجد موسيقى غير مطلقة. أما هذا الرأي الناقد لموقف هانسلك فيرى أنه لا توجد أصلًا موسيقى مطلقة، أو محايدة، حتى لو صيغَت في أشكال الموسيقى الخالصة كالسيمفونية والكونشرتو، والرباعي الوتري والصوناتا، إلخ.

إذا نظرنا إلى تاريخ الموسيقى الكلاسيكية من هذا المنظور، منظور العلاقة بين الموسيقى والتاريخ، لاستطعنا الإحاطة بجانب خفيّ عادةً عن الدارسين، الذين ينظرون إلى الموسيقى الكلاسيكية بما هي الموسيقى بالألف واللام، وبما هي كما تقدم في صدارة المقالة – خالصة. إذا قمنا بتطبيق هذا المنظور على نحو مَسْحِيّ، يبدأ من يوهان سيباستيان باخ في القرن السابع عشر، قرن ارتكاز الموسيقى الكلاسيكية، وينتهي إلى سترافنسكي في القرن العشرين، قرن تحلل الأشكال، فقد نتمكن من صياغة ستة مراحل أساسية لتاريخ الموسيقى، وموسيقى التاريخ.

يوهان سيباستيان باخ | الإنجيل الخامس

من المعلومات، التي تغيب كذلك عن مستمعي الموسيقى الكلاسيكية، وخاصة جمهور باخ، أن باخ قد عُرفَ كعازف في حياته، ومرتجِل على الأرغن والهاربسيكورد، أكثر مما عرف كمؤلف؛ وهو لغز محيِّر. يرسم مجموع أعمال باخ لنا صورةَ عقليةٍ غزيرة الإبداع، ومتمكنة من التأليف إلى حد تأسيس مدرسة كاملة، بل مرحلة بأسرها في الموسيقى؛ فلو لم يوجد في عصر الباروك غير باخ، لما تأثرت نظرتنا كثيرًا إلى موسيقى هذا العصر، ولظللنا نستمع إلى موسيقى الباروك من القرن السابع عشر إلى اليوم. ذلك أن باخ قد وضع عددًا هائلًا من الأعمال، لا يضاهيه ربما سوى شوبرت، الذي كانت أغلب أعماله أغاني الليد القصيرة البسيطة على أية حال. أما أغلب أعمال باخ فهي بالغة التعقيد في بنيانها، وقوية الألحان، وتشكل في مجموعها متحفًا كاملًا لموسيقى الباروك، ومدرسة كما قلنا في التأليف. 

يرى بيتهوفن أن باخ هو الأب الشرعي للهارموني، ومعروف أن بيتهوفن قد اشتهر في مقتبل مشواره الفني كعازف متمكن لفوجات باخ. مع ذلك فهذا الأب الشرعي لم يُعترَف به في حياته. يرى الكاتب أن هناك سببين أساسيين لهذا التناقض: الأول: هو التعقيد الزخرفي الفاحش في أعمال باخ؛ الأمر الذي جعلها أقرب إلى تلاعب شكلي بلا هدف بنائي أصيل؛ وهو النقد الذي وجّهَهُ مفكرون كبار لهم أعمال مخصصة في فلسفة الموسيقى في عصر الباروك كرينيه ديكارت (+١٦٥٠) Descartes, René, Compendium of Music ’Compendium Musicae’, Translation by Walter Robert, Introduction and Notes by Charles Kent, American Institute of Musicology, 1961.. السبب الثاني أن أغلب أعمال باخ، حوالي خمسةٍ وسبعين بالمائة منها، أعمال كنسية، وُضعَت أصلًا للتأدية في الكنائس؛ وهي المعروفة بمصطلح الموسيقى القدسية، في مقابل قلة من أعماله تمثل موسيقاه العلمانية، وذلك كما تجري قسمة أعمال باخ عادةً. لما كانت أغلب أعماله أعمالًا عملية، كموسيقى الأفلام التصويرية اليوم، فلم تعتبَر أعمالًا فنية أصيلة في وقتها. لكنْ حين انقرض العصر، وتوالت العقودُ، وجاء القرن التاسع عشر، انفصلت هذه الأعمال عن الهدف العملي منها، وبقيت معلَّقةً في فضاء التاريخ، بلا أرضٍ، فأُعيدَت النظرةُ إليها كأعمال فنية أصيلة، ومبهرة، إلى حد إبهار بيتهوفن نفسه وتلمذته عليها، وهو الذي طوَّر استعمال الفوجه، أو “التفويج” بتعبير حسين فوزي فوزي، حسين: بيتهوفن، دار المعارف، القاهرة.، كنمط للإنماء في الأعمال السيمفونية، تعلمه من باخ على نحو غير مباشر. ما يهمنا بالدرجة الأولى في مقامنا الحالي هو هذا السبب الثاني: الموسيقى القدسية.

مما لا يعرفه الكثير من المستمعين العرب لموسيقى باخ، عن باخ نفسه، أنه يعَدّ بين بعض اللاهوتيين، البروتستانت منهم والكاثوليك، أقرب إلى عالم لاهوت، يعبّر عن موقفه الديني وعاطفته الدينية بالموسيقى بدلًا من القلم. هذا إلى حد أن وصفه البعضُ بصاحب الإنجيل الخامس: إنجيل باخ، بعد الأناجيل الأربعة لمتى ومرقس ولوقا ويوحنا (عليهم السلام). كان يوهان سيباستيان باخ لوثريًا على عدة مستويات: مستوى العقيدة نفسها، ومستوى استغراقه العميق في ترجمة لوثر للكتاب المقدس، وتعليقاته بخط يده عليه، والمستوى الكمّي لعدد أعماله في الموسيقى الدينية. كذلك كان لوثريًا على مستوى الجانب القومي في لاهوته، إذ اهتمَّ بالترجمة الألمانية للكتاب، لا اللاتينية؛ وقد شكّلت القومية جانبًا أساسيًا في حركة الإصلاح الديني، لأنها نقلت سلطة تفسير الكتاب المقدس من الكنيسة إلى الدولة عن طريق اللغات المَحلية. المستوى اللوثري الذي قد يثير الدهشة هو أن باخ كان يكتب توقيعًا على أغلب مخطوطاته الموسيقية، الدينية والعلمانية، بحروف S.D.G، وهي اختصار لعبارة Soli Deo Gloria اللاتينية، التي تعني “المجد لله وحده”. أحيانًا كان يستبدل بهذا الاختصار اختصارًا آخَر، هو I.N.J، الذي يعني In Nomine Jesu، أو “باسْم يسوع” Robin A. Leaver, ’Music and Lutheranism’, Butt, John (ed.), The Cambridge Companion to Bach, Cambridge University Press, 1997, p. 44. See also: Butt, John, ’Bach's metaphysics of music’, op. cit., p. 52.. ما يبين لنا إلى أي حد كان يرفع باخ موسيقاه إلى السماء.

“المجد لله وحده” Soli Deo Gloria بقلم باخ على إحدى مخطوطاته

ربما كان أشهر ما وضعه باخ في الموسيقى الدينية هو آلام القديس متَّى، الذي يعتبَر في أغلب الأحيان أهم أعمال باخ، وأكثرها دسامة، واستغراقًا لقدراته التأليفية. كل ذلك جعل من يوهان سيباستيان باخ موسيقار الإصلاح الديني، وموسيقار البروتستانتية الأول بامتياز، حتى وإنْ لم يعرفه عصرُه كمؤلف كبير. 

حين نستمع إلى موسيقى باخ اليوم، في الربع الأول من القرن الحادي والعشرين، نجد فيها اللحن القوي والعاطفة القوية، والشكل المعقد والزخرف الهائل، لكننا قلما نربطها بمرحلتها التاريخية. في الواقع إذا وضعناها في هذا المنظور سوف تتبدل نظرتنا إليها كثيرًا. هذه الظاهرة التي تحدث عنها باحثون في موسيقى باخ تحت عنوان Endzweck، أي الموسيقى الموضوعة لهدف محدد Butt, John, ’Bach's metaphysics of music’, op. cit., p. 53.. ليست المسألة اختيارًا، بل هو السياق التاريخي-الفلسفي، الذي وضع فيه باخ أغلب مؤلفاته، وأشهرها، والذي هو بالضرورة مُستَدْعًى حين نستمع إليه.

هايدن وموتسارت وجلوك وسالييري | نبلاء الموسيقَى

تستدعِي لفظة الإقطاع اليوم، خاصة في مجتمعات العالم الثالث الزراعية كمصر، رنينًا سلبيًا؛ فقد صيغَت الذاكرة التاريخية باعتبار الإقطاع مرحلة تخلفٍ من الزاوية الاجتماعية-الاقتصادية أولًا، ومرحلة استعبادٍ من الزاوية الحقوقية ثانيًا. بيد أنه في القرن الثامن عشر، وقبل الثورة الفرنسية، لم يكن الإقطاع نظامًا للاسترقاق من جهة، وللسرقة من جهة أخرى، بل كان طبيعة المجتمع، التي لا يعرف لها الناس بديلًا، أو يعرفونه ولا يجدونه. كانت الطبقات المسيطرة في ذلك المجتمع هي الطبقات الأرستقراطية، المكونة من النبلاء أصحاب الألقاب، في كل دولة، وهي التي تملك السيطرة، ليس على الأرض الزراعية فحسب، بل على السياسة والثقافة والفن كذلك. الطبقة الأرستقراطية مفهوم أوسع بكثير من مجرد أصحاب الإقطاعيات، ويمتدّ إلى شتى شؤون المجتمع. كان طبيعيًا أن تتحدد علاقة الأرستقراط بالموسيقى بما هي علاقة تكافُل حيوي من جهتين: أولًا كان النبلاء هم من يرعون الموسيقيين ماديًا بشكل أساسي، وثانيًا كان الموسيقيون يرعون النبلاء أيديولوجيًا بدورهم. كان على الموسيقار أن يقدم ما يتوافق ومزاج هذا النبيل، أو ذاك، ليحصل على دعمه المادي، وكان على النبيل أن يرعَى الموسيقار ماديًا، ليحوز دعمه الثقافي.

