.
تأخذ الأغنيّة العربيّة والمصريّة أشكالاً وقوالب عديدة، منها: الموشح، الدور، الطقطوقة، والمونولوج الغنائيّ والمونولوج الفكاهيّ الانتقاديّ. ومما سبق سنركز على المونولوج الفكاهيّ الانتقاديّ الذي يطرح ظاهرة أو مشكلة اجتماعيّة بشكل ساخر وكلمات عامية سهلة. كلّ ذلك يحدث داخل أُطر لحنيّة خفيفة، سريعة، ومُبهجة، تتناسب مع الكلمات.
من عمالقة هذا الشّكل الغنائيّ: بديع خيري، بيرم التونسي، فتحي قورة، أبو السعود الإبياري، حسن الإمام، إبراهيم عاكف وغيرهم. على الطرف الآخر هناك كبار الملحنين والموزعين مثل: منير مراد، محمود الشريف، عزت الجاهلي، علي إسماعيل، أحمد صبرة وزكي عثمان. خرج المونولوج الفكاهيّ عبر أصوت متمكّنة من أدواته وعلى رأسهم اسماعيل ياسين، محمود شكوكو، سعاد مكاوي، عمر الجيزاوي، وثريّا حلمي التي حلّت مكانتها في القمة، ومن أوائل مُؤدِيه في تاريخ الأغنية المصريّة.
وُلِدت ثريّا علي محجوب في مدينة مغاغة، في محافظة المنيّا، يوم ٢٦ أيلول/ سبتمبر العام ١٩٢٣. تجوّل والدها علي محجوب، وكيل فنانين، في المدن والقرى المصريّة، ويسافر خارجاً ليرّوج لفنانيه، الأمر الذي جعل ثريّا تقضي مرحلة من طفولتها في دمشق. اتّسمت طفولتها بالغناء والسفر والموسيقى، خصوصاً بعد أنْ اتّجهت شقيقتها ليلى حلمي للغناء. في ذلك الوقت كانت ثريّا ما تزال طفلة تلهو في الجوار، تتجول في مسارح عماد الدين، حتّى تسقط من التّعب، وتخلد إلى النوم في أي مكان.
في منتصف الثلاثينيّات سافرتْ شقيقتها ليلى مع الراقصة ببا عز الدين في رحلة إلى تونس والمغرب، وبدأت تعمل معها في صالتها في عماد الدين، وقرّرت أنْ تقدّم شقيقتها الصغرى ثريّا كمؤديّة منولوج إلى ببا عز الدين. لمْ تبلغ حينها ثريّا الخامسة عشر، ولكنّها تشبّعت بالموسيقى والرقص طوال فترة طفولتها، وحفِظت أغلب المونولوجات التي كانت تُغنى في تلك الفترة. ميّزها أيضاً أنها لمْ تهَبْ الوقوف على خشبة المسرح في مواجهة الجمهور.
وافقت ببا عز الدين على وضع ثريّا في فترة اختبار مدّتها شهر كامل، وقدمت ثريّا أول عرض لها. تَذكر ثريّا أنّ كبار المونولوج العربي حينها كانوا يعملون في صالة ببا. هناك تعرفتْ ثريّا على عفيفة إسكندر من العراق، سيد سليمان، إسماعيل ياسين، فتحية الشريف، فتحية محمود من مصر، ومن لبنان نادية العرير، ومن فلسطين أنصاف محمد. قدّمتْ ثريّا في أولى عروضها مونولوج سيكا ميكا، ومونولوج شاور عقلك على مهلك. كان الأول من تلحين عازف البُزق السوري الشهير محمد عبد الكريم، والآخر لملحن لبناني لا نعرف اسمه. ما كان لِليلى إلا أن تنجح في الاختبار لتقبّل وتجاوب الجمهور لأدائها. استمرت ثريّا في العمل مع ببا لمدة ست سنوات، عرضتْ خلالها عدة مونولوجات ناجحة بمفردها، وبصحبة آخرين كإسماعيل ياسين.
