.
ظهر مصطلح توركو Türkü للمرة الأولى في القرن الخامس عشر الميلادي في مناطق الأتراك الأويغور شمال غرب الصين الحالية، كمصطلح يستخدم في الدلالة على تطور الشكل الغنائي الذي يتكون من قصائد كتبت بأوزان عروضية متعددة وغُنيَت بألحان خاصة. اشتقت التسمية لتعني: ما يخص الأتراك، فيما فضلتُ نقله إلى العربية ضمن تعبير التوركيات Türküler، حيث شاعت التسمية لدى مختلف الشعوب التركية وخاصة في منطقة الأناضول. ظهرت أولى الأمثلة المتكاملة لهذا الفن مع بداية القرن السادس عشر لتشكل نقطة انطلاق حافلة لفن شعبي حافظ على ازدهاره إلى يومنا هذا. عند النظر إلى التصنيفات التي تعتمد بنية وشكل هذا النمط الغنائي كمعيار، يُلاحظ التنوع المميز في البحور الشعرية المستخدمة في القصائد المُغناة، الأمر الذي سهّل شيوعه بين فئات مختلفة في المجتمع التركي بل وجعل منه ملكيةً مجتمعية تتجاوز الطبقات والجغرافيات.
كما رافق التطورات البنيوية في شكل القصائد توظيف مختلف الآلات الموسيقية، وترية ونفخية ونقرية، مثل الساز والطبول والشبابة وغيرها، حيث انعكست المساحة الجغرافية الواسعة الذي تنقلت فيها الشعوب التركية طوال قرون على تعدد أشكال الآلات المستخدمة في الغناء التراثيِّ. أما في الأناضول فلقد نمت بشكل خاص مكانة الساز بمختلف أنواعها، لتتحول هذه الآلة إلى حجر أساس في الغناء التراثي التركي، حتى كادت لا تخطر التوركيات في البال إلا وترافقها صورة الساز. هذه العلاقة بين الساز والتوركيات تطورت عبر قرون طويلة بدأت قبل الدولة العثمانية مع ظهور ما يسمى بشعراء الساز الذين ساهموا كثيرًا في ترسيخ قيمة اﻵلة في الثقافة التركية.
تجاوزت التوركيات في الكثير من الأحيان العلاقة المشيمية بين النص وكاتبه، وبين الأغنية ومغنيها، ليتحول إلى فنٍّ نُسي كتابه ومغنوه مع مرور الزمن وتناقُل الأغنيات بين الأجيال المتعاقبة، إذ أخذت السرديات والمواضيع مكان البطولة من الملحن أو الكاتب. توركية اليمن مثال على ذلك، كتبها ولحنها ملحن وشاعر مجهولان في أواسط القرن التاسع عشر، رثاءً للجنود الأتراك المقتولين في المعارك الطاحنة التي خاضتها الدولة العثمانية في اليمن، إذ وصلت شدة خسائرها زي آل سعود إلى الحد الذي جعل وقع خبر إرسال الجندي إلى اليمن كوقع حكم بالإعدام. إلى يومنا هذا يستمر استدعاء الأغنية في كل الأحداث التي تفجع الشعب التركي، حيث تُغنّى ضمن مجموعة رثائيات في لقاء متلفز يبث تخليدًا للعديد من قتلى الجيش التركي بحضور عائلاتهم، كذلك غناها مغني التوركيات الشهير نشأت إرتاش مجسّدًا ذاكرة الفاجعة بسازه:
كانت معركة جناق قلعة معركة ملحمية وقعت عام ١٩١٥ نجح فيها الأتراك في صد وإنهاء حملة شنها البريطان والفرنسيون لغزو واحتلال اسطنبول أيضاً لحظة فارقة في تاريخ تركيا الحديث وربما في تاريخ العالم، وقد خلدتها التوركيات بصفتها من أهم الأحداث التي تلمس وعي الشعب وتهزه. لا يزال الأتراك يحيون ذكرى هذه المعركة وذكرى قتلاها إلى يومنا هذا في توركية تجسد الحزن على الراحلين والبكاء على الشباب المفقود.
تضافر التنوع الجغرافي الذي حظيت به التوركيات مع خصائصها البنيوية والموسيقية لإنضاج المواضيع الواسعة التي تتناولها، إذ تطرقت إلى أغلب مناحي حياة المجتمع التركي بطابعين. أولهما تلك التي تتسم بحسٍ قومي جامع يتجاوز أي طابع محلي يتناول مآثر وأحزان الشعب ككل، إذ تزامنت فترة نمو التوركيات وشيوعها مع صعود الدولة العثمانية وتوسعها العسكري شرقًا وغربًا، ورفدت التوركيات بقصص الحروب وفخر المآثر العسكرية.
النمط الثاني يشمل أغنيات تعالج همومًا وتجارب فردية قد تتسم أحيانًا بتناولها أحداثًا محلية محصورة على مستوى مدينة أو قرية، تتراوح مواضيعها بين الرثاء والحسرة والغربة وجمال الطبيعة والغزل والإلهيات والفكاهة والتهويدات التي تغنى للأطفال قبل النوم.