لا يعني هذا أن الأرستقراط كانوا يُمْلون على الموسيقيين ما يؤلفونه. كان بإمكان الموسيقار أن يقدم تجديداته، لكن في حدود المقبول من جهة دعمه المادي. هذا سبب في أن تطور موسيقى القرن الثامن عشر كان بطيئًا للغاية، مقارنة بمعدله في القرنَينِ التاسع عشر والعشرين. لهذه العلاقة بين الأرستقراط والفنانين ميزة وعيب في آنٍ بالنسبة للموسيقيين: ميزة لأن الموسيقار سيجد رعاية أكبر مما يمكن للدولة أن توفره في ظل النظام الرأسمالي أو الاشتراكي؛ وعيب لأن الموسيقار سيرسف في قيود ثقيلة من التقاليد الفنية. لكنْ لا خلاف في أن تجديدات هامة قد وقعت على الموسيقى في هذا العصر وأبدلت تاريخَها للأبد، بالرغم من هذه القيود. هذه التجديدات هي نشأة المدرسة الكلاسيكية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، والتي لمعت فيها أسماء عديدة، كيوسف هايدن وجلوك وسالييري، وحتى بيتهوفن المبكر قبل سن الثلاثين. لكن وسط كل هؤلاء لمع اسم واحد بالغ الأهمية، وذو أثر كبير على الموسيقى اللاحقة في العالم كله، هو اسم فولفجانج أماديوس موتسارت. 

ارتبط اسم موتسارت نفسه باللقب السابق أماديوس، الذي يعني “المحبوب من الله”؛ نظرًا لموهبته الفريدة في سن جَدّ صغيرة. لقب ديني له أهميته ودلالته في الثقافة المسيحية، فقد كان يسوع نفسه (عليه السلام) معجزة مبكرة. يمكن استيضاح ذلك بالمقارنة مع السياق الإسلامي، فالشخصية المركزية في الإسلام هي النبي محمد (عليه السلام)، الذي يراه بعض المسلمين صاحب معجزة، هي البلاغة، ويرى آخرون أن بلاغة القرآن ليست من لسان الرسول، بل هي بلاغة الخطاب الإلهي، أما شخص الرسول نفسه فكان النبي الوحيد بلا معجزات. من هنا كان تميزه في رأيهم. الملاحَظ أن الثقافة العلمانية قد اهتمت مؤخرًا بتلك النماذج البطولية البشرية المحضة، بدءًا من الثورة الفرنسية. لهذا فقد اهتم بمحمد مفكرون ومؤرخون في سياق محدد، هو البطولة البشرية، كتوماس كارليل ومايكل هارت. لذلك لا ينظر المسلمون بعين الإكبار للموهبة المبكرة، ولا ينتظرونها، وإنما ينتظرون عادة بطلًا بشريًا ناضجًا، أو مهديًا منتَظَرًا، وبعضهم ينتظر عودة يسوع نفسه في آخر الزمان. اعتقد بعض هؤلاء المفكرين كذلك أن بيتهوفن، البشري بلا معجزات، بل المعاق سمعيًا، هو أعظم الموسيقيين، كمايكل هارت. السبب في ذلك، أي في تقدير الأبطال البشريين في تلك المرحلة، كان علمنة الدولة.

نعم، كان لتقدير موهبة موتسارت الطفلية دافعٌ دينيّ معيّن في الثقافة المسيحية-الغربية، حتى دعوه بأماديوس. مع ذلك جاء جلّ أعمال هذا الأماديوس علمانيًا. من هنا المفارقة، فطبقًا لهذه القصة كان موتسارت موهبة إلهية، لا تفسيرَ عقليًا لها، ثم ذهبت هذه الموهبة في طريق معاكِس. كأن الله اصطفَى نبيًا، ثم راح هذا النبيّ يبشِّر باللا دينية. أعتقد أن موتسارت لكل ما سبق – لو كان قد وضع أغلب إنتاجه كأعمال دينية، لنُظِر له كموسيقار إلهي، ولكان مصيره المادي والاجتماعي أفضل، ولربما ألَّفَ أكثر، وأجوَد، ولَعاشَ أطول. لكنْ لم يكن الاختيار في يد موتسارت إلى هذا الحدّ كذلك، إذ طرأت تحولات كبيرة على المجتمع الأوروبي آنذاك، حتى قبل الثورة الفرنسية، وصار أغلب السلطة في يد النبلاء، أي في يد الدولة، لا الكنيسة. ساهم يوهان سيباستيان باخ نفسُه في ذلك التحول كما تقدم في موضعه. يعني أن باخ قد رسم – دون أن يدري – مصيرَ موتسارت. صحيح أن باخ قد رسم بشكل ما مصير بيتهوفن أيضًا، حين تعلم منه الهارموني والإنماء، لكن أثر باخ على موتسارت كان أقوى وأشمل. لقد ساهم باخ بنفسه في نقل السلطة – في سياق الإصلاح الديني – من الكنيسة إلى نبلاء الإقطاع.

هذه أرضية عامة لفهم أسس التأليف الكلاسيكي في النصف الثاني من القرن الثامن عشر. أول هذه الأسس هي التقاليد الموروثة، وهي التي تمثلت في الشكل بالدرجة الأولى. للشكل أهمية قصوى، تعلو على المضامين، في سياق الكلاسيكية عمومًا، والسبب في ذلك هو اضطرار الفنان للاعتماد على طبقة اجتماعية معينة، ترث ألقابها وممتلكاتها، وسلطتها بشكل عام. ما يوضح لنا صورة التوازي بين ميراث التقاليد في الفن الكلاسيكي، وميراث السلطة في الطبقة الأرستقراطية. لهذا يمكن للمستمع المخضرَم أن يلمّ بأغلب كونشرتوات موتسارت للبيانو مثلًا في ساعات معدودة، بينما لا يمكنه ذلك بالنسبة لكونشرتوات بيتهوفن، أو رحمانينوف. لقد وضع موتسارت عددًا كبيرًا نسبيًا من الكونشرتوات لهذه الآلة، يبلغ سبعة وعشرين عملًا، في مقابل خمسة كونشرتوات أساسية فقط لبيتهوفن، الذي عاش أطول من موتسارت، وثلاثة كونشرتوات لرحمانينوف، الذي عاش أطول من بيتهوفن وموتسارت. بطبيعة الحال جاءت أغلب أعمال موتسارت نُسَخًا من بعضها إلا قليلًا، وصارت موسيقاه بالغة التميز، لا من منطلق معياري، بل وَصْفِيّ. يمكن للمستمع المبتدئ أن يتعرف أسلوب موتسارت على الفور، في حين يتعثر في ذلك إلى حين بالنسبة لبيتهوفن ورحمانينوف مثلًا. 

الخصيصة الأولى إذًا في الكلاسيكية في النصف الثاني من القرن الثامن عشر هي الاعتماد شبه الكلي على الشكل. في الموسيقى، حين يصير هذا هو المعيار، فإن تميز الموسيقار أو شخصيته النوعية لن تظهر إلا في الألحان، وربما التوزيع. لهذا تحديدًا برز اسم موتسارت: فقد تمتعت جمله اللحنية بوضوح وجمال، يندر أن نجده في المدارس الألمانية في كل عصورها، كما تمتع توزيعه بنقاء صوتي معروف ومميَّز، نستطيع فيه تمييز صوت كل آلة بوضوح. حين تأتي الجملة اللحنية واضحة، فهذا نفسه يُسهِم بنصيب كبير في وضوح بنية العمل، لأن تتبع الجملة اللحنية داخل الصيغة سيكون أيسر، ما يصب في الختام في مصلحة الشكل. ولما كان حرص موتسارت الأساسي، وخطة حركته داخل حدود التقليد، الجملةَ اللحنية، ووضوحَ الشكلِ عن طريق النقاء التوزيعي، فقد أدّى كل ذلك في المحصلة النهائية إلى وضوح الشكل داخل قيود الشكل. هذا أساس تميُّز موتسارت بالنسبة للمزاج الكلاسيكي – في مقابل الرومانسي – حتى اليوم، المزاج الذي يقوم بشكل أساسي على قيام الشكل بذاته.

أما الخصيصة الثانية، التي نجدها كذلك في أعمال أستاذه هايدن، فهي كثرة الأعمال وقلة تنوعها. لو تناولنا كل سيمفونية لبيتهوفن مثلًا لوجدناها عملًا مستقلًا يحتاج منّا إلى تبديل جزئي لخطة السماع، وطريقة تتبع الألحان. في مقابل ذلك فإنه يكفي عملان أو ثلاثة عادةً بالنسبة للمستمع المخضرَم، لأنْ يحدد خطة السماع بالنسبة لتسلسل الكونشرتوات أو السيمفونيات أو الصوناتات، عند هايدن وموتسارت. ربما كان مصدر التنوع الوحيد الممكن، الذي يفرض نفسه في هذا السياق، هو مراحل حياة الموسيقار وتقدمه في العمر؛ ولما كان موتسارت قصير العمر، فلم يقع في مؤلفاته تنوعٌ كافٍ، وتركَ مجموعة أعماله وكأنها أُلِّفَتْ في جلسة واحدة. هذه ربما الخصيصة الثالثة: مجموع الأعمال كعمل واحد ممتدّ طيلة العمر، وهي مترتبة كما هو واضح على الخصيصة الثانية.