بعد النجاح في بيت النجوم شارع عماد الدين، وتحديدًا في صالة ببا عز الدين، كان لابدّ من خطوة اقتحام عالم السينما. دخلت ثريّا ذلك العالم بين استحياء وثقة في آنٍ واحد، وكانت البداية في فيلم حياة الظلام ١٩٤٠، ومونولوج كلّ شيء جميل من كلمات بيرم التونسي وألحان عزت الجاهلي. ثمّ قدمت تلك الثريّا فيلمها الثاني عام ١٩٤٢ من كلمات: أبو السعود الإيباري، منولوج اشتاتًا اشتات وإما انت جريء والله من ألحان محمد صبره. وكان ذلك خلال عمليّة بحثها عن أسلوبها الخاصّ، ولمْ تكن قد بلغت عامها العشرين بعد.
بعد نجاحها كمؤديّة منولوج، وقطاف ثمار التعاون بينها وبين إسماعيل ياسين داخل صالة ببا عز الدين، اِنطلق الثنائي، ثريّا وإسماعيل، في عالم السينما أيضًا، وعرضا عدداً كبيراً من الأفلام، والمونولوجات الناجحة، منها فيلم تحيا الستات ١٩٤٤، مونولوج تحيا الستات كلمات: أبو السعود الإبياري، وألحان: عزت الجاهلي، وفي ذات العام عُرض مونولوج أنا كده طبعي كده، من فيلم من الجاني، أيضاً من ألحان عزت الجاهلي.
في أواخر الأربعينيَات، بعد تقديم عروض كثيرة في سوريا ولبنان، انتقلت ثريّا حلمي إلى فرقة بديعة مصابني، بوساطة ألفريد أنطوان عيسى، ابن شقيقة بديعة مصابني، زوج ببا عز الدين، الذي تزوّج ثريّا فيما بعد.
استمرّت ثريّا في تقديم المونولوجات وقدمت عروضاً كثيرة، وكانت مؤدية المنولوج الوحيدة في صالة بديعة مصابني لعام كامل. بعد ذلك، طلبت ثريّا من بديعة أن يشاركها اسماعيل ياسين في تقديم المونولوجات، وحدث ذلك. أثمر نجاح هذا التعاون حتى الخمسينيّات، وشمل أفلاماً مثل آمنت بالله ١٩٥٢، و حلاق بغداد ١٩٥٤، ومونولوج سوق الجمال، حيث شارك كارم محمود في بطولة الفيلم، وغنى مع ثريّا استعراض بتفكر ليه، وقدم الثلاثيّ استعراض ناولنا الكاس. لحن الفيلم بالكامل كارم محمود.
ومن أهم المحطات فيلم إسماعيل يس يقابل ريّا وسكينة (١٩٥٥)، وأغنية ثريّا حلمي الشهيرة كان له بيتين. ورغم النجاح الهائل في السينما، إلا أنّ ثريّا لمْ تترك الغناء في الصالات. ما يميّز ثريّا حلمي أيضاً هو أنّها لم تلقِ أيّ نكت خلال حياتها، كما كان شائع ومتعارف عليه من أيّ مونولوجست في ذلك الوقت، كما أنها لم تقلد أحداً في حياتها، سوى اسماعيل ياسين وسيد سليمان، في بداياتها، عندما عمِلا معها في نفس المكان صالة ببا عز الدين.
قدّمت ثريّا أكثر من ٣٠٠ مونولوج، على مدار أكثر من ثلاثين عاماً، كان لعلي اسماعيل النصيب الأكبر في تلحينها وتوزيعها. وجد علي اسماعيل – وهو الذي بدأ كعازف ساكسفون– في صوت ثريّا ما كان يبحث عنه، ليقدّم الجاز الشرقي. ثمّ معاً قدم الاثنان ألحان جاز مبتكرة، أدّتها فرقة تتكون من الإيقاع وآلات النفخ. تمكّن علي إسماعيل من دمج الموسيقى الشرقيّة مع الجاز، وصنع لوناً جديداً لم ينافسه فيه سوى منير مراد. استغل علي اسماعيل صوت ثريّا بكل ما فيه من قوة وبهجة وخفة وتلقائية. من أهم ثمرات هذا التعاون، مونولوج عيب اعمل معروف، كلمات: إبراهيم عاكف.
قدم الثلاثيّ عدة مونولوجات ناجحة جدًا، ومهمّة في تاريخ ثريّا حلمي الفنيّ، أهمها مونولوج “لا تؤجل عمل اليوم إلى الغد” الذي خلط بين الفصحى والعاميّة.
