تقاسيم الشيخ المستحيلة | السير المقامي في تلاوة مصطفى إسماعيل
عربي قديم

تقاسيم الشيخ المستحيلة | السير المقامي في تلاوة مصطفى إسماعيل

علي حسين ۰۵/۰۲/۲۰۲٤

في تسجيل من عام ١٩٧٠، يستهل الشيخ مصطفى إسماعيل تلاوته لسورة فاطر بالبسملة في صوت، كما وصفه آخرون، متواضع ولا يُتَوَقَّعُ منه الارتجال والتنوع المقامي والنغمي المعتاد في قراءات الشيخ. يبدأ إسماعيل بالصعود شيئًا فشيئًا حيث يعيد الآية تلو الأخرى كما تتصاعد معه أصوات الجمهور بـ “الله” وتظهر ملامح مقام البياتي واضحة بين أنفاس الشيخ ونبرة صوته، التي تركت التواضع خلفها مظهرة القوة والتمكن النغمي.

كما ذكر مصطفى إسماعيل نفسه في مقابلة، إن إبداعه كقارئ في التلاوة يعتمد بدرجة أساسية على تفاعل الجمهور معه. هذا فعلًا ما نجده في قراءات الشيخ المسجلة في الاستوديو والفرق الهائل بينها وبين المحافل التي قد تتعدى مدتها الساعة ونصف، ولا يتراجع فيها صوت إسماعيل عن الارتقاء والإبداع.

يصل الشيخ إلى آية “وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ وَإِلَى ٱللَّهِ تُرْجَعُ ٱلْأُمُورُ”، وما أن ينتهي من قراءة الآية إلا ويصرخ الجمهور. ما السبب خلف هذا التفاعل المفاجئ مع هذه الآية؟ ابتدأ إسماعيل بقراءة الآية من غماز مقام البياتي على درجة النوا (الصول) فوق ارتكاز المقام على درجة الدوكاه (الري). لكنه الآن وبعد أن كان يقرأ لمدة عشر دقائق ووصل إلى درجة غماز المقام، ينتقل في هذه الآية من مقام البياتي المعتاد إلى بياتي الحسيني حيث يتكون من جنس البياتي على الدوكاه والرست على درجة النوا. ليس بدء إسماعيل قراءته بمقام البياتي بالأمر غير المعتاد؛ فهذا المقام، كما يجسد اسمه، يحرك مشاعر البيتوتة والحنين، ولهذا غالبًا ما يبدأ القراء مثل إسماعيل به تلاوتهم كما ينهونها أيضًا بالعودة إليه، إلى المنزل النغمي والمقامي. لكن أن ينتقل إسماعيل هنا خصوصًا إلى هذا الفرع من البياتي وجنس الرست يدل على نية وفهم راسخ للنغم والمعنى. ما يتجلى في هذه الآية هو رجوع أمور الخلق أولًا وآخرًا إلى الخالق، بالرغم من كيد المكذبين. لهذا اختار إسماعيل جنس الرست الذي يجسد معاني الجلال والعظمة.

ما يتوافق مع هذا الاختيار المقامي هو أمر أكثر أهمية ودقة في قدرة إسماعيل على تكريس النغم في إيصال معاني القرآن. يستعمل الشيخ درجات الجواب، من غماز المقام النوا (الصول) إلى الكردان (الدو الأوكتاف) لتجسيد حركة أمور الخلق وصعودها ورجوعها إلى الله، حيث يصل في قوله: “وَإِلَى ٱللَّهِ تُرْجَعُ ٱلْأُمُورُ” إلى أعلى المقام ودرجة الكردان.

هكذا استطاع هذا القارئ المخضرم الذي وصفه تلميذه الراحل الأستاذ أحمد مصطفى كمال بـ “هبة الله” أن يحول درجات المقام النغمي من مجرد نوتات إلى تجسيد وتصوير درامي للخلق وعلاقته بالخالق، ابتداءً من عالم المادة في القرار إلى عالم الروح والإله في الجواب. 