أما الخصيصة الرابعة للتأليف الكلاسيكي في النصف الثاني من القرن الثامن عشر فهي استبعاد الزخارف. مثلًا، تبدو لنا موسيقى باخ، أو هندل أو فيفالدي، بالغة التعقيد دائمًا حين نقارنها بأعمال هايدن وموتسارت وجلوك وسالييري. وكما أوضحنا في الصدارة، وكما كتبنا كذلك في موضع آخر بصدد بيتهوفن: لم يكن هذا التعقيد عند باخ بنائيًا، بل كان زخرفيًا. بمعنى أننا لو أزلنا كل تلك الزخارف الجانبية، فسيبقى العمل قائمًا، بل سيكون أوضح قيامًا. بالمقارنة نجد أن التعقيد الشكلي عند بيتهوفن مثلًا لم يكن زخرفيًا، بمعنى أننا لو قمنا بإزالته، فسوف تتبدل هوية العمل، بل سوف ينهار. ساهمت هذه الخصيصة في تدعيم الخصيصة الأولى الشكلية، فعن طريق إزالة الزخارف، يزداد الشكلُ وضوحًا. يمكن للقارئ أن يتخيل عملًا شهيرًا لموتسارت، وليكن مثلًا سيمفونيته رقم ٤٠ في صول الصغير، وهو محمَّل بكل تلك الزخارف الباخية والهندلية، وسيعرف إلى أي حد من الصرامة، والحرص على النقاء الأوركسترالي، واللحني، قام الكلاسيكيون النبلاء بمَهمتهم.

لكن المفارقة الآن هي: كيف قام الكلاسيكيون بهذا، وهم أصلًا ورثة التقليد؟ كيف قدموا هذا التجديد الجذري، ولا أقل من ذلك في وصفه، برغم كونهم في الحقيقة أسرى التراث؟ في الواقع لم يقوموا بذلك بأيديهم العارية. لقد وقع تحول كبير في المجتمع والثقافة: من عصر العقل في القرن السابع عشر، إلى عصر التنوير في القرن الثامن عشر. كان روح القرن الثامن عشر هو الثورة الثقافية، لا الاجتماعية. كما كانت لهذه الثورة، هذا التنوير، مقدمات ثقافية واجتماعية مهمة، أدت إليه كنوع من التحول الحتمي في مرحلة معينة. لقد استقرت أولًا علاقة الدين بالدولة بعد صراع طويل، دامٍ، وانتصرت حركة العلمنة. انتقلت الإقطاعيات ثانيًا من يد الكنيسة إلى يد النبلاء، وتأسست ثالثًا طبقة من النبلاء الأرستقراطيين، الذين جمعوا بين السلطة والعلم والفن. ثم تأصلت رابعًا علاقة تكافل حيوي موصوفة أعلاه بين هذه الطبقة، وبين مثقفي عصرهم، وتبلور مفهوم حق الإنسان خامسًا بما هو مكتَسَب، في مقابل الحق الإلهي، لكنه كان حقًا لبعض البشر، لا لهم جميعًا؛ فهو حق مكتسب، لا طبيعي. لم يبرز مفهوم الحق الطبيعي بهذه القوة إلا مع الثورة الفرنسية أواخر هذا القرن. كان حق الإنسان في عصر التنوير حق الإنسان عمومًا، لا الإنسان الفرد. لا يمكن تعميم هذه النتيجة بطبيعة الحال على كل الإنتاج الفلسفي في هذا العصر، فالحديث هنا عن الوضع الاجتماعي نفسه، قبل أن تؤتي الكتابات الحقوقية لجون لوك ومونتسكيو وكانط وروسو وفولتير، على ما فيها من عنصرية أحيانًا، ثمارها إبان الثورة الفرنسية. نظرًا لكل هذه التحولات الاجتماعية، فقد تغير الذوق الموسيقي الموروث نفسه. لا يعني هذا أنه لم يعد موروثًا، أو أنه لم تعد له هذه السلطة، بل يعني أن الميراث ذاته قد تبدَّل. هذا هو حل هذه المفارقة من وجهة نظر الكاتب.

النتيجة أن موسيقى النصف الثاني من القرن الثامن عشر، التي برزت فيها تلك الأسماء المهمة في تاريخ الموسيقى وتاريخ الفن، لم تكن مستقلة، أو تتحرك في الفضاء أو بإرادة ذاتية، بل بمزيج من إرادة الفرد من جهة، وإرادة الطبقة المسيطرة من جهة أخرى، بحيث شكل ذلك الجدل، الذي وصل إلى درجة الصراع أحيانًا، مصير الموسيقيين في ذلك العصر، وحدد مسار أعمالهم. علاقة التكافل الحيوي المذكورة أعلاه هي نفسها لب هذه العلاقة بين الموسيقى والدولة في ذلك القرن. قد يحكم البعض ببساطة تتنافى مع الروح النقدية المدققة، ويقول إن هايدن، وموتسارت، قد “دعما” طبقة النبلاء، وقدّما لها جانبًا هامًا من الغطاء الأيديولوجي. لكن الأمر أكثر تعقيدًا، فقد قدم الموسيقيون مساهمتهم في بلورة طبقة الأرستقراط كراعية للفن، لكنهم كذلك استطاعوا الحركة داخل القيود، واستجابوا للتحولات الاجتماعية الكبرى على أرضهم. لو كان كل دور هؤلاء الموسيقيين هو دعم تلك الطبقة، لما برز مثلًا اسم موتسارت، وفرض نفسه، وسط أسماء مهمة أخرى نالت حظًا كذلك من الدعم المادي. بشكل ما يمكن القول إن موهبة موتسارت المبكرة قد فرضت اسمَه في النهاية في سياقه، لأنها لم تقبل التفسير عقليًا، ولا يمكن لأي دعم مادّي أن يحققها دون صفات وراثية معينة، لا يتحكم فيها أحد في ذلك الوقت.

لودفيج فان بيتهوفن | حرب بونابرت ضد بونابرت

حين يفتح القارئ أي كتاب تقريبًا عن العلاقة بين بيتهوفن ولحظته التاريخية، فسيجد غالبًا عبارة بهذا المعنى “علاقة الحب والكراهية بين بيتهوفن وبونابرت”؛ وهي عبارة دقيقة، لا مبالغة فيها، لكنها تقصر كثيرًا عن درجة تعقيد تلك العلاقة.

كما كان بونابرت ابنًا شرعيًا للثورة الفرنسية، كذلك كان بيتهوفن. بدأ بيتهوفن مساره الفني كعازف بيانو، ومرتجِل، متميز. كان كأسلافه السابقين من نبلاء الموسيقى يحظَى برعاية الأرستقراط، بل حظي بها طيلة حياته تقريبًا. إذًا ما الذي اختلفَ في هذه العلاقة من التكافل الحيوي؟ ما الذي تبدل فيها إلى حد أن صار بيتهوفن مرحلة وحده في تاريخ الموسيقى، لا يمكن عادة جَمْعُه بغيره فيها؟ وما الذي أبدل حال المجتمع، وأفقد الأرستقراط قدرًا كبيرًا من سلطتهم على الفن؟ الثورة الفرنسية طبعًا. إن أثر الثورة الفرنسية على العالم كله ملحوظ إلى اليوم، ملحوظ في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان – ١٩٤٨، المشتق من إعلانات الحقوق الفرنسية، والتي انتقلت بطبيعة الحال إلى الولايات المتحدة، التي كانت في مرحلة الاستقلال عن إنجلترا في ذلك الوقت، في صورة إعلانات الولايات لحقوق الإنسان، التي نقدها، ورفضها، بعضٌ من أهم الحقوقيين الإنجليز، مثل جيريمي بنتام بنتام، جيريمي: مقدمة إلى مبادئ الأخلاق والتشريع، ترجمة كريم الصياد، مركز جامعة القاهرة للغات الأجنبية والترجمة التخصصية، القاهرة، ٢٠١٣..

ربما لا يمكن أصلًا حصر عدد مؤثِّرات الثورة الفرنسية، الممتدة إلى اليوم، في كل دول العالم، فضلًا عن تقديم فهم شامل لكيفية ذلك التأثير. لكن أهم تلك المؤثِّرات، وأبقاها، هي المتعلقة بالجانب القانوني-الخُلُقي، أي حقوق الإنسان. لأول مرة في التاريخ صار للعالم روحُ قانون شبه موحَّد، ونظرية في الأخلاق شبه موحَّدَة، وهو إنجاز تاريخي في حد ذاته، فضلًا عن تأسيس فرنسا كقوة اقتصادية وعسكرية كبرى داخل القارة الأوروبية، في مقابل قوة بريطانيا خارجها، وتأسيس فرنسا كإمبراطورية، لم تزل مستمرة إلى يومنا هذا في سيطرتها على اقتصاد بعض مستعمراتها الإفريقية السابقة. كما صحب كل هذا تحولات اجتماعية هائلة بعد هذه الثورة، وتراجع توريث السلطة لحساب الكفاءة، وهو ما ظهر للعيان بوضوح في قوة الجيش الفرنسي المعتمِد على الكفاءة في مقابل قوات بروسيا وروسيا والنمسا، التي اعتبرت بمعيار النبالة. انتصرت الكفاءة – على خارطة أوروبا وأمام الجميع – تجريبيًا على النبالة. في هذه اللحظة ظهر بيتهوفن، وبونابرت، متزامنَين.