كانت ثريّا تلتقي مع إسماعيل يوميًا في بيته، في الدقي، وكانا ينتجان بغزارة. من المونولوجات المشهورة لهم، مونولوج من كلمات أنيس أمين (أول مونولوج لثريّا في الإذاعة المصريّة) نستمع إليه من احتفال الإذاعة المصريّة باليوبيل الفضي عام ١٩٥٩، ونلاحظ قوة صوت وحضور ثريّا على المسرح، وتفاعلها مع الجمهور. واستخدم عزت الجاهلي ذلك المونولوج في عرض عنبر العقلاء مع إسماعيل ياسين.
لعلي إسماعيل وثريّا ضلع ثالث، هو الأهم في كل المونولوجات والاستعراضات، خلال أكثر من ثلاثين عام. هو فتحي قورة، الذي لحّن أهم مونولوجات ثريّا المنسيّة، منها مونولوج مختلف وغريب، كعادة قورة، يلعب بالكلمات كما يشاء، المونولوج صعب الشرح، يتحدى فيه قورة كل كتاب الأغاني في حينها، بكلّ بساطة، المونولوج يتألف من ثلاث فوازير، وفي نهاية كل فزورة تطرح ثريّا السؤال، وتتحدى الجمهور: إنْ كنت ذكياً يمكنك الإجابة على الثلاث فوازير من أول محاولة.
ما يميّز مواضيع المنولوجات في أعمال ثريّا حلمي، أن أغلبها داخل إطار مشاكل إنسانيّّة بحتة، أي من الدرجة الأولى، ولم تكنْ مشاكل عنصريّة، أو دينيّة، أو طبقيّة، هي مشاكل تمتاز باستمراريتها عبر الزمن، ولا تفقد معنى طرحها في أي وقت، وبالتالي تجلّى كأعمال فنيّة لا تفقد صلاحيتها، بل إنها تتناسب مع زمننا الحاضر، الذي غلبت عليه، وطفت على سطحه، مشاكل وأزمات إنسانيّة كثيرة، تعدّ ولا تحصى.
يستمر قورة في نقد المجتمع بسخرية وجماليّة، جنباً إلى ثريّا حلمي، والملحن أحمد صبره. لكن، هذه المرة ينتقد المونولوج ظاهرة التحرش في الخمسينيّات، لنسمع مونولوج يصلح غنائه الآن حتى من دون توزيع جديد.
قالتْ ثريّا حلمي في برنامج تلفزيونيّ، إن مشكلة ندرة المونولوجات، مع نهاية الستينيّات، وبداية السبعينيّات، كان سببها الكتابة. كتابة المونولوج تعدّ من أصعب أنواع الكتابة الغنائيّة، وأقلها شهرة، وعائدات ماديّة.
تستمر ثريّا ومعاونيها، من كتاب وملحنين، بتقديم مونولوجات مرتبطة بشخصيات، أو أحداث عالميّة كمونولوج يحمل اسم بروتس، وبالتحديد “حتى أنت يا بروتس“. كما فعل فتحي قورة مع اسماعيل ياسين في فيلم “الحب بهدلة” (١٩٥٢)، وجعل إسماعيل ياسين يقول في مونولوج “الحب بهدلة” جملة: “وتشوفوا الحب اللي يودي من الخانكة لجبل الطور، كما قال الشاعر الإيرلندي برنارد شكوكو المشهور“، فغنت ثريا حلمي: “حكمة عظيمة حتى قديمة وسمعتها من فكتور هوغو. كان بيقول إن دخول الحمام مش زي خروجه“ ألحان أحمد صبره.
كثر الحديث عن أغنية حب إيه (١٩٦٠)، أول تعاون فني بين بليغ حمدي وأم كلثوم. ما لا يذكر كثيراً هو أن الأغنية كتبت لتكون مونولوجاً تؤديه ثريّا حلمي. في تسجيل قديم، يحكي الموسيقار صلاح عرام إن أغنية حب إيه كانت مذهب لمونولوج ستغنيه ثريا حلمي من كلمات عبد الوهاب محمد وتلحين بليغ حمدي، وإن في جلسة في مسرح القومي بالإسكندرية بصحبة علي إسماعيل وبليغ وعبد الوهاب محمد، فطلب علي اسماعيل من عبد الوهاب محمد أنْ يكتب مونولوج لثريّا، فقال له أنّه يملك مذهب أغنية جديدة يقول “حب إيه اللي أنت جاي تقول عليه“، وعندما سمعته أم كلثوم المذهب أعجبت به، وطلبت تحويل المونولوج لأغنية، لتغنيها، وتذهب أغنية من ثريّا إلى الست، وربما عندما غنى محمد سعد أغنية حب إيه في اللمبي في إعادة الأغنية ما كانت عليه، إلى شكلها المونولوجيّ الساخر، بغض النظر عن هبوط جودة التوزيع.