دون مبالغة يمكن القول إن إسماعيل قد تجاوز بهذه القدرة سائر القراء من جيله ومن جاء بعدهم. هذا ما اتفق عليه تلميذه الدكتور أحمد نعينع في حديثه مع الموسيقار عمار الشريعي حين قال: “الشيخ مصطفى إسماعيل أفحم من قبله وأجهد من بعده.”

للتأكيد على هذه الموهبة الفذة عند الشيخ ننتقل إلى تلاوة أخرى من سورة القمر والآية: “فَدَعَا رَبَّهُۥٓ أَنِّي مَغْلُوبٌ فانتَصِرْ.” عندما حلل عمار الشريعي هذه التلاوة قال: “قراءة الشيخ هنا تدل على إنه مزيكاتي وفاهم بيعمل إيه … ولو هو مش مزيكاتي فإحنا المزيكاتيه نطلع برا.” ونحن نعتمد على تحليل الموسيقار الكبير الشريعي وننطلق منه في هذه الدراسة.

المتكلم في هذه الآية هو النبي نوح حيث كان يشكوا لربه عدم استجابة قومه لدعوته فطلب من الله أن ينتصر لدينه. كانت قراءة الشيخ هنا، كما سالفًا، عن فهم راسخ للنغم والمعنى. اختار إسماعيل جنس الصبا على درجة الدوكاه، وهو أكثر مقام مناسب لتجسيد معاني الحسرة والحرقة والشجن. 

حين يصل إلى كلمة “فانتَصِرْ” يبدأ إسماعيل من غماز المقام على درجة الجهاركاه (فا) ومن ثم يصعد إلى درجة الصبا (الصول بيمول) والحسيني (لا) ليعود مرة أخرى إلى درجة الصبا، وكل هذا الترحال في كلمة واحدة مكونة من خمسة أحرف. لماذا ارتحل إسماعيل بهذه السرعة في هذه المفردة القرآنية خصوصًا؟ كما أن النبي نوح يرفع دعاءه إلى السماء يصعد إسماعيل أيضًا بصوته من الغماز إلى جنس الجواب؛ لكن لماذا يعود مكررًا إلى درجة الغماز ولا يبقى في الحسيني؟ ليؤكد على تضرع الداعي وقلة حيلته مع قومه.

حين ينتقل إلى الآيتين التاليتَين: “فَفَتَحْنَآ أَبْوَٰبَ ٱلسَّمَآءِ بِمَآءٍ مُّنْهَمِرٍ وَفَجَّرْنَا ٱلْأَرْضَ عُيُونًا فالْتَقَى ٱلْمَآءُ عَلَىٰٓ أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ” يظهر ابداع إسماعيل جليًا. يتلوهما مرتين: في الأولى يبدأ بقراءة “فانتَصِرْ” كما فعل سالفًا ومن ثم يصعد إلى درجة العجم (سي بيمول) ابتداءً من “فَفَتَحْنَا” مجسدًا استجابة الدعاء من عند الله تعالى في أعلى درجات المقام، التي كما وصفنا سالفًا قد ترمز إلى عالم الروح واللاهوت. من ثم يهبط فجأة في كلمة “أَبْوَٰبَ” إلى جنس الجذر ودرجتي الجهاركاه ـ غماز المقام ـ والسيكا ليفصل تصويريًا ما بين عالمي الروح، من حيث تصدر أوامر الحق، والمادة حيث تتجلى تلك الأقدار. بعد ذلك يعود مرة ثانية إلى درجة العجم في كلمة “ٱلسَّمَآءِ” ويبدأ بالهبوط تدريجيًا وصولًا إلى نهاية الآية في كلمة “عُيُونًا”.

لكنه يعود من جنس الحجاز، الذي هو جنس الفرع في مقام الصبا، إلى جنس الجذر بانسيابية تجسد سقوط ذاك الكم الهائل من المطر، كما ولو أن مياه السماء تتعاقب من قمة جبل إلى سفحه واحدًا تلو الآخر وصولًا إلى الأرض. يصل إسماعيل إلى: “وَفَجَّرْنَا ٱلْأَرْضَ عُيُونًا” فيصعد مرة أخرى درجتين ليجسد خروج الماء هنا من تحت الأرض إلى سطحها لا هبوطًا من السماء.