حين ظهر بيتهوفن للمرة الأولى على الساحة الفنية لم يكن قط بالشكل المعتاد للموسيقار النبيل، صاحب الصفات الوراثية الراقية. كان قصير القامة، أقرب للقبح، غير مهندم المظهَر، وهي صفات تتعارض مع معايير الفنان الأرستقراطية المعتادة Durant, Will & Ariel, The Story of Civilization (11), Age of Napoleon, Simon and Schuster, New York, 1975.. من قوانين الأرستقراطية العامة استبعاد الضعف والقبح، حتى لو كان وراثيًا. من هنا كذلك نفهم لماذا رفع نيتشه، الذي آمَن بقوة الصفات الوراثية، من شأن الأرستقراط، واعتبرَ الحكوماتِ الأرستقراطيةَ أفضلَ الحكوماتِ. لم يكن بيتهوفن رفيع الأصل، لكنه صار رفيع المقام. كان العامل الوحيد في هذه النقلة من اللا شأن إلى رفعة الشأن، ومن اللا اسم إلى كل الاسم، هو معيار الكفاءة.

لكن هذا العامل كان أكثر تعقيدًا من ذلك. لا يمكن أن نتصور موسيقى بيتهوفن من دون تحولات الثورة الفرنسية الاجتماعية. لو كان بيتهوفن قد قدم سيمفونياته الثالثة والرابعة والخامسة، فقط في بلاط الأرستقراط، لتم استبعاده من قائمة الموسيقيين أصلًا؛ فهي موسيقى تكسر التقليد بجرأة، وأحيانًا بعنف، وتنحاز مباشرة، منذ السيمفونية الثالثة إلى التاسعة، إلى الجمهورية. بل ربما لجرى اعتقاله. لكن ما حدث هو أنّ عرش الأرستقراط قد اهتزّ إلى غير رجعة، وصارت أيامُهم في التاريخ معدودةً، وبالتالي اضطروا هم لأنْ يسمحوا بموسيقى مختلفة، وبموسيقار جمهوري علنًا إلى نهاية حياته، كان يهددهم كلما ضيّقوا عليه بالعودة إلى ألمانيا، الخاضعة لنفوذ بونابرت في ذلك الوقت المصدر السابق.. ما يعني أن بيتهوفن قد استفاد من تأييده للثورة الفرنسية، ومن معارضته لنابليون، في آن. استطاع بيتهوفن أن يتحرك على النقائض بين المعسكرين: الأرستقراطي والجمهوري، وحقق الاستفادة منهما معًا.

من المعروف أن بيتهوفن قد أعجب في البداية بنابليون باعتباره مدافعًا صنديدًا عن مبادئ الثورة الفرنسية، ثم انقلب عليه حين عاد من مصر إلى فرنسا لينصب نفسه إمبراطورًا مطلقًا. هنا بدا الوجه النفعي، الاستغلالي لبونابرت. وفي مقالة سابقة عن بيتهوفن، الفردوس المسموع، قلنا إن ولاء بيتهوفن كان للجمهورية، لا لفرنسا، وكان لمبادئ الثورة، لا لبونابرت. كتب سيمفونيته الثالثة إيرويكا لبونابرت، وكان اسمها في الأصل بونابرت، لكنه أبدل الاسمَ بعد تنصيب هذا الأخير، وهكذا صارت هذه السيمفونية ثورية إلى الأبد. أعتقد أن هذه الحركة على الرقعة الشطرنجية الأوروبية، حركة تبديل اسم السيمفونية، كانت مصيرية بالنسبة لبيتهوفن، وبالنسبة لمسار الموسيقى الأوروبية عمومًا. لو حافظ بيتهوفن على اسمها، لنُظِرَ إلى هذه السيمفونية وسط الجمهوريين باعتبارها تمجِّد الاستبداد والرجعية، بعد ثورة بونابرت المضادة، ولنَظَر نبلاء فيينا، الذين رعوا مسار بيتهوفن الفني، إلى بيتهوفن باعتباره مؤيدًا لعدوهم اللدود والأخطر نابليون. لو لم يبدل الاسمَ، لخسر تأييد الفريقين المتصارعين. ولأن هذه السيمفونية استطاعت أن تحوز على جمهور من المتخاصمينَ، فقد صارت هي إيرويكا، التي نعرفها بكل تأثيرها في تاريخ الموسيقى. لو كانت هذه السيمفونية، بعد كل الجهد الهائل المبذول فيها، قد فشلت، فلربما تراجع بيتهوفن عن مساره الجديد، ولربما تغير كثيرًا تاريخ الموسيقى الذي نعرفه. لا بد أن نعي إلى أي حد كان هذا العمل حجر الأساس في مشروع بيتهوفن الفني ككل.

كان بونابرت أكبر قوة تغيير اجتماعي شهدتها أوروبا في ذلك الوقت، وهزمَ أغلبَ التحالفات ضده؛ وكان بيتهوفن في المقابل أكبر قوة تغيير فني، ربما إلى يومنا هذا. لم يُنسَب لفنان على نحو منفرد كل هذا التأسيس والتبديل في القواعد والأشكال والمضامين في مجاله، بقدر ما ينسَب إلى بيتهوفن. وُلد نابليون قبل بيتهوفن بعامٍ واحدٍ ١٧٦٩، ونشأ كل منهما مهمَل الذكر، بلا حسب أو نسب. كان كل منهما بطلًا بشريًا بلا معجزات إلهية أماديوسية. ثم في سن الثلاثين برز كل منهما في مجاله على النحو السابق. تشابهت البدايات كثيرًا، وافترقت النهايات كثيرًا. نُفيَ نابليون إلى جزيرة إلبا، ثم إلى سانت هيلانة، ونُفِيَ بيتهوفن إلى عالم من الصمت شبه التام. عام ١٨١٥ توفيَ نابليون، أو قُتِل بالسمّ حسب بعض المصادر، وفي العام نفسه فقدَ بيتهوفن البقية الباقية من سمعه، وصار أصمَّ تمامًا. 

بحسب بعض المصادر أيضًا كان صمم بيتهوفن نتيجة للتسمم بالزرنيخ، الزرنيخ ذاته الذي قتَلَ بونابرت. مع ذلك توفي نابليون مهزومًا، وتوفي بيتهوفن منتصرًا بعد سيمفونيته التاسعة. كان السبب في هزيمة نابليون هو نفسه سبب صعوده: الثورة. لقد انهزم نابليون حين خان الثورة، وفقد تأييد الشعوب الأوروبية له، بل تأييد كثير من الفرنسيين أنفسهم، الذين رأوا فيه طغيانًا جديدًا. سنرى أن هذه هي الصورة بالضبط، التي قدمها بيتهوفن لنابليون في إيرويكا. في الواقع يمكن القول إن بيتهوفن قد انتصر على المدى البعيد حين هَزَمَ بونابرتَ بشطب اسمه من عنوان السيمفونية.

تبدأ إيرويكا بالصعود في الحركة الأولى، يليه الموتُ في الحركة الثانية: المارش الجنائزي. ليس لدينا من القرائن – بعيدًا عن الإيغال في التأويل – ما يسمح بتفسير تفصيلي لهذا التتابع الغريب، لكنْ لدينا بالتأكيد ما يسمح بالتساؤل: هل أراد بيتهوفن أن يقول إن الفرد زائل، والمبادئ باقية؟ هل الانتصار في نهاية السيمفونية انتصارٌ للمبادئ، لا الفرد البطل؟ من طبيعة البطولة، بما هي بطولة، أن تنتهي بالموت. ليس الخالد بطلًا، ببساطة لأنه غير مهدد وجوديًا بالموت. البطولة إذًا للفانين، أو كما قال المسرحي الفرنسي الكبير جان جيرودو في لن تقع حرب طروادة: “كي تصير خالدًا، يجب أن تنسَى أنكَ فانٍ”. إذا كان الفرد بطلًا حقًا، فلا بد أنه يعرف حقيقة فنائه في يوم ما، ويتجاهلها بإصرار.

على أية حال، من جهة التأويل الموضوعي، قدّمَ بيتهوفن لنا بالتأكيد صورةً مثالية عن بونابرت، وعن البطل في هذا العمل. هي الصورة نفسها، التي فارقها بونابرت نفسه بعد ذلك، بمجرد الانتهاء من وضع السيمفونية تقريبًا، أشد المفارقة. من هنا نستطيع أن نميز بين البطولة المثالية من جهة، وبين واقع الحال من جهة أخرى، بين البطولة والبطل. هكذا وضع بيتهوفن بونابرت المثالي في مواجهة بونابرت الواقعي، وأعلنَ الحربَ على نابليون بنابليون نفسه؛ فلا يهزم شخصًا كنابليون سوى نفسه. من العدل كذلك أن نصف هذه السيمفونية في جانب منها، على الأقل في جانبها التكويني، أي مرحلة كتابتها، كاستجابة إيجابية للبروباجندا النابليونية، وقد كان بونابرت بارعًا في الدعاية على كل حال. ربما وصلت هذه الصورة المثالية إلى بيتهوفن عن طريق هذه الدعاية، ومارست دورها في الإبداع كإلهام. 

