جوان صفدي معازف أجمد مراجعة عمر بقبوق
مراجعات

إجمد | جوان الصفدي

عمر بقبوق ۱٦/۰۲/۲۰۲۱

مع تراجع الروك كجنرا مهيمن عالميًا، انقسم جمهوره إلى نصفين: نصف من هواة موسيقى الجيتار، يقولون إنّ الجيتار أقدم من الروك وسيبقى حاضرًا في جنرات أخرى بعده، ونصف آخر يعتقد أن الروك قادر على تجاوز الجيتار كآلته الرئيسيّة وأخذ أشكال جديدة. يصعب بالفعل فصل معظم موسيقيي الروك البارزين اليوم عن السنث والإندي بوب، للجوئهم المتزايد نحو الموسيقى الإلكترونيّة والسنث وبيتات الهيب هوب والتراب وتوزيع النيو سول. بالإمكان ملاحظة هذه النزعة لدى موسيقيي حجرات النوم (bedroom musician) مثل جابانيز بريكفست والفِرَق التي تلعب الحفلات الرئيسيّة في المهرجانات مثل ذَ فامباير ويكند.

طرح جوان الصفدي ألبومه الجديد، إجمد، دفعةً واحدة، وأشار عبر منشورٍ على فايسبوك إلى أن طرح الألبوم كاملًا في الزمن الحالي ضربٌ من الجنون، لأنه من الناحية التسويقية اليوم لا يختلف كثيرًا تلقي أغنية منفردة عن تلقي ألبومٍ كامل؛ لكنه قام بذلك لأنّ إجمد ألبوم مفاهيمي (concept album)، من المفضّل الاستماع إليه دفعةً واحدة وبالترتيب، ليتمكّن المستمع من عيش الرحلة الطويلة العابرة للأغاني على مدى الألبوم.

منذ بداية مسيرته وحتى ألبوم ابعد عن الشرق وغنيله، قدّم جوان الصفدي شكلًا مألوفًا من الروك الملتزم، يلعب في تقاطعات الشخصي والسياسي، ويميل نحو الأخير. أصدر جوان من قبل أغانٍ عاطفية وذاتية، كما في ألبوم نمرود الذي تسببت أغانيه يومًا باعتقاله في الأردن بتهمة ازدراء الأديان، إلا أن تلك الأغاني كانت دائمًا ما تمر على الهوامش، أو تضيع في ظلّ موسيقى الفولك، كما هو الحال مثلًا في أغنية المسيني؛ على نحوٍ يوحي بأنّ جوان لا يتناول هذه الموضوعات دون إيجاد مبررٍ أو سندٍ لها، فيلجأ إلى التراث.

إلى جانب تقديم إجمد كألبوم مفاهيمي، تتوزّع أغاني الألبوم على جزأين، أو وجهين متناظرين، بطريقةٍ تحاكي توزيع الألبومات على أشرطة الكاسيت. كل أغنية من أحد وجهي الألبوم تقابلها أغنية مناظرة على الوجه الآخر، ويلعب هذا التقابل دوره في اكتمال لوحة البطل واتضاح صورته. أصبحت هذه الطريقة في توزيع الألبوم على وجهين مألوفةً خلال العقد الأخير، بعد اتجاه العديد من شركات إنتاج الموسيقى الإلكترونيّة المستقلّة إلى إصدار تسجيلاتها على وسائط غابرة، مثل أشرطة كاسيت. اتسع هذا الترند ليشمل الروك والبوب البديل والمستقل، وصار الموسيقيون يوزّعون ألبوماتهم على وجهين حتّى عندما تصدر على الإنترنت فقط.

يحكي الألبوم قصة علاقة حب غريبة الأطوار وغير مشبعة، تتعدى فيها العلاقة مع الذات حدود العلاقة مع الآخر. تُروى هذه القصة على جزأين. تبدو أغنية ريباوند، التي يفتتح بها الصفدي الوجه الأول، وكأنها استعادة للحظة من الماضي، لحظة بداية العلاقة، يحوّلها جوان إلى موّال شامي. بالتناظر مع هذا المشهد، يفتتح الجزء الثاني من الألبوم بأغنية ملزق، التي تمثِّل العودة الحتمية إلى قصة الحب التي يجد نفسه عاجزًا عن نسيانها، يردد فيها: “ليه بضلني برجع ليه”، ليشير إلى أن الريباوند، أو الارتداد نحو البداية، أمرٌ يحكم بداية كل فصل جديد في الحكاية.

