تولد موسيقى

في 27 نيسان/ أبريل 1934، ألقى والتر بنيامين محاضرته الشهيرة المؤلف كمنتج في معهد الدراسات الفاشيّة في باريس. يطرح بنيامين في المحاضرة نظريّته بأن العمل الثقافي يعتبر ثوريّاً ومجدِّداً حقّاً عندما يفرض تغيير علاقات الإنتاج السائدة في المجال الذي يظهر فيه العمل، وأن هذا يرتبط بالجودة الفنية للعمل. وبما أن علاقات الانتاج تنعكس مباشرة على العلاقات الاجتماعيّة، فهي بالتالي تُحدث تغييراً في المجتمع المحيط بالعمل.

يُعطي بنيامين مثالاً على هذا المسرح الملحمي الذي قدّمه بريخت. إذ يتخلّى المسرح الملحمي عن الآلات المعقدة والتكاليف الهائلة للممثلين، وبدلاً أن ينصاع لمطالب المنتجين عاد بريخت إلى عناصر المسرح الأصليّة، وطوّر أعمالاً نجحت في تحويل العلاقة الوظيفيّة بين المسرح والعامة، بين النص والأداء، وبين المخرج والممثل” (1). حملت أعمال بريخت هذه تأثيراً قويّاً على المشاهدين، كما أثرّت بشدّة أكبر على آليّات إنتاج المسرح بذاتها، بكل ما تحمله من علاقات قوة متواطئة في توطيد إرث النصر أو الهزيمة عند طبقات المجتمع المختلفة.

تكمن أهميّة أفكار بنيامين هنا في أنّها تحرر العمل الثقافي من مهمّة طرح قضايا اجتماعيّة، وأن يحمل رسالة“. لأنّه إن كان فعلاً أصليّاً وجديداً على مستوى فني، فهو إذن يستلزم تغييراً ما، ولو كان بسيطاً، على آليّات الانتاج، حيث أن عنصره الجمالي المتفوق يفرض متطلبات جديدة عليها. يعني هذا أن الفنان الجاد لا يستطيع أن يُضحّي بالقيمة الجماليّة لعمله (الشكل) بحجّة التركيز على معنى سياسي أو اجتماعي.

ربما يكون هذا من أهم ما يجدر بنا أن نستخلصه من أفكار بنيامين في المحاضرة. فحتى إن لم نتفق معه بضرورة تغيير علاقات الإنتاج من خلال العمل، تبقى أهميّة تحريره للعمل في مضمونه الفني من أوزار مسؤوليّة التغيير الاجتماعي. فكثيراً ما نرى الشكل يتدهور أمام طغيان المعنى. فتتم التضحية بالشكل من أجل إيصال رسالة إلى الشعب أو المناداة بحقوق هذا أو ذاك. وكأن الغيتار مقابل الـ M16″ استراتيجيّة ناجعة، وكأن غاندي فعلاً دحر الإنجليز.

إذن، الأصليّة والقيمة الجماليّة معايير ثوريّة بحد ذاتها. ولكن يحدث أيضاً التركيز فقط على الشكل بحجة عدم التسيُّس، بينما الحاصل هو نبذ الشكل والمعنى. في كتابه الثابت والمتحوّل، يرجع أدونيس قوى الثبات (الرجعيّة والمحافظة) والتحوّل (الثوريّة والتجديد والتقدّم) السياسيّة والثقافيّة إلى خطوط مذهبيّة في تاريخ الإسلام. يركّز أدونيس على الشعر العربي بشكليه الثابت والمتحول، بطريقة تمكنّنا من تطبيق هذين المعيارين على أشكال الثقافة الموجودة اليوم في العالم العربي. فكما كان يتم تفضيل البلاغة (الشكل) على الفكر (المعنى) في قصور الأمراء ودوواين السلاطين، اليوم يتم تفضيل (على الأقل حتى بداية الثورات) القدرة التقنيّة والمهارة في استخدام الآلات الموسيقيّة على التلحين والتأليف وخلق ما هو جديد. هذه الظاهرة ليست مرتبطة بالعالم العربي بالطبع، فهي موجودة في كل المجتمعات الرأسماليّة كما يشكو أدورنو في مقاله (عن الخاصيّة الفتشيّة في الموسيقى وتراجع السماع) عندما يتحدث عن تبجيل العازف النابغة (الفيرتيوسو). ولكن الظاهرة تفشت في العالم العربي إلى درجة أدت إلى نهش المنظومة الثقافيّة.