فاجنر، سيبيليوس، شتراوس، أورْف | موسيقى النازية

نصل هنا إلى عنوان مخيف في حد ذاته، هو موسيقى النازية، القومية الاشتراكية الألمانية، سواءً قبل قيام الرايخ الثالث، أو إبّان قيامه. المفارقة أننا لا نستطيع الولوج إلى هذا الموضوع دون استدعاء بيتهوفن، والعلاقة هي الموسيقى البطولية، فهذا النوع من الموسيقى قد أسسه بيتهوفن تأييدًا لمبادئ الثورة الفرنسية، ثم استُعمِلَ بعد ذلك ضد هذه المبادئ تمامًا على أيدي النازيين الأربعة الكبار في الموسيقى الكلاسيكية: ريتشارد فاجنر، يان سيبيليوس، وريتشارد شتراوس وكارل أُورْف. 

كان دور الموسيقى البطولية في دعم الحركات الفاشية في أوروبا دورًا فعّالًا. دور مزدوج يعيش في علاقة تكافل حيوي جديدة كذلك، إذ دعمت الموسيقى البطولية فاشيات أوروبا الوليدة من جهة، كما دعمتها تلك الفاشيات في الوقت نفسه. مع أفول نجم بونابرت، وانكماش أثر الثورة الفرنسية النسبي في أوروبا، ووفاة بيتهوفن، كان يمكن لهذه الموسيقى البطولية أن تنحسر بدورها، لولا صعود الفاشيات التدريجي منذ أواخر القرن التاسع عشر، وبدايات العشرين. لقد وجدت الفاشية أغنيتها الخاصة المميزة في الموسيقى البطولية. هنا تبرز ثلاثة أسماء مهمة في مرحلة ما بعد الرومانسية: يان سيبيليوس وريتشارد شتراوس وكارل أورف. هناك اسم بالغ الأهمية كذلك – من الرومانسية المتأخرة – في هذا السياق، هو ريتشارد فاجنر، الذي – كما هو معروف وثابت بقلمه – كان نازيًا قبل النازية، أي قوميًا اشتراكيًا معاديًا للسامية. لكن أغلب أعماله لم تعاصر ذلك الصعود الصاروخي للقوميات المتطرفة، وإن بقيتْ معبّرة بوضوح عن موضوع البطولة القومية الآرية، خاصةً أوبراته المتخَذة من أساطير الشماليين كرباعية النيبيلونج: ذهب الراين، الفالكيري، سيجفريد، وأخيرًا غَسَق الآلهة.

لكن الأهم هو تلكم الأسماء الثلاثة، التي عاصرت الرايخ الثالث: سيبيليوس وشتراوس وأورْف، واجتمعت لنصرة النازية. من الثابت والمعروف أنه في عام ١٩٣٤ قبِلَ سيبيليوس تعيينَه في منصب نائب رئيس المجلس الدائم للتعاون الدُّوَلي للمؤلفين الموسيقيين في ألمانيا النازية مع كل من ألبير روسيل وأدريانو لوالدي. أما رئيس ذلك المجلس، الذي كان سيبيليوس نائبَه، فكان ريتشارد شتراوس الذي تولي كذلك رئاسة غرفة موسيقى الرايخ، عام صعود هتلر للسلطة ١٩٣٣. أما كارل أورف فهو مؤلف ترنيمة النازي الأساسية: كارمينا بورانا، التي كانت أهم مقطوعة احتفي بها النازي في قمة صعوده، وقد وضعها أورف بين ١٩٣٥ و١٩٣٦، وعزفت لأول مرة في فرانكفورت عام ١٩٣٦. 

كان دعم النازي لهؤلاء الموسيقيين، ودعمهم له، مفهومًا في سياقه التاريخي، فقد خصصوا أعمالًا كثيرة، قد تزيد على نصف ما قاموا بتأليفه، وهم مؤلفون محترفون، إما لمعالجة تيمات قومية صريحة، أو تعبيرًا عن قيم التفوق والإنسان الأعلى النيتشوي بوضوح. وضع أورف كارمينا بورانا المأخوذة من التراث الآري القروسطي، النابذة لقيم المسيحية وبالذات العفة والتسامح، والتي ألف كلماتها الجوليارد، مجموعة من الرهبان المارقين، الثائرين على الكنيسة الكاثوليكية بسبب فشل الحملات الصليبية بين القرنين الثاني عشر والثالث عشر. وألف سيبيليوس المتتاليتين الفولكلوريتين، والسيمفونية الثانية، وكولرفو (السيمفونية الكورالية) والقصيد السيمفوني تابيولا، وكلها مأخوذة من التراث الشمالي، أما ريتشارد شتراوس فهو مؤلف القصيد السيمفوني الشهير، ربما الأشهر: هكذا تكلم زرادشت، بمقدمته البطولية المُدَمْدِمَة الهائلة، وسيمفونية جبال الألب، التي عنونها باسم عدوّ المسيح، وهو عنوان آخر لنيتشه. تتضح في كل تلك الأعمال تيمة مخاصمة المسيحية من جهة، والصعود بالتراث القومي، الآري-الشمالي بالذات. وُضعت كل هذه الأعمال، وأكثر، في سياق النازي، أو لخدمته بشكل غير مباشر.

يمكن القول إن تعاون الموسيقيين البطوليين مع الفاشية هو السبب في أن هذا النوع من الموسيقى لم يعد مطروقًا كما كان، وذلك بعد هزيمة الفاشية. بعد سقوط النازي، وانهيار الرايخ الثالث، وبعد تورطه في جرائم وحشية ضد الإنسانية، ارتبطت هذه الموسيقى عمومًا بتلك الأيديولوجيا المهزومة، والتي تسببت في دمار أوروبا على كل المستويات، ووقوعها غربًا تحت النفوذ الأمريكي، وشرقًا تحت الستار الحديدي السوفييتي لزمن طويل.

المعروف أن النازيين قد حاولوا إعادة تأويل بيتهوفن تأويلًا قوميًا، لكنهم فشلوا في ذلك بوضوح، فبينما هم يعزفون أعمال بيتهوفن تمجيدًا للروح الآري، كان الحلفاء، في الوقت نفسه، يذيعون افتتاحية السيمفونية الخامسة لبيتهوفن شعارًا في وجه النازي؛ حيث كانت تيمة دائمة لإذاعة بي-بي-سي البريطانية أثناء الحرب، كما عُزِفتْ بفيينا أوبرا فيديليو، الأوبرا الوحيدة لبيتهوفن، بعد هزيمة النازي احتفاء بالخلاص من سيطرة الرايخ على النمسا. المعروف كذلك أن ألحان بيتهوفن لنشيد شيللر، الحركة الرابعة من تاسعته، هي النشيد الرسمي اليوم للاتحاد الأوروبي. من المعروف أيضًا أن بيتهوفن كان جمهوريًا على مبادئ الثورة الفرنسية، حتى وهو يؤلف في بلاط نبلاء فيينا، وهدد أكثر من مرة بالانسحاب من فيينا، التي كانت تحت سيطرة بونابرت بشكل غير مباشر في ذلك الوقت، بعد أن حلّ بونابرت الرايخ الأول عام ١٨٠٦. ومن المعروف أخيرًا أن بيتهوفن قد وضع تنويعات على أوراتوريو يهوذا المكابي لهاندل عام ١٧٩٦. يهوذا المكابي زعيم يهودي، قاد تمردًا ضد الدولة السليوقية، إحدى الدول التي انقسمت إليها إمبراطورية الإسكندر الأكبر، بين عامي ١٦٠-١٦٧ ق.م. من العسير نوعًا تأويل هذا العمل مثلًا تأويلًا نازيًا.

هذا عن الجانب المضموني لموسيقى بيتهوفن البطولية، فماذا عن الجانب الأسلوبي؟ في حقيقة الأمر فإن الجانب الأسلوبي هو الأميز، والأهم. استمعْ إلى الحركة الأولى مثلًا من سيمفونيته الثالثة لتدرك الفارق. إنها ليست موسيقى قوية فحسب، هي في مقام البطولة الأهم (مي بيمول الكبير)، وهي تستعمل النحاسيات بوضوح بارز ولافت. إذا وضعناها في سياق أعمال بيتهوفن تاريخيًا، وسياق تراث الموسيقى الكلاسيكية قبله ككل، فبيتهوفن هو الذي أعطى للنحاسيات (كالكورنو، والترمبون، والترومبيت، والتوبا) هذه الأهمية في المؤلفات السيمفونية، بعد أن كانت مجرد لمحات خاطفة مصاحبة للوتريات والخشبيات عند موتسارت وهايدن. استمع إلى دور الكورنو وحده في هذه الحركة لتدرك الفارق، فهو يكاد يكون صوت نابليون نفسه، وهو يثير الأوركسترا قرب ختام الحركة، لتعزف اللحن الأساسي كاملًا للمرة الأولى. كل هذا صحيح، لكن الاختلاف الأهم في طبيعة التفاعل بين الألحان، وهوية الألحان نفسها. 

