fbpx .

تعاهدنا مع الجزائر، وفخ اللّا-كيتش

صلاح باديس ۲۰۱٤/۰۵/۲٦

تقوم كل الأوبيرات الغنائية التي تنتج ضمن إطار وطني أو قومي، بشكل أو بآخر، على فكرة الكيتش“. والكيتش، كما يعرّفه كونديرا في روايته خفّة الكائن التي لا تحتمل“: “كلمة ألمانيّة ظهرت أواسط القرن الـ19، قبل أن تنتشر في كل اللغات. لكن كثرة استعمالها أزالت دلالتها الميتافيزيقيّة الأصليّة (..) وحرفيّاً كما مجازيّاً، الكيتشيبعد كل ما هو غير مقبول في الوجود الإنساني“. (1)

من هنا، نجد أن مفهوم الكيتشأوسع وأعمق من الكليشيه” (cliché)، والذي يمكننا القول أنّه نوع من الأفكار المسبقة، أو السرديّات الكبرى. تستعمل الكلمة أيضاً لوصف الفن الرّديء، أو تيّار سياسي ما، حيث ينفصل الكيتش عن الواقع بتصويره صورة عليا أو مثاليّة عن الشيء: صورة جامدة تقوم على أفكار وانطباعات متجذّرة عميقاً في ذاكرة الناس. بمعنى آخر: يقوم على كليشيهات عديدة.

وفي البلدان العربية هنالك أمثلة عديدة أبرزها الأوبريتات القوميّة التي رافقت الفترة الناصريّة التي لعب دوراً مهمّاً في الآلة الدعائيّة والتعبويّة للنظام. لكن مع الوقت وتغيّر المعطيات والابتعاد عن عصر اليوتوبيا، أصبحت الأوبريتات العربيّة تتكئ على سرديّات كبرى وكليشيهات عديدة ترتبط بموضوع الأوبريت. مع ترديد لكلمات شعبويّة، مثل: حلم، خير، شكر، عهد، وعد، شهيد، فخر، مجد، تاريخ. كما تخلّت هذه الأوبريتات، ليس بشكل كامل، عن الأحلام الكبرى والوعود بالغد المُشرق، لتكتفي بمخاطبة ماضي الشعوب وتمجيدها وإبراز أفضل ما فيها، وتجاهل كل ما هو سلبي، بل حتى تصويره على أنّه ميزة لذلك الشعب (كتصوير سكّان العشوائيّات يرقصون ويغنّون فوق تلال من القمامة التي يسكنون بجانبها). وفي الاستوديو، يتعانق المغنّين وهم يبتسمون في ظل أجواء تغمرها السعادة، في إقحام رمزيّة تصويرهم كجماعة سعيدة تعكس الجماعة الكبرى، الشعب، مبعدين كل ما هو غير مقبول في الوجود الإنساني“: وهنا نجد أنفسنا في قلب الكيتش“.

الكيتشالجزائري

عندما غنّى الحاج محمد العنقى في العام 1956عشقي في خناتة” (وخناتة هي كلمة في العاميّة الجزائريّة القديمة، وتعني التحرر أو الاستقلال)، أو عندما غنّى قصيدته المشهورة حمد لله ما بقاش استعمار ف بلادنافي العام 1962، غنّاها بطلب من جبهة التحرير الوطني، خدمة للقضيّة الوطنيّة.

 

إنّما بعد الاستقلال، لم تحتج السلطة إلى نسخ من عبد الحليم أو أم كلثوم، ولم يشتهر شعراء مثل صلاح جاهين مثلاً، لأن طبيعة الشعوب والسياقات التاريخيّة مختلفة. بينما تكيّف الفنانين الكبار مع هذه المتطلّبات في كل الأنواع (الشعبي، الوهراني، المالوف، القسنطيني، مع استثناء كبار شيوخ الراي كالشيخة ريميتي الذين كانوا أصلاً خارج اللعبة، ويؤدّون طابعاً فجّاً بالنسبة للمجتمع الشاب المحافظ“. وهو ربّما ما جعل الراي يتأخر في الظهور والدخول إلى البيوت). فمن وقت إلى آخر، تنتج أغنية عن الوطن، وهنا يأتي الكيتش: الوطن الشاب الفتي، المتحرّر منذ بضع سنوات، العدو الحانق على الضفة الأخرى، وجمال البلاد العائدة الى أهلها.

في رحاب الإذاعة والتلفزيون

بدأت موسيقى الراي، التي انتشرت منذ نهاية السبعينيّات، بالتحرّر من أيدي الشيوخ والشيخات. وبدأ الشباب بمنح أنفسهم لقب الشابللحفاظ على التراتبيّة. وعلى عكس العديد من الأنواع الموسيقيّة كالشعبي الذي ظلّ رازحاً تحت ثقل العادات والتقاليد والرتاتبيّة العمريّة، كان الراي يتوغل: يخرج من الكباريهات إلى الشارع فالبيوت.

ومن هنا بدأ الشباب بالمشاركة في الإذاعة ثم التلفزيون عندما دخل البيوت ويبدؤون مسيرتهم الفنيّة. إذ انطلق الشاب مامي مثلاً، بعد نجاحه في برنامج ألحان و شبابفي الثمانينيّات بعدها بوقت قصير الى باريس ليلتحق بالشاب خالد الذي سبقه إلى هناك.

