.
الأوبرا المهاجرة | قصة الثارثويلا الإسبانية
أجنبي قديم

الأوبرا المهاجرة | قصة الثارثويلا الإسبانية

أسامة خزام ۲۰۲٤/۰۷/۲۳

هاجرت الأوبرا مرّات عديدة في الفضاء الأوروبي، منذ انطلاقتها أولًا في عصر النهضة من إيطاليا إلى فرنسا وإنجلترا، ووصلت إلى المناطق المتحدثة بالألمانية نهاية القرن السابع عشر. اشتبك هذا المهاجر الجديد مع الفنون المسرحية القائمة، وتفرنس وتأنجلز وتألمن فيها كلٌّ حسب تقاليده في مزاولة الإنتاج المسرحي والموسيقي.

تزامن هذا الانتقال في المكان مع طواف في الدلالات أيضًا، فالكلمة اللاتينية أوبيرا وهي جمعُ أوبوس بمعنى عمل أو جُهد أو مُنجز، أصبحت تعني “أعمالًا أدبية أو العمل في الأدب” عمومًا. كان المعنى الأخير هو الشائع في إيطاليا منذ القرن الثالث عشر حتى السادس عشر إلى أن تحول إلى “تجميعة أعمال” فنيّة أو موسيقية. 

لاحقًا وفي بداية القرن السابع عشر تشعّب المعنى لكلمة أوبرا أكثر ليشمل الأعمال الإبداعية في مجالات الأدب والمسرح والموسيقى. لعل أكثر هذه المعاني استقرارًا واستخدامًا إلى الآن هو “دراما موسيقية مُغنّاة للمسرح”.

أمّا الأوبريت فهي في حقيقة الأمر تصغير للأوبرا من حيث المدة والقصة والتوزيع الأوركسترالي. وُصمت الأوبريت عبر تاريخها بانعدام الجدية وانخفاض القيمة الجمالية أو الفنية، فوضعت الأوبريت “الخفيفة” على النقيض من الأوبرا “الجادة”.

تُغفل هذه القصة القصيرة – كما قد تفعل الدراسات الطويلة أحيانًا – محطةً اتخذها هذا الفن في أوروبا، وهي إسبانيا.

لماذا تدعى ثارثويلا

اقترنت المسرحيات الموسيقية في أواسط القرن السابع عشر في إسبانيا باسم قصر الضيافة الملكي الذي كانت تؤدّى فيه لأسباب وظيفية، مثل حفلات التتويج والأعياد والمناسبات الدينية أو لتسلية الضيوف والزوار. يدعى القصر الواقع غرب العاصمة مدريد قصر الثارثويلا الملكي. احتفظت الموسيقى بالاسم، وانفكّت تدريجيًا عن المكان، وأصبحت كلمة ثارثويلا تصف الأوبريت الإسبانية حتى ضمن اللغات الأوروبية الأخرى.

كانت البدايات مع اثنين، ممن يمكن الجزم أنهما مؤسِّسا الأوبرا الإسبانية، في سياق القصر الملكي المذكور؛ هما الشاعر بيدرو كالديرون دي لا باركا، وعازف الهارب خوان إيدالجو. لم يصل لنا من أعمال هذه الفترة إلا القليل، إذ أنّ معظمها ضاع أو استحال إلى أغانٍ وألحان شعبية. لكن الكامل منها على أيّة حال لا يشير إلى اختلاف شديد مع الأنماط السائدة في عصر الباروك من نواحي التأليف أو التوزيع.

في القرن الثامن عشر سيطرت النغمة الإيطالية على المشهد الأوروبي بشكل شبه كامل، فحجبت كل الإنتاجات المحلية، حتّى أنّ إسبانيا نفسها أصبحت قبلة للنبلاء وجاذبة للموسيقيين الإيطاليين من أمثال دومينيكو سكارلاتي ولويجي بوشيرني. بالمقابل شهدت المرحلة ذاتها هجرةً معكوسة لدى الموسيقيين الإسبان إلى وسط أوروبا، ربما أبرزهم فيسنتي مارتين إي سولير، الذي عاصر موتسارت في فيينا، وألف فيها أوبرا أونا كوسا رارا. لاقت هذه الأوبرا قبولًا جماهيريًا كبيرًا تفوّق على أوبرا فيجارو لموتسارت الصادرة في نفس السنة. جدير بالذكر في هذا السياق أن موتسارت نفسه، وهو من أهم الموسيقيين الألمان في فيينا، كان خاضعًا للشرط ذاته وقام بكتابة معظم أوبراته الشهيرة بالإيطالية.

مع انتشار النفس القومي والرومانسي في القرن التاسع عشر في أوروبا بدأت الثارثويلا الإسبانية تعود إلى المشهد في انعكاس لرغبة في خلق هوية إسبانية موسيقية مستقلة. كان الشكل المسرحي الغنائي للأوبرا مناسبًا تمامًا لمعالجة نصوص إسبانية باستخدام موسيقاها ورقصاتها الشعبية، ضمن إطار فنّي لم يسبق أن تحدّث لغتها أو قصّ حكايتها.

كان فرانثيسكو أسِنخو باربيِّري أبرز مؤلفي هذه الفترة وأكثرهم قدرة على إدماج العناصر الرومانسية المحلية في القالب الأوبرالي المعقد، فكتب ثارثويلا بان إي توروس التي تتحد شخصياتها في النهاية بعد الدراما والصراع، لتجدد البيعة لإسبانيا، وتؤكّد يقينها بقدرة الأمّة في الدفاع عن نفسها ضد الغزاة الفرنسيين.