تنقسم الحركة طبقًا لصيغة الصوناتا إلى أقسام ثلاثة رئيسة: العرض، التفاعل، إعادة العرض، ثم كودا (تذييل). وبينما يستعرض قسم العرض الألحان الأساسية القوية، المتفجرة بالفرحة والانتصار، ثم ينتهي، يدخل قسم التفاعل العصيب، في المقام الصغير، المخيف والحزين، تدريجيًا، كلون قاتم يتسرب إلى بياض السماء الشاهق. نستمع في قسم التفاعل إلى ضربات كالسيف، تليها نبضات كالقلب، ثم تنويعات مميزة مختلفة، على اللحن الأول البطولي، الذي تبدأ به الحركة. هذه التنويعات هي أرقّ ما ألّف بيتهوفن في رأيي، لكن رقتها لا تبدو إلا جوار أشرس ما وضعه من موسيقى كذلك في هذه الحركة. بصفة عامة يمكن القول إن بيتهوفن قد حاول – بنجاح – إظهار الجانب “الرهيف في الإرهاب، والرهيب في الإرهاف”، إن جاز التعبير. حاول بيتهوفن أن يُظهِر الجانب الهش الإنساني من البطل، هذا الجانب، الذي هو من أسباب معاناة البطل، وهو يتقدم، ليطأ مشاعره هو حين يطأ الأرض التي فتحها. الواضح لكل مستمِع تلك الأجزاء الرقيقة، الحزينة، والأنيقة مع ذلك، كجمال أميرة نائمة من عالم ديزني، والمتحدة بصياغة عبقرية مع أهوال أسطورية، ومارشات عسكرية، وهتافات جماهيرية، وخفقات الرايات الثورية. هذا المزيج من الفروسية والبراءة لم يصنعه سوى بيتهوفن، ولم يقدمه فقط في ثالثته، بل في كل أعماله البطولية، فهو طابع عام مميز لموسيقاه في هذه المرحلة. 

هذه الأناقة والرقة هي ما نفتقده تمامًا في أعمال فاجنر وأورف وشتراوس، وسيبيليوس وبروكنر، ولِيسْت وتشايكوفسكي ورحمانينوف، البطولية. لا تربو تلك الأعمال على كونها صرخات أوركسترالية نحاسية، مصحوبة بألحان انتصارية، قد تَظهر فجّة في بعض الأحيان، لدرجة أن النحاسيات فيها قد صارت أقرب إلى أوركسترا مُوَازية؛ مِن التطرف في الاتّكاء عليها، وكأن البطولة بطولة الآلة. استمع إلى الحركة الأولى من خامسة سيبيليوس لتدرك الفرق: فالنهاية الانتصارية للحركة، والتي تأتي بعد إنماءات غزيرة، طويلة، مع ذلك – أي رغم طول فترة الإنماء – تظهر الكودا الانتصارية بشكل مفاجئ، وصادم للأذن والعقل، ومنبتّ الصلة تقريبًا بما يسبقه، كأنما هي دخيلة على العمل، ومقصوصة، ثم ملصوقة في هذا الموضع من حركة أخرى (وقد دمج المؤلف فعلًا الحركة الثالثة مع الحركة الأولى بعد تعديلات عدة للسيمفونية، لتصير من ثلاث حركات فقط، لا أربع). 

استمع كذلك إلى الحركة الرابعة الانتصارية في كل من رابعة تشايكوفسكي وثانية رحمانينوف. انظر إلى هذا الانتصار المفاجئ غير المتوقع، ولا المدبَّر له. في السيمفونيتين المذكورتين أخيرًا تأتي الحركة الأخيرة انتصارية بعد حركة ثالثة لا توحي بما هو قادم، ولا تمهد له، ولا تتصل به بأي شكل، مجرد انتصار على سبيل المصادفة. في المقابل قارنهما بالحركة الرابعة من خامسة بيتهوفن، التي تتصل – دون فاصل صامت – بالحركة الثالثة. تعبر الحركة الثالثة من خامسة بيتهوفن عن روح الصراع، وهي مبنية أصلًا على معكوس جملة الحركة الأولى المميزة الشهيرة، كأنما هي طرقات الإنسان المتحدية لطرقات القدَر المهدِّدة، ثم تتفكك الحركة إلى بيتسيكاتّو (عزف متقطِّع)، ويسود الهدوء، ليبدأ الطبل تدريجيًا في عزف إيقاع الحركة الثالثة، ثم تندمج طرقاته ليدخل بنا إلى إيقاع الحركة الرابعة، مع تحول المقام من دو الصغير الكئيب المفزِع، إلى دو الكبير الانتصاري القوي، كل هذا بشكل تدريجي، كأنه فوران تلقائي من الهدوء والانسيابية إلى الذروة المتفجرة، ثم تسود ألحان الحركة الرابعة، وتستقر. كل هذا بشكل أبسط كثيرًا، وتوزيع أوركسترالي أقل وانسيابية أَتَمّ، مما يقدمه لنا سيبيليوس أو تشايكوفسكي أو رحمانينوف. هذا الفارق فعلًا بين موسيقيي الدرجة الأولى كيوهان سيباستيان باخ، وهايدن وموتسارت، وبرامز وشوبرت، من عمالقة التركيب، وهؤلاء الموسيقيين من الدرجة الثانية، رغم عظمتهم التي لا شك فيها، والذين رغم أهميتهم لا يمكن لهم دخول منافسة في هذا المجال مع بيتهوفن.

الفروسية، والبراءة شبه الطفولية، وتناغُم المذكر والمؤنث، والأناقة مع القوة، والانتصار والمحنة والألم، كل هذا المزيج يصنع في النهاية – عند بيتهوفن – طابعًا لا تخطئه الأذن من الفداء والاستشهاد. هذا العنصر الأخير (الفداء) هو المفقود الأساسي في بطولات غيره من التالين عليه، وهو البلوَرَة النهائية للبطولة البيتهوفنية. هو ما يمثُل أمامنا على هيئة مدرستين للموسيقى البطولية: الأولى هي مدرسة الفروسية، كما يمكن أن نسميها وبما تشمله الفروسية كتعبير عن معانٍ خُلُقية، تدمج بين القوة والفداء، وتظهر فيها قيمة البطل الخلقية، والثانية هي مدرسة القوة، التي هي أقرب إلى تعبير موسيقيّ عن ذلك الجانب من فلسفة نيتشه: القوة المحضة للفرد البطل. وتلخيص الفارق بينهما أنّ مدرسة الفروسية لا تهدف إلى إظهار قوة البطل فحسب، بل معاناته وتجربته، وصلابة إرادته، أما مدرسة القوة فتميل إلى بيان قوة البطل بشكل أساسي. ولا مراء في أن تلك الأخيرة، مدرسة القوة، سوف تعتبَر سطحية إلى حد كبير بمقارنتها بمدرسة الفروسية، ليس فقط موضوعيًا، بل كذلك أسلوبيًا كما رأينا أعلاه. لكن، على كل حال، مقارنة الموسيقيين عمومًا مع بيتهوفن مقارنة ظالمة نوعًا، ربما عدا أساتذته من باخ إلى موتسارت، وتلامذته الأساسيين كشوبرت وبرامز وشومان. 

الحرب الباردة | الأبيض والأحمر في موسيقى القرن العشرين

تعرضنا في مقالة حروب الموسيقى الباردة لطبيعة الصراع البارد في القرن العشرين بين أطروحتين أساسيتين في الموسيقى: أطروحة الواقعية الاشتراكية السوفييتية، التي انتهت إلى التنوع داخل النظام، وتجديد الشكل مع الحرص على تقديم مضمون (بخلاف الموسيقى المطلقة)، وأطروحة مضادة تذهب إلى أن الموسيقى فن التلاعب البحت الشكلي، دون مضمون، وهو ما يتفق ومفهوم الموسيقى المطلقة. يمكن القول إن الموسيقى الروسية انتهت موضوعية، بينما انتهت الموسيقى الغربية لا-موضوعية. كان لهذا أسبابه التاريخية على الجانبين: فقد اعتنق الاتحاد السوفييتي الناشئ سياسة موسيقية معينة، تقضي بضرورة التعبير عن الواقع الثوري نتيجة للثورة البلشفية، والتي دعمها – إلى حين – انتصارُ السوفييت على النازيين في الحرب العالمية الثانية. على الجانب الآخَر شعر الأوروبيون بخطر الموسيقى الموضوعية، التي اعتنقها النازيون، وذلك بعد اندحار الرايخ الثالث من جهة، وتدمير أوروبا من جهة أخرى. كان هذا بالتالي سببًا تاريخيًا في نبذها غربًا. 

ما يمكننا أن نضيفه إلى هذه المقالة المذكورة أعلاه في سياقنا الحالي هو أن ذلك الصراع الأبيض / الأحمر في القرن العشرين لم يكن مميزًا بما هو صراع بين أطروحتي الموسيقى الموضوعية، والموسيقى اللا موضوعية، بل كان – كما رأينا فيما سبق من هذه المقالة الحالية – مجردَ حلقةٍ في سلسلة طويلة، بدأناها مع يوهان سيباستيان باخ في القرن السابع عشر. ما ميز هذا الصراع في القرن العشرين في الواقع أمران: الأول كونه واضحًا وعالميًا إلى هذه الدرجة مع وضوح الاستقطاب العالمي بين المعسكرين، الاشتراكي والليبرالي. أما الأمر الثاني فهو التطور التاريخي بظهور مذهب الواقعية الاشتراكية نفسه. لم يكن بيتهوفن مثلًا ليتصور ألّا تكون إيرويكا، سيمفونية الثورة الفرنسية، نهايةَ التاريخ. في ذلك العصر، أوائل القرن التاسع عشر، لم يكن أحد يتخيل أن تُفضِي الثورة الفرنسية نفسها إلى ثورات أخرى مختلفة تمامًا في الأيديولوجيا. 