لتبدأ طبقة جديدة من الفنانين من جيل الاستقلال حياتها الفنيّة في رحاب مؤسسات الدولة. ثم تأتي المهرجانات، كمهرجان الراي عام 85. ومع تكريس التلفزيون كنافذة جديدة في البيوت، بدأت الفيديوهات فنانين مثل محمد لمين ونصر الدين جلطي بالظهور، وبعد هذه الانطلاقات البسيطة، وبعد أن يعرف الفنان لدى الناس، تبدأ المسيرة الحقيقيّة: هل سينجح أم يفشل؟

إذا أخذنا الجيل الذي بدأ مسيرته في تلك الفترة الممتدّة من نهاية السبعينيّات إلى بداية التسعينيّات، نجد أن قليلون هم من بقوا إلى اليوم ينتجون أعمالاً فنيّة ويسجّلون نجاحات ملحوظة في مسيرتهم. هذا النوع الأول.

أما النوع الثاني فهم المركونون على الرف“: أي الذين مَشَوافي السوق لفترة معيّنة ثم انخمدت شعلتهم وقلّ الطلب عليهم. فبالموازاة مع الحالة الاجتماعيّة للفنان في الجزائر، وجد هؤلاء أنفسهم وهم يعتاشون على الغناء في الأعراس والحفلات الخاصّة. ولا يظهرون في الحيّز العام إلا عندما يتم استدعائهم للمناسبات الوطنيّة للظهور في التلفزيون.

كبر وعاش فنّاني كلا النوعين في رحاب التلفزيون والإذاعة بشكل أو بآخر، ومن هاتين المؤسستين انطلقوا إلى الجماهير.

تعاهدنا مع الجزائر

قبل الأوبريت (والذي أخذ اسمه من شعار الحملة الدعائيّة للمترشّح، ومن ثم الرئيس، عبد العزيز بوتفليقة) ظهرت على القناة الوطنيّة فيديوهات جديدة وقديمة تغنّي للوطن والسلم والأمن. وهو أمرٌ موجود في كل البلدان، لكن المشكلة أن اللّحن والكلمات والمغنون بدت وكأن الوقت تجاوزها.

تم تصوير فيديو الأوبريت في استديوهين بين الجزائر و فرنسا. إذ صّرح الشاب خالد أنّه لم يستطع الحضور لضيق الوقت. ومن خلفية الأستوديو نتبيّن أن الشاب محمد لمين، الشاب طاريق، هواري بن شنات وحسين لصنامي (ملحن الأوبريت) سجّلوا من فرنسا أيضاً. أمّا الجوقة فضمّت وجوه قديمة وجديدة، بين مغنيين وإعلاميين وممثلين.

وباستثناء داليا شيح (الفتاة التي ظهرت منذ سنتين في برنامج Arabs Got Talent واستقطبت الاهتمام لقوة صوتها)، وخريجي ألحان وشباب، وبعض الإعلاميين الشباب وبعض المغنيين الحاضرين في السوق مثل كادير الجابوني وسليم الشاوي، نلاحظ غياباً شبه تام للفنانين الشباب الذين ظهروا منذ سنوات وشكّلوا ذائقة الشباب اليوم. وكنزة فرح، المغنية الفرنكوجزائريّة، والتي رفضت الغناء في الجزائر قبل سنوات لأسباب ماديّة، تعود اليوم لتظهر لبضع ثوانٍ في الفيديو.

يظهر أيضاً عبدو درياسة، ابن الفنان رابح درياسة صاحب أغنية أنا جزايري، لكن من دون أن يغنّي. الأمر الذي يطرح التساؤل عن هذا المغني الذي ظلّ منذ ظهوره يعيد تأدية أغاني والده الناجحة كـنجمة قطبيّةوغيرها، ولم يستطع تحقيق نجاح معتبر بالأغاني القليلة التي أصدرها. إضافة إلى الشاب يزيد، الذي أقام حفلاً في 8 آذار مارس 1979، الذي منذ ذلك التاريخ و هو يغني في نفس اليوم من كل سنة، لتقتصر أجندته الفنيّة على ذلك التاريخ فقط.

أما الشاب خالد فظهوره في الأوبريت بدا وكأنه يردُّ ديناً. إذ صرح في وسائل الاعلام أنّه سعيد لمشاركته في الأوبريت. كانت حصّة خالد في الظهور أكبر من غيره بالطبع، خاصة في المقطع: “يا بلادي خودي حذرك، عديانك غايرين منك، وهو الجزء الذي يتجلّى فيه ما يعرف بأمننة الخطاب، أي تحويل أي خطاب، وهنا خطاب دعائي إلى خطاب أمني يرتكز على ثنائية الأمن والفوضى. (2)

إضافة إلى الظروف التي أنتجت فيها الأوبيريت، والسرعة التي طرحت بها على الانترنت والتلفزيون، نجد أيضاً أنها، وككل الأوبريتات والأناشيد الوطنية السابقة لم تحدث صدى كبيراً لدى الناس. حتّى أنّه نستطيع رصد التعليقات الساخرة على الفيسبوك أو اليوتيوب، أي أنّها لم تؤدي فعلاًدورها الدعائي، وخاصة أنّها لم تلمع صورة الكيتش الأصليّة، إذا ما كان هناك كيتش أصلاً.

(1) الفقرة مترجمة من قبل الكاتب من رواية كونديرا خفّة الكائن التي لا تحتمل” L’insoutnable légèrté de l’étre, Gallimard 1984. Paris
(2) مصطلح الأمننة استعمله باحث الاجتماع السياسي علي الرجال في مقال على موقع جدليّة: تفكيك أمننة المجتمع.

المزيـــد علــى معـــازف