بعدها بعقد من الزمن ألّف باربيِّري حلاق لابابيّس الصغير، وهو الحي المدريدي، ربما كتلاعب لفظي على حلاق روسيني الإشبيلي. يواجه الحب هنا في لابابيّس مصاعب وتحديات خطيرة، ينكسر ويكاد يختنق، لكنّه ينتصر، ويتوّج العرض بزواج المتحابّين في سعادة غامرة في نهاية الأمر.

مذاك الوقت انهالت الأوبريتات الإسبانية على المسامع فبرز مؤلفون كثر، منهم إميليو أريتا، وفيديريكو تشويكا، وربما أبرزهم توماس بريتون. عَبرت أغنيته دوندي باس كون مانتون دي مانيلا من ثارثويلا لا بيربينا دي لا بالوما المسافات حتى وصلت إلى بوينس آيريس، واحتفى بها الجمهور أشهرًا طويلة في مسارح دور الأوبرا. 

حقق بريتون نجاحًا آخر في عمله التالي لا دولوريس من عام ١٨٩٥ عندما دمج فيها رقصة شعبية إسبانية تدعى خوتا، وهي رقصة ثلاثية أو سداسية (٣/٤ أو ٦/٨) نشأت في منطقة أراجونيا على الحدود مع فرنسا.

خلقت شهرة بريتون سياقًا لمعاصريه وللجيل القادم من الموسيقيين الإسبان، للبحث عن حكايات محلية لمعالجتها دراميًا وموسيقيًا. تحقق ذلك فعلًا عند روبيرتو تشابي في ثارثويلا ريفولتوسا التي كرّرت الأسلوب نفسه وأخذت من الألحان الشعبية، فلاقت قبولًا كبيرًا عند الجمهور الإسباني. تلاهما أماديو بيبيس بموسيقى ساحرة على إيقاع الفاندانجو، وهي الرقصة الشهيرة المترافقة مع الصنجات، في أوبرا دونيا فرانثيسكيتا.

يتابع باولو لونا مع بداية القرن العشرين ويؤلف العديد من الأعمال، منها إل أسومبرو دي داماسكو (معجزة دمشق) في عام ١٩١٦. في فاتحة هذه الأوبرا (بريلوديو)، يستفيق الصبح فوق دمشق، ويتدفق ضوء الشمس بهدوء على حوانيت المدينة الخالية، عبر أصوات الوتريات. يبدأ بعدها بقليل صوتٌ كأنّه الأذان يقول: “لا تنسَ أيّها المؤمن، أنّ محمّدًا يُرسل أول ضياء الفجر.”

أوبرا لا تُحتمل خفّتها

لم تضع الثارثويلا نفسها في مواجهة حقيقية مع الأوبرا أبدًا، إلا ربّما في سياق دفاعيّ في وقت ما من القرن السابع عشر في مواجهة الطوفان الإيطالي، لكن الحال كان كذلك في ألمانيا أيضًا. انتهى هذا مع ظهور الدول القومية والالتفات الرسمي والشعبي إلى التراث المحلّي. لكن، موسيقيًا، تصغر المسافة بين “الخفّة” و “الجدّية” مع كل ثارثويلا، ليصبح من غير الممكن الفصل بينهما حتى على المستوى التقني. حتّى أنّ ذلك كان محيرًا لمؤلفين كبار من أمثال جورج بيزي، شتراوس الابن، أو الإسباني المخضرم مانويل دي فايا.

يمكننا فقط القول أنّ كلاهما يتحركان في المساحة بين الهزل والدراما. تذوب الحدود فيهما فنرى من جهّة مشاهدًا تعج بالألوان في الكرنفالات أو الأعراس وتصدح فيها الأغاني الشعبية وتتراقص الأقدام على إيقاعاتها التقليدية، ثم ما تلبث في مشاهد أخرى أن تهدأ خشوعًا للوطن أو الكرامة أو الحب.

الثارثويلا اليوم 

حرصت الحكومة الإسبانية منذ خمسينيات القرن الماضي على الحفاظ على الثارثويلا كجزء من الذاكرة الموسيقية الوطنية، من خلال تقديمها في محطات الراديو وتسجيلها وأرشفتها، بفضل جهود المؤلف والمايسترو أتاولفو أرخِنتا.

يعدّ تياترو دي لا ثارثويلا المسرح الحكومي الوحيد الذي لازال يدرجها في برامجه السنوية. فمثلًا يضم برنامج موسم ٢٠٢٤/٢٥ أعمالًا أوبرالية متنوعة، إسبانيّة وأمريكا-لاتينيّة وغيرها، منها ثارثويلا مذكورة هنا مسبقًا وهي ريفولتوسا للمؤلف روبرتو تشابي، التي ستعرض في أبريل القادم. كما يحرص المسرح أيضًا على القيام بمبادرات موسيقية تعليمية، بالتعاون مع أوركسترا الشباب الوطنية الإسبانية، منها مشروع ثارثا وهو ثارثويلا من الشباب إلى الشباب لتعريفهم بالأعمال الأكثر شعبية من هذا النوع.

لم تعد الثارثويلا تتصدر مشهد صناعة الموسيقى في أوروبا أو حتّى في إسبانيا، وتُعامل معاملة النوع الطربي في الغناء في المنطقة العربية، أي كتُراثٍ يجب الإبقاء عليه وتداوله.


كل الأوبرات المذكورة من القرن ١٩ في هذا المقال، وأكثر، تجدونها مجموعة في بلاي ليست واحدة.

المزيـــد علــى معـــازف