تختلط علينا كثيراً معايير التجديد والأصليّة، وكثيراً ما يتنكّر التقليد في ثياب التجديد. كوننا مجتمعات طبقيّة بعداستعماريّة تتشابك فيها الطبقات الوسطى والعليا مع الغرب بشكل استلاب تام، نجد أن التجديد كثيراً ما ينحصر في نسخ أشكال مهترئة من الغرب وإعادة طرحها كما هي باللغة العربيّة، أو حتى بالإنجليزيّة أحياناً. يتنكّر لنا الثابت هنا ويدعي أنه متحوّل، بينما يُقمع المتحوّل ويصبح المنحط والشعبي والغائر. يصبح الجديد هو مجرّد نسخ أشكال متعارف عليها ومستهلكة في الخارج، ويصبح جلبها إلى وسط عربي هو أعلى معايير التجديد. هذا يعني أن التجديد الحقيقي والفعلي يوضعان خارج النطاق المحلي.

ولكن التجديد موجود، وبما أنه أصلي وخارج على النمط المعتاد، فمن الصعب تحجيمه وقولبته في ما سبق. أثمن ما هو موجود في الموسيقى العربيّة الآن هي تلك الأعمال التي تنافي الوصف السهل والتصنيف تحت نوع (جنرا) معين أو تسمية واضحة. بنيامين يذهب للقول أن فور وضع تسمية لنوع ثقافي جديد وتحجيمها بنوع (جنرا) معين، تكون هذه بداية التفاف الآلة الثقافيّة الرأسماليّة حول العمل، وتقنينه وجعل عملياته واضحة وموحدة، وبالتالي سحب كل طاقته الثوريّة والتجديديّة منه. يمكن رؤية هذا بوضوح في تاريخ الراب الأميركي، وانتقاله من بداياته الثوريّة في الأزقة والحقول إلى ضمّه إلى آلة الانتاج الرأسماليّة وتفريغه. وهذا يُمكن قياسه على أي موسيقى جديدة تظهر. لذا فإن هذه الفترة – عندما لا يمكن اختزال العمل في مسمّى تكون في غاية الأهمية. هذه الفترة تحمل كل الطاقة الثوريّة، وإذا لم يتم فيها إنقاذ العمل من فكّي الاستهلاكويّة، سينبش حياً ويُفرّغ من كل أعضائه الحيويّة.

الراب العربي مثلاً يختلف هنا بكونه ما زال لا يطمح إلى عقود مع شركات الإنتاج، ويعطي أعلى قيمة للحريّة المطلقة في الشكل والمعنى، وبهذا يبقى الراب (بأشكاله التي ما زالت نقيّة) خارج دائرة التشييء ومستقلاً عنها. ويمكن رؤية هذا بوضوح في أغاني الراب التي لن تذيعها قنوات راديو في أي وقت قريب ولا يقبلها الغرب الليبرالي أيضاً، ذلك أنها ثوريّة حقاً ولا تستخدم خطابات حقوق الإنسان واللاعنف التي تحوّل الأعمال الثقافية إلى بروباغاندا ليبراليّة.

ولكن هل من الضروري أن نسمّيه راب عربي؟ أليس الراب موسيقى وأليست هذه التقسيمات العنيفة (راب، روك، جاز) طريقة سهلة للوصف والتحديد وفرض قوالب؟ هناك أعمال لا يجمعها سويّاً سوى قيمتها الجماليّة وعدم إمكانية وصفها في نوع (جنرا) واحد. كميليا جبران مثلاً، وتامر أبو غزالة ومصطفى سعيد وآخرون غيرهم. عدم إمكانية وصف أعمالهم وتلخيصها بسهولة مؤشر على جودة عملهم وكم التجديد الذي فيه. دعونا إذن لا نبحث عن ملصقات نلصقها على موسيقانا. دعونا لا نحاول جاهدين أن نسمي هذا روكوذلك شرقيوهذه بديلة“. دعونا نلحق بها معايير تتعلق بالجودة، ولنسميها موسيقى.

المصادر:

أدونيس – الثابت والمتحوّْل. دار العودة – بيروت. ١٩٧٤

1- Benjamin, Walter. “The Author As Producer” New Left Review I/62, July-August 1970 – 6/9 

Benjamin, Walter. “Eduard Fuchs, Collector and Historian”. In Selected Writings Volume III. New York: Harvard University press. 2006.

Benjamin, Walter. “What is Epic Theatre” In Illuminations. New York: Schocken Books. 2007.

Benjamin, Walter. The Origin of German Tragic Drama. London: Verso, 2009.

 (YATF) تنشر هذه المادة بدعم من صندوق شباب المسرح العربي

[{“type”:”media”,”view_mode”:”media_original”,”fid”:”1114″,”attributes”:{“alt”:””,”class”:”media-image”,”height”:”32″,”typeof”:”foaf:Image”,”width”:”200″}}]