لا تتوقف عبقرية إسماعيل هنا، فبدلًا من أن يقفل هذه الآية مقاميًا على درجة الدوكاه ومقام الصبا المعتاد يفاجئ الجمهور بارتكازه على درجة العراق ليحول المقام تمامًا من الصبا إلى البسته نجار، والذي يتكون من طبع السيكاه على درجة العراق (السي نصف بيمول أسفل الرست) وجنس الفرع الصبا على درجة الدوكاه. دفعت هذه القدرة على تحويل المقام جذريًا في آخر كلمتين من الآية بعمار الشريعي ليعترف بأن الشيخ مصطفى إسماعيل له من القدرة المقامية والنغمية ما لم يتح لشيخ آخر.

حين يعيد إسماعيل تلاوة الآية مرة ثانية يبدأ مجددًا من كلمة “فانتَصِرْ”، لكنه يرتكز الآن على درجة العجم ولا يفعل هذا بغير نية، فهو يحول المقام هذه المرة من الصبا إلى عجم العشيران، والذي يتكون من جنس العجم على درجة العجم عشيران (سي بيمول أسفل الرست) ومن ثم جنس الفرع أيضًا عجم على درجة الجهاركاه.

أراد إسماعيل هنا أن يجسد استجابة الله لدعوة نبيه بطريقة نغمية أخرى فاستعان بمقام العجم الذي يغير الحزن الصادر من الصبا إلى فرح وبهجة العجم، وهو الإحساس المناسب لانتصار الخالق لدعوة نبيه. ليكرس إسماعيل هذا المعنى بسرعة ينتقل من درجة العجم إلى الجهاركاه فجأة، أي من أعلى درجة المقام هبوطًا إلى غمازه، ومن ثم يصعد مرة أخرى إلى درجة العجم ليعود مرة ثانية إلى مقام الصبا مجسدًا هطول الأمطار الغزيرة كما فعل في أول تلاوة له لهذه الآية.

لكن بدلًا من أن يرتكز على درجة العراق ومقام البسته نجار، يتوقف الشيخ هنا على درجة الدوكاه ليقفل تلاوته تمامًا على مقام الصبا. بالرغم من أن جميع تلاميذ إسماعيل كأحمد مصطفى كامل والدكتور أحمد نعينع يؤكدون أن الشيخ لم يدرس المقامات الموسيقية أكاديميًا، إلا أن موهبته أبهرت موسيقيي عصره من أمثال عبد الوهاب وأم كلثوم فكانوا يعلقون على تلاوته بذكر أسماء المقامات والنقلات التي يرتحل عبرها، وهكذا حفظ إسماعيل المقامات الموسيقية فتبحر في خضمها مكرسًا صوته وقدرته لإيصال معاني القرآن إلى آذان المستمعين.

فلنعد الآن مرة أخرى إلى تسجيل عام ١٩٧٠ من سورة فاطر الذي ابتدأنا بالحديث عنه ولنحلل السير المقامي في هذه التلاوة كاملة. كما ذكرنا، يبتدأ الشيخ التلاوة بمقام البياتي على درجة الدوكاه، كما هو المعتاد منه في جميع قراءاته. 

يتجول إسماعيل في جنس الجذر، من الدوكاه إلى الجهاركاه، وينطلق بين الحين والآخر إلى جنس الفرع متبحرًا في مقام بياتي الشورى أو القار جغار المتكون من جنس البياتي على درجة الدوكاه وجنس الفرع الحجاز على درجة النوا. 