هذه التهويدات جزء مهم من تراث التوركيات؛ لكونها قصائد نظمتها الأمهات اللواتي كن يسهرن على حمل أطفالهن على النوم أو محاولة إسكاتهم عند البكاء. عكست هذه الأغنيات الحالة النفسية للأم وأمنياتها لطفلها وآمالها حول المستقبل، كما عكست حالة الطفل الجسمانية وصحته، بل وصلت أحيانًا إلى حد أن تناجي الأم طفلها، تشكي له هموم الدنيا وتدعوه لينام ويكبر كي يساعدها على مواجهة هذه الحياة.
تحكي هذه التوركية قصة الفتاة الجميلة زينب التي تزوجت في سن مبكرة وذهبت للعيش في قرية زوجها البعيدة جدًا عن قريتها. مع مرور الوقت يستبد بها شوقها لأهلها، فتصعد كل ليلة تلة في القرية مرددةً أغانٍ تعبر عما تشعر به من شوقٍ وغربة. يغضب منها زوجها ويمنعها من القيام بذلك، فتصاب بمرض يقعدها الفراش ويحوم حولها شبح الموت. يدفع ذلك زوجها النادم إلى الذهاب إلى قريتها البعيدة ليحضر عائلتها ويعود بهم بأقصى سرعته إليها، وفعلًا يقوم بذلك. مسرورة برؤية أهلها، تردد زينب معهم كلمات هذه التوركية بوهنٍ، ثم يسرقها الموت. يُستدعى الوجع الذي ترويه هذه التوركية في حفلات الحنة النسائية التي تقام على هامش الأعراس التركية، في نوع من الوداع الجنائزي لحياة العروس السابقة.
https://www.youtube.com/watch?v=Ex-G6EtTqd4
أدى تطور هذا النمط الغنائيِّ المتسارع وتحوله إلى شأن عام تُعنى به كافة فئات الشعب التركي إلى تجاوز التوركيات كونها مرآة تعكس الحالة الاجتماعية والسياسية للمجتمع، فأصبحت إحدى أهم المنابر التي تستخدم في التعبير عن العلاقة بين الحاكم والمحكوم وما تشهده تلك العلاقة من تجاذبات مختلفة. استخدمها الفلاح في التعبير عن غضبه من ملتزمي الدولة العثمانية وجبروتهم مثلًا، كما شكلت التوركيات ساحة معركة متبادلة في الصراعات السياسية الداخلية بين القبائل والعشائر التركية المختلفة، حيث تحتل الأغنيات التي أنتجتها حركات تمرد العشائر التركية ضد الدولة العثمانية مساحة واسعة من التوركيات السياسية، لاسيما تلك التي أنتجت أثناء تمرد عشيرة أفشار (Avşar isyanları) التركية. إلى جانب دورها السياسي، استخدمت بعض الطرق الصوفية هذا الفن للتأثير على البيئات المحلية وجذب الناس إليها، كما شكل هذا الفن مساحة واسعة لا يمكن الرقابة عليها لحركة الأقليات المذهبية المختلفة كما هو واضح في التوركيات العلوية.
مع انتشارها أصبحت التوركيات بمثابة خارطة مذهبية لمنطقة الأناضول، حيث منحت المذاهب المختلفة فرصة التعبير عن معتقداتها وعما تعيشه بسهولة، وهذا ما سمح بظهور التوركيات العلوية التي أنشدها شعراء تلك الطائفة في تركيا والتي تحكي الحزن والشوق لعلي وآل البيت.
كتب توركية مدد يا علي الشاعر الشهير بير سلطان أبدال في القرن السادس عشر، حيث كان للأحداث التي عاشها ذلك الشاعر الذي كره البيروقراطية العثمانية دور كبير في تخليد ذكراه طوال هذه القرون. أعدمته الدولة بادعاء مشاركته في التمرد الذي دعمته الدولة الصفوية ضد الدولة العثمانية، والتجسس عليها. هو أحد أهم الشعراء الشعبيين الأتراك، ويعد واحدًا من الشعراء السبعة العظماء عند الطائفة العلوية في تركيا، إذ كتب العديد من القصائد التي تتناول حب آل البيت ورثائهم والتي خُلدت في العديد من التوركيات إلى يومنا هذا.
أثّرت العولمة والتطور التكنولوجي المتسارع بشكل سلبي على حضور الثقافة التراثية في الحياة اليومية لمختلف شعوب العالم بما فيه الشعب التركي، ولكن يمكن اعتبار الاهتمام الذي لا تزال تحظى به التوركيات إلى يومنا الحاضر طريقة الشعب التركي في إبقاء الماضي والحاضر متصلين أثناء البحث عن المستقبل، وقد يشكل التمسك بهذا الفن أحد أوجه محاولة الحفاظ على الهوية في ظل الموقع الجغرافي الحرج الذي يتنازعه الشرق والغرب، خاصة مع شدة التناقضات الداخلية التي تعيشها تركيا نفسها حول هذا الموضوع. كان للتوركيات على مر تاريخها دور مهم في الحفاظ على تماسك المجتمع التركي وهويته، وها هي الآن تمارس دورها الأبدي، فبينما تعصف المتغيرات المختلفة بهذا الشعب تبقى التوركيات مرساته.