مع ذلك، وبتطبيق الفهم الجدلي للتاريخ، حملت الثورة الفرنسية نفسها تناقضات أساسية، أدت إلى تجاوزها كمرحلة. لم تكن الثورة الفرنسية ثورة واحدة في الحقيقة. يُنظَر عادة، بشكل غير دقيق، إلى الثورة الفرنسية بما هي ثورة البرجوازية الليبرالية، بالشكل الذي وصفناه أعلاه في فقرة بيتهوفن خصوصًا. لكن الوقوف عند هذا الحد لا يرسم لنا صورة كاملة لهذه الثورة. لقد كان التيار الغالب فيها هو الجناح الليبرالي، لكن كي يتغلب هذا الجناح، ويسود بما هو التيار الأساسي لهذه الثورة، فقد استبعدَ الجناحَ الشيوعي فيها. قام ليبراليو الثورة الفرنسية، كما هو معروف تاريخيًا، بإعدام أعلام الجناح الشيوعي فيها بقيادة جراكوس بابوف، أو ما عُرف بمؤامرة الأكفاء Cole, G. D. H., A History Of Socialist Thought, Vol. I ’The Forerunners’ 1789-1850, MacMillan & Co., London, 1953, p. 19.. هكذا ظهر أول انقسام واضح في الثورة الفرنسية بين يمين أبيض سائد، ويسار أحمر مقموع؛ وهكذا كان لا بد لهذا اليسار المقموع من ثورة تجبّ الثورة الفرنسية نفسها، ألا وهي الثورة البلشفية ١٩١٧، التي وقعت بعدها بأكثر من قرن وربع القرن. تغيرٌ هائل في مسار التاريخ، لم يكن ليتوقعه أحد إبان الثورة الفرنسية، أدّى إلى تبدل كبير كذلك في مسار تطور الموسيقى في القرن العشرين.

أيضًا، أمكنَ لنا في مقالة حروب الموسيقى الباردة تلخيص الصراع الموسيقي في القرن العشرين بين مؤلفين هامين: ديمتري شوستاكوفيتش (+١٩٧٥) على الجانب الاشتراكي، وإيجور سترافنسكي (+١٩٧١) على الجانب الليبرالي. قدم الأول تطبيقًا، بينما قدم الثاني تطبيقًا، وتنظيرًا. على أية حال فإن قوة إسهام الروس في الموسيقى لا تقل عن قوة إسهامهم في الأدب؛ حتى أن كلًا من هذين المؤلفين كان من أصل روسي. من الغريب، وغير المتوقع في القرون السابقة، أن يمثّل الروس آخر مراحل تطور الموسيقى الكلاسيكية، بعد أن أسسها الألمان والطليان، وبعد عقود طويلة من اعتماد الروس على الأشكال وقواعد التأليف الألمانية. يبرز هنا سؤالان متعلقان بتاريخ تطور الموسيقى الكلاسيكية: متى انتهت المدرسة الألمانية بالضبط؟ ومتى انتهت الموسيقى الكلاسيكية عمومًا؟

قبل محاولة الإجابة علينا أن نفهم أن مثل تلك التحديدات التاريخية لا بد من أن تكون تقريبية؛ فالمدرسة مفهوم واسع، يضم عددًا من المؤلفين، قد يمثل بعضهم امتدادًا يعتد به، وربما يمثل بالعكس قطعًا لهذا الامتداد بشكل ما. في محاول إجابة السؤال الأول يبرز اسم ريتشارد فاجنر (+١٨٨٣)؛ فهو الذي وصل بالموسيقى الألمانية إلى نهايتها لثلاثة أسباب أساسية من وجهة نظر الكاتب: الأول أنه استنفد فعلًا أغلب الإمكانات التأليفية والتوزيعية التي تعلمها، ثم طورها في سياق الموسيقى الألمانية، والثاني أنه حوّل الموسيقى إلى خطاب؛ أي أن الموسيقى لم تعد منفصلة عن الذات المبدِعة والذات المتلقية، وصارت تراعي آليات الخطاب وتوصيل المضمون، وصارت بالضرورة موضوعية. السبب الثالث أنه فكّكَ عمليًا عمود التأليف – استعارة من عمود الشعر – بمعنى أنه قدّمَ موسيقى لا تعتمد على جمل لحنية واضحة، ولا إنماءات معقدة مهمة. 

إذا وضعنا إيرويكا بيتهوفن مثلًا في سياق مقارن مع رباعية النيبيلونج لفاجنر، لوجدنا أن إيرويكا عمل بالغ التعقيد لأسباب غير مفهومة، ويتضمن قدرًا هائلًا من التلاعب الشكلي والألحان، التي لا تعبيرَ محددًا لها. لهذا السبب لم يشغل فاجنر نفسه كثيرًا بوضع أعمال موسيقية خالصة منبتة الصلة بالشعر والتمثيل والمضمون الأدبي، وجاءت أغلب أعماله، وأهمها، في شكل الأوبرا. هذا إلى حد أننا قد ننظر أحيانًا إلى فاجنر ككاتب مسرحي؛ بحيث لا يمكن على الإطلاق فصل موسيقاه عن مضمونها الأدبي، وعن الشعر، الذي كان هو نفسه يكتبه لأوبراته، إلى درجة أنه دخل كاسْمٍ هام في طابور الشعراء الألمان المزدحِم Rothmann, Kurt, Kleine Geschichte der deutschen Literatur, Reclam, 1978, S. 107-114..

كل ذلك أدّى إلى عبثية محاولة إنعاش الموسيقى الألمانية؛ فقد استنفد فاجنر الهارموني إلى أقصى حدوده، وفكك الشكل، واستغنى عن اللحن، ولم يعد للشكل في ذاته قيمة كبيرة، بل المضمون. هكذا أتتْ الرومانسية على نفسها في آخر مراحلها. بهذا يمكن القول، من منطلق استقرائي بحت، إن فاجنر كان آخر الرومانسيين الألمان، ولم نسمع عن موسيقار ألماني، أو نمسوي، كبير بعده. صحيح أنه عاصر الناقد النمسوي هانسلك، وأن هانسلك قد قدم نظرية مضادة تمامًا، كما رأينا في تقديم المقال، لكنه – هانسلك – لم يجد تطبيقًا في عصره لما يقول، وتخير نماذجه من الموسيقى الخالصة في كل ثنايا كتابه عن الجميل الموسيقيّ من أعمال، تعتبَر بالنسبة لعصره هو موضة قديمة نوعًا. 

مع تحول الموسيقى الكلاسيكية عمومًا في القرن التاسع عشر في إطار الرومانسية المتأخرة، خاصة مع صعود القوميات في أوروبا إلى خطاب، وهي الظاهرة التي لمحها سترافنسكي في بلاغة الموسيقى، وإنْ كان قد خلعها على موسيقى القرن العشرين بالذات، فقد خسر الشكلُ أهميتَه، ولم تعد هناك قيمة كبيرة في المحافظة عليه، أو استعادته أو تطويره، مقارنةً بالمضمون. لكن الشكل ظل يحتفظ بمكانته في الموسيقى السوفييتية، خاصة على يد شوستاكوفيتش، وربما كانت هذه هي أهميته الأساسية في تاريخ الموسيقى الكلاسيكية الممتد من القرن السابع عشر حتى الربع الثالث من القرن العشرين. قد نَكره موسيقاه، لكننا لا نستطيع أن ننكرها. قد نراها مظلِمة، آليةً ومخيفةً وقبيحة، لكننا لا ننفي ما فيها من تطوير كبير في الشكل، وتقنيات الإنماء. قد نرى في موسيقى خصيمه، وقسيمه، سترافنسكي جملًا لحنية أجمل، وتلاعبًا فائقًا بها، وتمكنًا حقيقيًا من التأليف، لكننا سنجدها خلوة تقريبًا من الخطاب. هذا على أية حال توصيفه هو – سترافنسكي – لمفهومه عن “بلاغة الموسيقى” Stravinsky, Igor, Poetics of Music in the Form of Six Lessons, translated by Arthur Knodel and Ingolf Dahl, Harvard University Press – Cambridge, 1947..

يمكن إذًا القول إن الموسيقى الكلاسيكية قد استمرت في روسيا، وحققت التوازن أخيرًا بين الشكل والمضمون. قد نرى في إيرويكا مثلًا هذا التوازن، لكن مضمونها غير مباشر، وربما تقع على الحافة بالضبط بين الموسيقى الموضوعية واللا موضوعية Mendl, Robert W., ’The Eroica Symphony’, The Musical Times, Vol. 65, No. 972 (Feb. 1, 1924), pp. 125-127.. إن قيمة الشكل عند السوفييت لم تكن في استدعاء شكل قديم، أو المحافظة على الشكل عمومًا، بل في تطوير الشكل وتوظيفه إلى جانب المضمون. بعد وفاة شوستاكوفيتش، الذي توفي بعد سترافنسكي ببضع سنوات، وبعد وصول المشروع الاشتراكي العالمي بقيادة الاتحاد السوفييتي إلى طريق مسدود، أدى بعد أقل من عقدين إلى تفكيك الاتحاد السوفييتي نفسه، وتحول النظام الاقتصادي في الصين إلى نظام رأسمالي مُموَّه، دخلت أطروحة الموسيقى الحمراء في مرحلة الموت الإكلينيكي، ثم انتهى الاستقطاب العالمي بنهاية الماركسية على أرضها. 