بعد أن يستمر هكذا لمدة عشر دقائق يصل إلى المقطع الذي حللناه وآية: “وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ …”، حيث يبدأ بالتفرع من مقام البياتي الأصلي إلى بياتي الحسيني ليستعمل جنس الفرع الرست، من درجة النوا إلى الكردان. من ثم يعود مرة أخرى إلى جنس الجذر البياتي من الآية: “أَفَمَن زُيِّنَ لَهُۥ سُوٓءُ عَمَلِهِ …” وصولًا إلى “وَٱللَّهُ ٱلَّذِىٓ أَرْسَلَ ٱلرِّيَـٰحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا …” هنا يتوقف إسماعيل قليلًا ليستكشف مرة أخرى مقام القار جغار. يحاول القارئ أن ينتقل من هذه الآية، لكن المستمع إلى التسجيل يدرك أن الجمهور أصر أن يعيد إسماعيل تلاوته لها مرة ثانية، وبدلًا من أن يعيدها على مقام البياتي يغير إسماعيل لأول مرة في هذا التسجيل، بالرغم من أنه تغيير مؤقت، جنس الجذر من البياتي إلى الصبا على درجة الدوكاه.

بعد أن قد استوفى إسماعيل والجمهور حقه من هذه الآية ينتقل القارئ إلى الآية التي تليها: “مَن كَانَ يُرِيدُ ٱلْعِزَّةَ فَلِلَّهِ ٱلْعِزَّةُ جَمِيعًا …” فيقرأها مستمرًا على نغم الصبا، وحين يعيدها مرة ثانية يفاجئ جمهوره كما فعل في سورة القمر ويقفل تلاوته بمقام البسته نجار، أي جنس السيكاه على درجة العراق وفرع الصبا على درجة الدوكاه. يعود بعد ذلك إلى مقام البياتي، مستمرًا فيه إلى الآية التالية: “وَٱللَّهُ خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ …” فإذا وصل إلى آخر الآية نزل إلى قرار المقام وارتكازه على درجة الدوكاه مومئًا بنوع من القفلة النغمية.

السبب هو أن إسماعيل هنا ينتقل نقلة نهائية من مقام البياتي متوجهًا نحو مقام النوا أثر على درجة اليكاه (صول أسفل الرست). يتبحر القارئ في هذا المقام، ما بين عقد النكريز جذرًا والحجاز فرعًا، في حدود الآية: “وَمَا يَسْتَوِى ٱلْبَحْرَانِ هَـٰذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ …”

يبقى مع مقام النوا أثر أيضًا في الآية التالية: “يُولِجُ ٱلَّيْلَ فِى ٱلنَّهَارِ وَيُولِجُ ٱلنَّهَارَ فِى ٱلَّيْلِ …”، ثم ينتقل إلى مقام السيكاه في آية: “إِن تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَآءَكُمْ …” مرتكزًا على قرار المقام السيكاه (مي نصف بيمول).

في الآية التالية: “يَـٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ أَنتُمُ ٱلْفُقَرَآءُ إِلَى ٱللَّهِ وَٱللَّهُ هُوَ ٱلْغَنِىُّ ٱلْحَمِيدُ” يدخل إسماعيل في نشوة إبداعية تستمر لمدة ست دقائق يعيد فيها هذه الآية متجولًا في زوايا مقام السيكاه ومستكشفًا جنسي الفرع والجذر وحتى حساس المقام أسفل درجة السيكاه ذاتها، ليبقى في نفس هذا المقام في الآية التي بعدها من “إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ” إلى “إِنَّآ أَرْسَلْنَـٰكَ بالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ” حيث يختم ترحاله مع هذا المقام في هذه الآية. 

مرة أخرى يستأنف إسماعيل من آية “وَمَا يَسْتَوِى ٱلْأَعْمَىٰ وَٱلْبَصِيرُ” متحولًا إلى مقام قريب من السيكاه وهو الرست مرتكزًا على درجة الرست أسفل السيكاه. كما اعتاد الجمهور من إسماعيل عندما يبدأ في التحليق في سماء الرست، ينتهي القارئ هنا من سورة فاطر لينتقل إلى سورة طالما ربطها نغمًا بهذا المقام، الحاقة. 

