.
في نهاية حزيران / يونيو الماضي، أصدر توم يورك، الوجه الأبرز في فريق راديوهِد، ألبومه المنفرد الثالث بعنوان أنيما. تزامن مع صدور الألبوم عرض شبكة نتفليكس لفيلم قصير بنفس العنوان من إخراج بول توماس أندرسون مخرج There Will be Blood. اعتمد الفيلم على ثلاث أغنيات من الألبوم هي: ترافيك، نَت ذَ نيوز، دون كورَس.
أخرج بول توماس أندرسون عدة أغاني لـ راديوهِد من قبل، سواء كليبات أو حفلات مباشرة، إضافةً إلى تعاونه المثمر مع جوني جرينوود، عازف الجيتار في راديوهِد والذي ألف الموسيقى التصويرية لغالبية أفلام أندرسون.
للوهلة الأولى، يبدو أن أنيما لا يقدم جديدًا. حتى التعاون بين يورك المستقل وأندرسون يتجلى كنوع من الديجا-فو. ربما توقع البعض أن يأتي الفيلم كفيديو مكمل لأغاني مثل داي-دريمينج، لكن النهج الذي اختاره يورك، ومعه فريق راديوهِد، كان يقوم دائمًا على الانقلاب والتثوير. كل ألبوم يتمرد على سلفه، مهما كانت درجة نجاحه، مثلما تمرد كيد إيه على أوكيه كومبيوتر.
تحمل الموسيقى والكلمات في أنيما بصمات يورك التي عهدناها مع راديوهِد أو في ألبوماته الثلاثة المنفردة. تردد الموسيقى الأصداء المميزة التي عُرفت بها راديوهِد في ألبوماتها، حيث توظَّف الموسيقى الإلكترونية وصيغ التشويش والضوضاء خالقةً صوت القلق، الثيمة الجوهريّة في الألبوم. تذكرنا الكلمات التي كتبها يورك بجمله الأيقونية رغم غموضها وتبعثرها، لكن عبر التعاون مع بول توماس أندرسون في الفيلم الموسيقي القصير، تبرز خلاصة موسيقى يورك ورؤيته للعالم وأفكاره وهواجسه، كأننا نتعرف عليه للمرة الأولى. من هنا يكتسب أنيما، كفيديو موسيقي، أهمية بالغة.
حسب تصريحات يورك، يجسد الألبوم معاناته الشخصية مع القلق. كما كانت تجربة السفر إلى طوكيو ملهمة أيضًا للألبوم، حيث سببت له نوعًا فريدًا من الأرق، وعرّضه اختلاف التوقيت لتخيلات وصور وهواجس شتى، أقرب إلى الرؤى الذهانية.
يقول يورك إن الطريقة المُثلى للتعبير الإبداعي عن القلق تتجلى من خلال عالم ديستوبي. يستخدم يورك كلمة الديستوبيا لوصف عالم أنيما، ويضيف أن العديد من الصور البصرية كانت تراوده عن شكل المجتمع الديستوبي وعن طبيعة الناس التي تعيش فيه؛ وكان قد وصف من قبل عالمنا اليومي بأنه “كابوس يقظة.”
يبدأ الفيديو بلقطة سريعة داخل نفق ممتد ثم ننتقل إلى داخل عربة مترو. يظهر جميع من في العربة في حالة من الوسن أو النعاس، وفي زي متشابه، متزمت وقاتم. تتبادل شخصية يورك وامرأة أخرى النظرات بين إغماءة وإفاقة، تبدأ بعدها حركات الراقصين الحادة يصاحبها طنين (drone) إلكتروني متقطع.
هنا نلحظ أول سمات الديستوبيا: التماثل، في الملبس والحركة وحتى التعبيرات وردود الأفعال. يعتمد الفيديو على الرقص التعبيري المصاحب لموسيقى وغناء يورك. عُرف يورك بأدائه الحركي المناقض لإيحاءات الموسيقى، فالرقص عنده مقاومة لحالات الكآبة والسوداوية التي تشيعها موسيقاه. في أنيما، حركة يورك موظفة في خدمة السياق الحكائي للفيديو، إذ نرى التناقض بشكل مغاير، إنه تمايز الفرد عن المجموع. يظهر يورك كرجل يحاول الوصول إلى امرأة، رجل يسير ضد التيار، مقاومًا للآلية والموات، للامتثال الذي يبدو عليه الآخرون. هو الوحيد المحتفظ بوعيه وإرادته.
ANIMA – Thom Yorke – Paul Thomas Anderson from Play Bleu on Vimeo.
لا نرى قوى قاهرة بعينها تمنع يورك من التواصل مع المرأة التي أيقظته رؤيتها من سباته، والتي أدت دورها الممثلة الإيطالية دَجانا رونكيون، رفيقة يورك في الواقع، الأمر الذي يزيد من التأكيد على أنه يمكن تلقي أنيما كنوع من السيرة الذاتية، لكن في إطار تعبيري أقرب إلى الحلم.
تسير أحداث الفيلم القصير من النوم إلى اليقظة، ثم تنتهي باستسلام يورك للنوم مرة أخرى، لكن بعد أن يصل إلى المرأة المنشودة. ربما الفيلم محاولة لتصوير الحلم، لاسترجاعه واستذكاره، حيث تشير كلمة أنيما إلى معانٍ عدة، من بينها اسم شركة تقنية ظهرت مؤخرًا في بريطانيا وبدأت بتسويق خدماتها “لمساعدة الناس على تذكر أحلامهم.”