وقبل تلك الواقعة بقليل، تحديداً العام ١٩٥٥، غنّت ثريّا حلمي في فيلم أحلام الربيع، مونولوج على نفس لحن وكلمات أنا في انتظارك ١٩٤٣ لأم كلثوم، وكان المونولوج من كلمات السيد زيادة وألحان حسن أبو زيد.
https://youtu.be/iCQL12GXlqQ?t=39m48s
عمل الثنائيّ السيد زيادة وحسن أبو زيد مع ثريا حلمي في فيلم بشرة خير العام ١٩٥٢، وبالتحديد في نشيد مصر والسودان، حيث أنشدت ثريّا بالفصحى وبصحبة شادية. غنت ثريّا وشادية معاً أيضاً في نفس الفيلم أغنية أنا خايفة أكون حبيت كلمات جليل البنداري وألحان عزت الجاهلي.
غنّت ثريّا عدة أغاني دينيّة، أشهرها رمضان كريم، بشكل ساخر وانتقادي لمفهوم الصيام عند الناس، ومع الصورة الغنائيّة بعنوان قبل المغرب مع شفيق جلال ومحمود شكوكو.
كما كان لثريّا نصيب من المونولوجات الوطنيّة، مثل مونولوج عن الوحدة الوطنيّة مع سوريا “ده دا ده دا“ كلمات إبراهيم كامل رفعت، وألحان علي إسماعيل، وأغنية ثلاث ثورات حول الوحدة بين مصر وسوريا وليبيا كلمات محمد عثمان خليفة وألحان زكي عثمان. ومع ثورة ١٩٥٢، وظهور حملات التطهير التي قامت بها الثورة، غنّت ثريّا مونولوج “قف من أنت” من كلمات أبو السعود الإبياري وألحان محمود الشريف، لتشجّع على هذه الحملة.
شاركت ثريّا في عدة مسرحيات خلال مسيرتها الفنيّة، وبالمقابل عدة مسلسلات، أشهرها حكايات هو وهي (١٩٨٥). وشاركت بشخصيتها الحقيقية في مسلسل عجيب أفندي مع إسماعيل ياسين العام ١٩٧١، قدمتْ فيه أغنية أحب البلدي، التي قدّمتها قبل ذلك في فيلم الزهور الفاتنة (١٩٥٢). قدّمت في الفيلم مونولوجات أخرى مثل أبين زين وأقرا الكف والفنجان، ومع أن الفارق بين الفيلم والمسلسل يقترب من العشرين عاماً، إلا إنك لا تشعر بذلك الفرق في أداء وحركة ثريا التي اقتربت من الخمسين آنذاك. المسلسل كان إنتاجاً لبنانيّاً، ورافق ثريا حلمي فيه عازف الكمان عبود عبد العال وفرقته.
https://www.youtube.com/watch?v=xpnwKzUic3k
لثريّا حلمي مونولوجات عديدة ومشهورة كمونولوج كنت فين يا علي، وإدي العيش لخبازه، حيث نشاهد قدرتها على الرقص والتفاعل مع الفرقة والجمهور في إحدى حفلاتها. كما تطرح في مونولوج فيه ناس متريحش بتاتا، وهو من أجمل المونولوجات، فكرة المشاكل في العلاقات العاطفيّة بسخريّة عالية، تقول في الأغنية: “ما تبصليش بالشكل ده وتقول دي مالها مقدد ده مش رجيم. ده أنت السبب أنا كنت أتخن من كده“.
بهذه المسيرة الحافلة استحقت ثريّا حلمي لقب ملكة المونولوج في مصر والوطن العربي. استمرّت ثريّا في التمثيل حتى العام ١٩٩٢، وبعد مسيرة فنيّة، وغنائيّة طيلة أكثر من نصف قرن، رحلت عنا ثريّا حلمي في التاسع من آب/ أغسطس العام ١٩٩٤، قبل أقل من شهر من عيد ميلادها الواحد والسبعين.