ما أن قرأ أول كلمة من السورة إلا وانهالت صرخات “الله” من الجمهور. لا يخيب إسماعيل ظنهم فيه، بل يعقد حوارًا نغميًا جياشًا ما بين مقام الرست ومن الآية “ٱلْحَآقَّةُ” إلى “كُلُوا وَٱشْرَبُوا هَنِيٓـًٔا بِمَآ أَسْلَفْتُمْ فِى ٱلْأَيَّامِ ٱلْخَالِيَةِ” ومن ثم ينتقل إلى سورة النازعات ومن الآية “إِنَّ فِى ذَٰلِكَ لَعِبْرَةً لِّمَن يَخْشَىٰٓ” إلى “مَتَـٰعًا لَّكُمْ وَلِأَنْعَـٰمِكُمْ”.

لا يزال مستمرًا مع مقام الرست ومنتقلًا مرة أخرى إلى سورة الشمس من البداية: “وَٱلشَّمْسِ وَضُحَىٰهَا” إلى نهاية السورة: “وَلَا يَخَافُ عُقْبَـٰهَا” ليكمل تلاوته وهذا التسجيل بسورة الفاتحة ومقام الرست. فلنراجع إذا هذا السير النغمي والمقامي للشيخ مصطفى إسماعيل في هذه التلاوة في جدول مبسط:

الوقت المقام الآيات
بداية التلاوة بياتي وبياتي شوري على دوكاه فاطر: (٣٥:١) إلى (٣٥:٣)
١٠:٠٠ بياتي حسيني على دوكاه (٣٥:٤)
بياتي على دوكاه (٣٥:٥)
٢١:٠٠ بياتي شوري على دوكاه (٣٥:٩)
٢٢:٠٠ صبا على دوكاه (٣٥:٩)
٢٨:٠٠ بسته نجار على عراق (٣٥:١٠)
٢٩:٠٠ بياتي على دوكاه (٣٥:١١)
٣٣:٠٠ نوا أثر (نكريز وحجاز) على اليكاه (٣٥:١٢) إلى (٣٥:١٣)
٤٠:٠٠ سيكاه على درجة السيكاه (٣٥:١٣) إلى (٣٥:٢٤)
٥٤:٠٠ رست على درجة الرست (٣٥:١٩) إلى (٣٥:٢٤)

الحاقة: (٦٩:١) إلى (٦٩:٢٤)

النازعات: (٧٩:٢٦) إلى (٧٩:٣٣)

سورتي الشمس والفاتحة

أنا أقترح أن ما يتجلى لنا هنا في هذا السير النغمي للشيخ مصطفى إسماعيل هو نوع من التقسيم المقامي. كما بينا سالفًا، نحن هنا إنما نتبع خطوات الموسيقار الراحل عمار الشريعي الذي حلل في برنامجه سهرة شريعي تسجيلات مصطفى إسماعيل مقاميًا ودراميًا، وهو الذي ذكر في صحبة تلميذ الشيخ القارئ المعاصر أحمد نعينع أن إسماعيل كان عنده فهمٌ موسيقيٌّ عالي لم يتح لشيخ آخر.

إذا أخذنا كل ما ذكر بعين الاعتبار، فلنعد إلى السير المقامي في تلاوة إسماعيل لسورة فاطر والحاقة والنازعات والشمس والفاتحة، ولننظر إلى هذا الأداء على أنه نوع من الارتجال النغمي المعروف بالتقسيم. أود أن أشرع في هذا الاقتراح بمقارنة إسماعيل مع أحد عباقرة المدرسة المصرية للعود في القرن العشرين، رياض السنباطي.

كما أن إسماعيل هو قارئي المفضل فالسنباطي، مع بليغ حمدي، هو أستاذي الأول في العود، منهجًا وإحساسًا وأداءً؛ ولطالما قلت في حديثي عن هذين الرمزين من التراث المصري إن مصطفى إسماعيل هو رياض السنباطي القراء ورياض السنباطي هو مصطفى إسماعيل العوّادين.

بناءً على هذه المقارنة أود لو ننظر إلى السير المقامي في تقاسيم السنباطي، وبالأخص تقسيمته المشهورة المسجلة على مقام الحجاز. مدة هذا الارتجال خمس دقائق ونصف، يبدأ فيه السنباطي باستكشاف جنس الحجاز الجذر ومن ثم يصعد شيئًا فشيئًا إلى جنس الفرع النهاوند حتى يصل إلى أول نقلة فرعية من النهاوند إلى الرست في جنس الفرع المرتكز على درجة النوا.