تتضح الملامح البصرية لديستوبيا يورك، إذ يصورها أندرسون كعالم من اللاوعي والنسيان، أو كبرزخ بين النوم واليقظة. تقدم صورة أندرسون نقدًا للوضع القائم كأنها اتهام مبطن للبيوريتانية وادعاءات الصوابية السياسية المتزايدة، حيث يصور الفيديو النزوع إلى التزمت وتقنين الحميمية. لا تمتثل ديستوبيا أندرسون إلى صيرورة قادمة لامحالة بقدر محاولتها نقد ما يحمله وضعنا الراهن من إرهاصات وعلامات تنذر باقترابها.
يؤكد غناء توم يورك على الطبيعة الحلمية لأنيما. يورك هو صوت اللاوعي. غناؤه أشبه بنداءات أو أصداء خافتة في معظمها. يبرز صوت يورك وسط موسيقاه الإلكترونية بوصفه المكون البشري الوحيد بين الضوضاء التي تعمل الإيقاعات الإلكترونية على إنتاجها، صوت الإنسان وسط صخب الآلات، ووسيلته في التأكيد على الفردانية. يخلق يورك مزجًا بين نغمة الصوت البشري مع طنين السنث.
تبدو تراكيب يورك الإلكترونية وكأنها تنبذ اللحن. قام المنتج نايجل جودريتش بعمل مميز في موسيقى أنيما حيث شذّب المقطوعات / الشرائح الإلكترونية التي كتبها يورك، وجعلها جاهزة لاستقبال غنائه.
رغم أن يورك ألف الموسيقى التصويرية لفيلم سوسبيريا، وهو كابوس من الرعب الدموي، تبدو موسيقى أنيما أكثر كآبة، وتخلو أغلبها من البيانو والجيتار خلافًا ﻟ سوسبيريا. يفضل يورك الموسيقى الإلكترونية في التعبير عن المستقبل، كونها تعبر ببلاغة عن عالم تسوده الآلات ويحكمه الذكاء الاصطناعي؛ مثلما انتهج عند بداية الألفية مع راديوهِد في الألبوم العلامة كيد إيه.
ساهم تسلسل الأغاني الثلاثة في التعبير عن القلق، وخلق حالة شعورية ثرية في تنوعها. يبدو إيقاع نَت ذَ نيوز، أولى أغاني الفيلم، الأكثر قتامةً ووحدة بما تحويه من تكرارية ورتابة. تليها ترافيك المغايرة في عمق طبقتها، كأنها تمثل عملية التنقل في الحلم، الطريق الملكي إلى اللاوعي، بتعبير فرويد. أما جوقة الفجر فتبعث على الراحة مع اقتراب النهاية بطبيعتها الغنائية الحالمة. ارتياح أو هدنة بعد مناوشة طويلة مع القلق.
كلمات يورك مزجٌ بين ما يشبه تداعٍ حر للكلمات من ذاكرته الحسيّة، وبين قصائد الهايكو نوع من الشعر الياباني، يحاول فيه الشاعر التعبير عن مشاعر معقدة من خلال ألفاظ بسيطة. تتألف أشعار الهايكو من بيت واحد فقط، مكون من سبعة عشر مقطعًا صوتيًا (باليابانية)، وتكتب عادة في ثلاثة أسطر (خمسة مقاطع صوتية، سبعة ثم خمسة). تبدو كلماته مبعثرة ومتناقضة، في محاولة لتمثيل مكنونات اللاوعي، لا يربطها سياق واضح لكننا نشعر دومًا أن ثمة روابط خفية بينها تحتاج إلى التأويل. ربما صوت يورك هو ما يوحي بذلك، فهو الذي يضفي الأبعاد الذاتية والتواصلية على الأصوات الإلكترونية المتشيئة، وهو الذي يقدم كلماته كنوع من المناجاة الصادقة رغم غموضها.
تنزع موسيقى يورك نحو التجريب حيث يخلق نظامه الخاص الذي يشكك في الحدود الموجودة بين الأداء الصوتي وممارسة الموسيقى. الموسيقى عند يورك ليست ممارسة نخبوية كما في التقليد الأوروبي، بل إنتاجٌ منخرط في اليومي.
يستخدم كارل يونج، مؤسس علم النفس التحليلي، كلمة أنيما لوصف الصورة الداخلية للجنس الآخر، التي تتمثل في الأنيما عند الرجل والأنيمس عند المرأة. يوضح يونج أنه عادة ما تمثل صورة الروح على هيئة الجنس المخالف لجنس الفرد، أي أن صورة الروح لدى الرجل هي المؤنث، الأنيما.
تظهر الأنيما أو صورة الروح في الأحلام والأوهام، ويجري إسقاطها كذلك على الأفراد من الجنس الآخر، ويكون هذا في معظم الأحيان عبر الوقوع في الحب. يبين يونج أن الأنيما دائمًا تقترن مع الإيروس، أو الدافع إلى الحب والحياة. يماثل هذا المعنى ما حاول يورك وأندرسون التعبير عنه: رجل يجد صورة روحه في امرأة، هي مرشده في عالم الأحلام.
كذلك تُظهر كلمات يورك وعيًا فائقًا بمقولات يونج، وبالدلالات المختلفة لمفهوم الأنيما. تعني الكلمة باللاتينية النفَس أو الشعور أو الحياة، وهي حرفيًا التنفس / الهواء، ما يفسر ما يقوله يورك في ترافيك، فبعد عبارات سريالية متتالية مثل: “مرآة – اسفنجة – أرني المال – حفلة مع زومبي ثري” يقول حين يفقد أثر المرأة التي يلاحقها:
“لا أستطيع التنفس
لا أستطيع التنفس
لا يوجد ماء.”