في الأغنية الثانية، مشتاق، تبدأ معالم شخصية جوان الصفدي العاطفية بالاتضاح؛ كشخصٍ يكابر ويحاول كبح مشاعره طيلة الوقت، يقول: “مشتاقلك مش مشتاقلك”، وكأنه يسائل نفسه بعد أن ينطلق من الإنكار. نسمعه في الأغنية النظيرة لـ مشتاق، وهي حالي، يقول: “اشتقت لأيام ما كنت بشتاق”، في ارتداد آخر نحو البداية. خلق هذا التقديم صوتين متعارضين في داخل الصفدي، أحدهما عاطفي ومنفتح، والآخر يميل إلى الإنكار والمكابرة.

مع الأغنية الثالثة، إجمد، يصبح الصفدي مدركًا لثنائية الأصوات المتعارضة داخله، يخاطب نفسه: “إجمد إجمد يا حساس، الخزانة ملانة كياس، كل كيس نفس التعريض”، وكأنه يفاوض أناه العاطفية للتخلي عن  بعض طباعها. يستخدم جوان عبارات يصعب فهمها دون الالتفات إلى الأغنية المناظرة لـ إجمد، حسّيت، التي يقول فيها: “لملمتلك أغراضك، حطيتهن بكيس كبير واستنيت.”

تصبح الأصوات الداخلية المتعارضة أكثر وضوحًا في الأغنية الرابعة (مهموم) ونظيرتها (تتلاشى)، حيث يستخدم جوان صفدي الحكي والراب لتجسيد صوت العقل، والغناء لتجسيد صوت العاطفة. تأخذ مقاطع الراب والسرد في الأغنيتين شكل نصائح أو أوامر يجب تنفيذها، موجّهة نحو الذات، مثل: “خلص بيكفي هبل / شطب وانسى حتى لو صعبة / تكنش ولد يا أبو الشباب / اكتب أغاني / سكر هالباب بيفتح مية باب / سكر الفيسبوك رتب تختك كنس الأرض مشي كلبك …”،  بالإضافة إلى جمل يذكرها الصفدي وكأنها مسلّمات ينبغي قبولها: “فش إشي بستاهل كل هالزعل / آخرتها تتلاشى.”

ينهي جوان الصفدي وجهي الألبوم بصوتٍ عاطفي، في أغنيتي مجير وقيل وقال، اللتان يؤديهما برومانسية على أنغام جيتار رقيقة. يفتتح هاتين الأغنيتين ويختتمهما بصوت تشغيل شريط الكاسيت وإقفاله. مع ذلك، تسلك النهايتان دربين مختلفتين، فتبدو أغنية مجير كدعوة إلى التراجع والعودة، حتى ولو كانت عودة خاطفة تقتصر على اعتذار. أما أغنية قيل وقال فيبدو فيها جوان أكثر تسليمًا بحتميّة النهاية.

عبر الألبوم، نشهد جوان يستكشف اتجاهاتٍ جديدة على مستوى التوزيع. انخفض عدد الأغاني التي تعتمد بشكل رئيسي على الجيتار إلى اثنتين من أصل عشرة، بعد أن هيمنت أغاني الجيتار على ألبومات جوان السابقة. في المقابل، ازداد اعتماده على الموسيقى الإلكترونية بشكلٍ ملحوظ، حيث أدخلها على أعماله بخفّة تتناسب مع أسلوبه الخاص في الإندي روك. صاحب ذلك تنويعٌ في أسلوب الأداء، ليكتفي تارةً بسرد الكلمات أو حكيها ببساطة، ويصعّد النسق أحيانًا ليبدو وكأنه يؤدّي مقاطع راب قصيرة. عندما يغني، يؤدي بخفة ورومانسية مفرطة أحيانًا، ويتمرد على رومانسيته أحيانًا أخرى بصرخاتٍ مخنوقة أو جهيرة، كما يلجأ في بعض الأغاني إلى أساليب أداء أكثر شعبوية. مع ذلك، تبقى روح البنك قويّة الحضور طيلة التسجيل.

في العديد من اللحظات، بدا هذا التنويع متعارضًا مع فكرة الألبوم المفاهيمي الذي يجب سماعه من الأوّل إلى الآخر بالترتيب. كان صعبًا في الغالب التقاط ثيمة تربط الأغنية بالأخرى، إلّا أن ثيمة التناظر بين وجهي الألبوم كانت تضفي بعدًا إضافيًا إلى تجربة السماع، كيفما حصلت هذه التجربة.

ترافق صدور إجمد باعتذار جوان من الناس التي لن يعجبها الابتعاد عن الروك وعن الموسيقى الملتزمة، لكن ربما كان هذين العنصرين أكثر ما جعل إجمد إضافةً هامّة إلى الموسيقى الشاميّة البديلة هذه الفترة. إجمد ألبوم يكبر مع الروك، يأخذ أشكالًا جديدة، ينظر بعيون عفويّة إلى زوايا شخصيّة وحميمية من صراعاته الشخصيّة، ويدعونا إلى العثور على شيءٍ منّا فيها.

المزيـــد علــى معـــازف