بعد أن يتجول السنباطي ببراعة في الرست يعود إلى النهاوند في جملة قصيرة ومن ثم ينتقل مرة أخرى إلى مقام الشاهيناز، المتكون من جنس الحجاز في الجذر وعقد النكريز على النوا. بعد هذا ينتقل السنباطي بشكل جذري من الحجاز إلى البياتي على الدوكاه فيما يعتبر من أبرع التحولات المقامية في فن التقاسيم وأكثرها شجنًا وإحساسًا. في ختام ترحاله مع البياتي يعود السنباطي إلى الحجاز الأصل ليختم التقسيمة. على هذا نجد السير المقامي في هذا العمل في الجدول المتاح في الأسفل:

الوقت المقام
بداية التقسيمة حجاز في الجذر ونهاوند في الفرع
٢:١٠ حجاز في الجذر ورست في الفرع
٣:١٧ مقام شاهيناز
٤:٢٠ مقام بياتي
٥:٠٨ حجاز في الجذر ونهاوند في الفرع

كما أن السنباطي استكشف جنسي الجذر (الحجاز) والفرع (النهاوند) في هذه التقسيمة، أيضًا إسماعيل سخر بصوته جنسي الجذر (البياتي) والفرع (النهاوند) في تجسيد وإيصال معاني القرآن. كما نجد أن إسماعيل انتقل نقلًا جذريًا في أنغامه، من البياتي إلى الصبا ومن ثم النوا أثر والسيكاه إلى الرست، كما فعل السنباطي في تحوله من الحجاز إلى البياتي.

ما يفرق إسماعيل عن السنباطي هو عودة الآخر إلى المقام الأصلي في التقسيمة وهو الحجاز، بينما ينهي إسماعيل تلاوته على مقام آخر هو الرست. هنا لدينا احتمالين يجب لنا أن نأخذهما بعين الاعتبار: أولًا، مدة التقاسيم الموسيقية لا تتجاوز بين الخمس والعشر دقائق كما هو الأمر هنا في تقسيمة الحجاز للسنباطي، بينما تمتد تلاوات إسماعيل فوق الساعة والنصف. 

لنا أن نتساءل إذًا: إذا كان هناك تقسيمة افتراضية مدتها ساعة ونصف، هل ممكن أن يبقى العازف فيها في مقام معين دون أن يعود إليه في نهاية التقسيمة؟ أم أن العودة إلى جنس الجذر الأصلي أمر لازم في فن التقاسيم؟ في هذه الحالة ننتقل إلى الاحتمال الثاني وهو أن السير المقامي في تلاوة إسماعيل مكونة من تقسيمتين: الأولى على مقام البياتي والثانية على مقام الرست يختم بها قراءته.

بل وهناك أيضًا احتمال ثالث هو أن إسماعيل قد تجول ارتجالًا في ثلاثة مراحل مقامية: البياتي، الصبا والنوا أثر، السيكاه والرست. على اختلاف التأويلات والتعامل مع قفلة إسماعيل لهذه التلاوة، على مقام يختلف عن ذاك الذي ابتدأ به، ما نحن في خضمه هو أن المراحل الثلاثة المتعارف عليها في أداء التقسيم: الاستهلال والنقلة والقفلة واضحة جليًا في السير النغمي عند إسماعيل.

كان استهلاله في أول عشر دقائق حيث استكشف جنس الجذر البياتي مع نهاوند الفرع وبعض التحولات إلى فرع الحجاز على النوا أو مقام الشوري أو القار جغار. من ثم تأتي مرحلة النقلة واضحة في تحول إسماعيل إلى بياتي الحسيني ومستمرًا في هذه الانتقالات إلى الصبا والنوا أثر وغيرها. 