لمّا كانت الموسيقى الكلاسيكية في القرن العشرين قد قامت أساسًا على هذا الاستقطاب في عصر ما بعد الحداثة، وتفكُّكِ الأشكال، فقد انتهت بنهاية ذلك الاستقطاب. حاليًا، في الربع الأول من القرن الحادي والعشرين، يمكن لموسيقار أن يصوغ سيمفونية أو صوناتا، لكنه لن يفعل ذلك في السياق نفسه على الإطلاق، الذي كان للسيمفونية أو الصوناتا في القرن الثامن عشر أو التاسع عشر، أو حتى منتصف القرن العشرين. لقد صارت كل الأشكال في عصر ما بعد الحداثة “تجربة”، يمكن لنا أن نجربها أحيانًا، كما يمكن لنا أن نفسخها فسخًا، ولن يضايقنا أحد. لن ينظر ناقد كبير ما بعين الاعتبار لسيمفونية، كونها “تراعي” قواعد التأليف، حتى لو راعتها، ولن ينظر باعتبار كذلك لسيمفونية تكسر بعض قواعد التأليف، كونها جديدة، أو مبتكَرة. 

وقع هذا التحول في الفن ككل؛ فبإمكان الشاعر العربي اليوم أن “يجرِّب” الشكل العمودي، وأن ينتقل منه – في الديوان نفسه – إلى شكل التفعيلة، أو قصيدة النثر. سيرى النقادُ مهارته في “التنقُّل” بين الأشكال، وفي مدى إجادته في كل شكل منها، لكنه لن يكون السياق نفسه الذي كان في مرحلة الكلاسيكية الجديدة، أو مرحلة الشعر الحر، أو مرحلة ثورة قصيدة النثر. بالتالي قل كثيرًا دور النقاد في كل الفنون، وباستطاعة الموسيقار، أو الشاعر أو الروائي، اليومَ أن يصير فنانًا بارزًا، لكنْ ليس على أساس التقييم النقدي، بل التقييم الجماهيري: كم نجمة ربحها كتابه على موقع جود ريدز؟ أو كم إعجاب حصل عليه في موقع فيسبوك؟ أو كم طبعة صدرت من كتابه؟ أو كيف جرى استثمار الموسيقى، أو الرواية، في السينما؟ وهو ما ينتقل بنا من التسليح إلى التسليع: من الموسيقى كسلاح أيديولوجي إلى الموسيقى كسلعة.

أدورنو والموسيقى اللا مقامية | اقتصادات الموسيقى

تحدثنا كذلك بشأن فلسفة تيودور أدورنو (+١٩٦٩) في الموسيقى بقدر أكبر من التفصيل في مقالة حروب الموسيقى الباردة. تتلخص هذه الفلسفة في سؤالين: كيف يمكن اعتبار الموسيقى لغة؟ وكيف يجري تسليع الموسيقى في العالم الرأسمالي بما هي لغة؟ بالنسبة للسؤال الأول يرى أدورنو – بعد مقاربة لسانية تفصيلية – أن ممارسة لغة الموسيقى هي أداؤها، وأننا كي نفهم ما تعنيه الموسيقى، علينا أن نؤديها. أما كل التشابهات المزعومة بين المدونة الموسيقية والنحو الموسيقي من جهة، وبين اللغة الفونوجرامية (التي نتكلمها ونكتبها)، ونحوها، هو تشابه شكلي لا يعني الكثير. حين ننظر إلى العمل الموسيقي باعتباره “يقول شيئًا” فهو نتيجة لتوظيفه، لا لتركيبه. نحن إذًا من يصنع لغة الموسيقى، ونتكلم باسمها، لكن الموسيقى نفسها لا تتكلم. أما بالنسبة للسؤال الثاني فهو الأهم في سياقنا الحالي؛ لأنه الذي يربط الموسيقى بالتاريخ.

يرى أدورنو أن السينما كانت الأداة الأساسية لاستثمار الموسيقى ماديًا. في الواقع إن السينما هي الآلية الأساسية في رأي الكاتب لاستيعاب كل الفنون في عملية تسليع شاملة؛ ففيها الأدب، وفيها فن الحركة، وفيها الفن التشكيلي، وفيها أخيرًا الموسيقى. إن موسيقارًا مثلًا كإنيو مورِّيكوني، أو نينو روتا أو مايكل جياكّينو أو داريو ماريانيللي، لم نكن لنسمع عنه إلا بسبب السينما. بيد أن أدورنو يلاحظ نوعًا واحدًا من الموسيقى يستعصي على الاستثمار المادي، هو الموسيقى اللا موضوعية، اللا مقامية، كبعض أعمال سترافنسكي وديمتري شوستاكوفيتش، وأعمال أرنولد شونبرج. ذلك أن مثل هذه الموسيقى “غير مفهومة”، أي بلا مضمون يمكن نقله باللغة، وليست خطابًا بشكل عام، ومن الصعب أن نستنطقها. ما يعني صعوبة تحويلها إلى موسيقى تصويرية تناسب مشهدًا بعينه. لقد قامت شركة ديزني بتحويل بعض الأعمال اللا موضوعية، مثل كونشرتو البيانو الثاني لشوستاكوفيتش، إلى أفلام، لكننا نعرف ونحن نشاهد ونسمع أن هذه الموسيقى قد تناسب دراما هذا الفيلم أو غيرها، قد تنطبق على هذا المشهد، وعلى غيره كذلك، ولهذا – مع الإمكان المطلَق – تَنتُج لدينا الاستحالة المطلقة. بعبارة أخرى أوضح: تضع هذه الموسيقى نفسَها في موضع اللا تعيُّن الدلالي الدائم.

نلاحظ أن أدورنو كان معاصرًا لشوستاكوفيتش وسترافنسكي، وقد توفي في تاريخ مقارب لهما، قبل وفاة سترافنسكي بعامين فحسب. ما يعني أنه كان يحيا في عالم مختلف كثيرًا عن عالم اليوم، عالم كان فيه مؤلفون كلاسيكيون محترفون، يجددون في الشكل، ولهم قوائم طويلة من السيمفونيات والرباعيات والكونشرتوات. أما عالم اليوم فلا يعرف فيه المتلقّي موسيقى إلا إذا كانت لحنًا لأغنية شهيرة، أو موسيقى تصويرية لفيلم شهير. يعني أن فرضية أدورنو بخصوص “موسيقى تستعصي على الاستثمار الرأسمالي” قد أثبتت فشلها عمليًا بالاختبار التاريخي. 

نهاية الموسيقى

يمكن لنا القول، بناءً على كل ما سبق، أن تاريخ الموسيقى الكلاسيكية قد اتجه تدريجيًا من التعقيد الشكلي اللا موضوعي عند باخ إلى البساطة الموضوعية في موسيقى السينما؛ وبينما كانت الكنيسة في عصر باخ هي الراعية للموسيقيين، صار الأرستقراط يلعبون هذا الدور، بعد التحول العلماني في عصر هايدن وموتسارت وجلوك وسالييري، ثم صار الموسيقار فنانًا حرًا، بلا راعٍ محدَّد، في عصر بيتهوفن، ثم عصر مَن تلاه من الرومانسيين المبكرين، ثم المتأخرين، لكنه ظل يعتمد على الأيديولوجيا: أيديولوجيا الثورة الفرنسية عند بيتهوفن، ثم أيديولوجيات القوميات المتصارعة في الرومانسية المتأخرة. أدى هذا الاعتماد الأخير على الأيديولوجيا إلى طرق مسدودة رهيبة: أيديولوجيا القومية المتطرفة يمينًا عند فاجنر، وريتشارد شتراوس ويان سيبيليوس وكارل أورف، وأيديولوجيا الاشتراكية المتطرفة يسارًا عند شوستاكوفيتش وبروكوفييف وخاتشاتوريان. 

حين انتهى الاستقطاب الأيديولوجي بعد تفكك الاتحاد السوفييتي، وتحولات الكتلة الشرقية عمومًا، فقدت الموسيقى راعيها الأيديولوجي، وصارت تعتمد فقط على الراعي السينمائي. بهذا الشكل انتقلنا من الكنيسة، إلى الأرستقراط، إلى الأيديولوجيا، وأخيرًا إلى السينما. بطبيعة الحال يعتمد هذا الراعي السينمائي نفسه على تقييم الجمهور أكثر من تقييم النقاد، وعلى شعبية الإنتاج أكثر من قواعد الإبداع. لم تعد الأشكال ذات أهمية كبرى، وفقدت الصيغُ الموسيقية مبدأَ اتّحادِها. ومع انهيار الصيغة لا يمكن تصور موسيقى كلاسيكية إلا بناءً على مبدئها الأساسي، أي الاشتقاق اللحني. لا يناسب الاشتقاق قطعًا الموسيقى التصويرية في الأفلام، ومن هنا تحولت الموسيقى ككل من التأليف في صيغ خالصة إلى التلحين في أغانٍ وأفلام. ربما يفرح المنحازون إلى الموسيقى العربية، المعتمِدة بالأساس على التلحين، بهذه النتيجة، لكنها نتيجة تعني نهاية أحد أهم الفنون في تاريخ البشرية، وأكثرها تجريدًا وأعقدها شكلًا واستغراقًا لقدرات العقل والعزف والتحليل.