لنا أن نضع مرحلة القفلة هنا إن احتملنا أن إسماعيل أدى ثلاث ارتجالات نغمية في هذا التسجيل ويبدأ في استهلال جديد مع الصبا مع نقلة إلى النوا أثر وقفلة في آخرها، ومن ثم استهلال جديد في السيكاه ونقلة إلى الرست مع القفلة في نهاية التلاوة في سورة الفاتحة. إن وقفنا مع الاحتمال الأول فإن مرحلة النقلة مستمرة من بياتي الحسيني وحتى الرست مع قفلة قصيرة في نهاية التلاوة.

هذه الاحتمالات الثلاثة تعطينا الجدول المتاح في الأسفل عن مراحل التقسيم في أداء إسماعيل النغمي:

الاحتمال الأول الاحتمال الثاني الاحتمال الثالث
الاستهلال:

بياتي على دوكاه نهاوند على نوا

النقلة:

بياتي شوري، بياتي حسيني،

صبا، نوا أثر، سيكاه، رست

القفلة:

رست

الاستهلال:

  • بياتي على دوكاه نهاوند على نوا
  • سيكاه

النقلة:

  • بياتي حسيني، صبا، نوا أثر
  • رست

القفلة:

  • بياتي على دوكاه
  • رست
الاستهلال:

  • بياتي على دوكاه
  • صبا على دوكاه
  • سيكاه

النقلة:

  • بياتي شوري، بياتي حسيني
  • نوا أثر
  • رست

القفلة:

  • بياتي
  • نوا أثر
  • رست

قد يختلف القارئ مع كل هذه الاقتراحات ويرجّح أن إسماعيل لم يؤد في هذه التلاوة سوى عدة ارتجالات في مقامات مختلفة: البياتي والصبا والنوا أثر والسيكاه والرست. بالطبع كل هذا وارد، لكن ما أود أن اقترحه في نهاية هذه الدراسة هو وجود مرحلتين أساسيتين من مراحل التقسيم في أداء إسماعيل النغمي: الاستهلال والنقلة؛ وهذا يجعلنا نقف قليلًا على أهمية الإبداع المقامي عند هذا القارئ المخضرم.

هل ممكن أن نستخلص من هذا السير النغمي نموذجًا جديدًا لفن التقاسيم؟ وماذا لو ترجمت مثلًا جمل وانتقالات إسماعيل المقامية في هذه التلاوة إلى مدونات موسيقية تعزف على العود والآلات الشرقية كما فعل مثلًا الدكتور علي الكسروان حين دون تقاسيم الجيل الذهبي في كتابه المهم: التقاسيم؟ ربما يطرح علينا الشيخ مصطفى إسماعيل نظرة جديدة لتقاسيم تطول مدتها عن المعتاد بحيث يكون للعازف الاختيار في أن يقفل أداءه مع مقام آخر يسير إليه بتؤدة آخذا بأذن مستمعيه وواقفًا معهم في كل محطة نغمية بحيث يكون وصوله معهم إلى نهاية المطاف مُشْبِعًا وَمَقْبُوْلًا، نغمًا ومقامًا وإحساسًا.

ما تطرقنا إليه في  بداية هذه الدراسة من تحليل آية من سورة فاطر وصقل إسماعيل لأكتاف المقام كرموز تومئ إلى عالمي المادة والروح، يفتح لنا بابًا آخر نتساءل فيه عن أهمية دور النغم في أيصال المعنى إلى المستمع قبل أن يشرع عقله ومنطقه في تحليل معاني الكلمات على حسب فهمه لقواعد اللغة.

ربما لهذا السبب قال بيتهوفن إن “التذبذبات في الهواء هي أنفاس الرب حين تتحدث مع نفس الإنسان والموسيقى هي لغة الله.” لهذا السبب أيضًا أكد الرسول على أهمية النغم في قراءة القرآن في عدة أحاديث منها: “ليس منا من لم يتغن بالقرآن” و”زينوا القرآن بأصواتكم” و”لله أشد أذنًا للرجل الحسن الصوت بالقرآن يجهر به، من صاحب القينة إلى قينته.”

المزيـــد علــى معـــازف