أجنبي قديم

عن سحنة الدخيل | جورج موستاكي المنفي مرتين

ياسر عبد اللطيف ۱۰/۰۳/۲۰۱۷

أثار فوز المغني والموسيقي الأمريكي بوب ديلان بجائزة نوبل للأدب جدلًا واسعًا في الأوساط الأدبية، كان لنا في السياق العربي منه نصيب لا بأس به بين اعتبار ديلان شاعرًا كبيرًا فيستحق الجائزة أو لوجوب التفريق الحاد بين الشعر بما هو فن رفيع، وشعر الأغنية كفن تابع للموسيقى والأداء، أي فن من الدرجة الثانية. من جانبها شاركت معازف في الجدال بتفكيك نقدي لسردية مؤلف كوب قهوة آخر للطريق قدمه عمار منلا حسن في مقال واف بعنوان أدب بوب ديلان.

كان جدال مماثل قد دار – على نطاق ضيق في فرنسا صيف عام ١٩٧٣ أعقاب صدور كتاب أسئلة للأغنية[Mtooltip description=” Questions à la chanson” /] للمغني الفرنسياليونانيالإيطالي مصري المولد جورج موستاكي[Mtooltip description=” ١٩٣٤ – ٢٠١٣” /]، والذي كتبه بمعاونة الصحفية مارييلا ريغيني.

وعلى الرغم من أن كثير من الموسيقيين أو المطربين حول العالم قد أصدروا كتابًا واحدًا على الأقل أثناء مسيرتهم الفنية، كسيرة أو مذكرات أو تجميعًا لقصائدهم المغناة؛ إلا أن موستاكي – حسب معرفتي – إلى جانب الكندي ليونارد كوهين والأسترالي نيك كايف، من أكثر الموسيقيين والمطربين المعاصرين اقترابًا من عالم الأدب والكتابة. وتضم قائمة إصداراته أكثر من تسعة كتب تراوحت بين الرواية والقصص والسيرة والتأملات، فضلاً عن قصائده المغناة والتي جمعها في مجلدين بعنوان En ballades.

كان كتاب أسئلة الأغنية هو مغامرة الكتابة الأولى لموستاكي خارج تأليفه للقصائد المغناة سواء له أو لغيره. كتبه وهو على أعتاب الأربعين، وصاحبته في إعداده ريغيني الصحفية اليسارية والنسوية. اعتُبر الكتاب عند صدوره منشورًا هجائيًا ضد عالم صناعة الترفيه والشو بيزنس. وفيه أيضًا يضع موستاكي تصوره عن الأغنية كقصيدة في مفهوم شعر الهواء الطلق الذي وضعه، رافضًا التراتبية التي تضع الأغنية في درجة أسفل من القصيدة المكتوبة في ديوان، معتقدًا أنها مجرد حيلة من صنع المثقفين.

في مقابلة تلفزيونية مع المؤلفَين أجراها المذيع الثقافي اللامع برنار بيفو بمناسبة إطلاق الكتاب، شنّ الناقد الأدبي روجيه بريني هجومًا ضاريًا على موستاكي وقال إن كلامه عن الشعر يعتبر من باب الخلط الحاصل دومًا بين الشعري، والشعر. فغروب للشمس قد يكون مشهدًا شعريًا لكن الشمس لم تكتب قصيدة أبدًا. وإن الشعر بالأساس هو اجتراح لغوي، وانتهى إلى أن ما يكتبه موستاكي لا علاقة له بالشعر، فهو يستخدم كليشيهات اللغةعوضًا عن خلق لغة جديدة.

لم يستطع موستاكي محاججة الناقد المُنفعل، ودافع فقط بكون القصيدة المغناة كالقصيدة المقروءة بها جيدها ورديئها أيضًا. وأصرّ على أن ما يكتبه مغنون كجون لينون أو فرانك زابا أو جورج براسنس هو الشعر بعينه ولم يستطع بالطبع تزكية نفسه. واتفق معه الناقد حول براسنس فقط، الذي كان قد حاز عام ١٩٦٧ على جائزة الشعر الكبرى من أكاديمية اللغة الفرنسية.

موستاكي الشهير بالـ ميتيك[Mtooltip description=” Le Métèque” /] أو الدخيل، نسبة لأغنيته الشهيرة التي أطلقها عام ١٩٦٩، وبحزمة من الانتماءات العرقية، كان يعتبر اللغة الفرنسية وطنه الوحيد، وبقصد أو من دون نفاه ذلك الناقد مرةً أخرى من المنفى الذي اختاره لنفسه. ذلك وإن لم يشب لفظ موستاكي للفرنسية أي لكنة أجنبية، فعلى خلاف صديقته ومواطنته داليدا، كان نطقه باريسياً سليماً فيما كانت هي تلفظ الراء برنين إيطالي واضح حتى نهاية حياتها. كلمة ميتيك هي نعت تحقيري كان يستخدمه الفرنسيون لوصف الأجانب المقيمين من ذوي الهويات الملتبسة ممن قد يتشابهوا مع الفرنسيين رغم اختلافهم. وفي مذكراته يذكر المخرج الإسباني الكبير لووي بونويل، الذي عاش كلاجئ فني في عشرينيات باريس الذهبية وسط قبيلة السورياليين، ثم كلاجئ سياسي في الثلاثينيات أثناء الحرب الأهلية في بلاده، أن الفرنسيين كانوا يصمونه بتلك الكلمة على المقاهي وفي المواصلات العامة هو ورفاقه الإسبان ممن كانت تعج بهم باريس وقتها. ولا أظن أن الكلمة نفسها كانت تستخدم لوصف مهاجر جزائري أو سنغالي مثلًا، فلهؤلاء مسبّات أخرى تليق بهم في معجم العنصرية الثري.

موستاكي المولود لأسرة يونانية من أصول يهودية في الإسكندرية عام ١٩٣٤، أي عام واحد بعد وفاة مواطنه شاعر المدينة الشيخ قسطنطين كفافي، ربما لا ينتمي لقبيلة الشعراء الفرنسيين في القرن العشرين التي تضم أبولينير وبريتون وأراجون، لكنه حتمًا ينتمي لقبيلة أخرى تجمعه مع شعراء فرنسيين أكثر بساطة وغنائية وشعبية كـ جاك بريفير وبوريس فيان مثلًا. هنا نقدم ترجمة عربية لأغنية لو ميتيك، حاولنا فيها نقل شعريتها قدر الإمكان. لم نعثر على مقابل عربي لكلمة ميتيك أفضل من كلمة الدخيل، وإن ظلّ اللفظ الفرنسي بدلالة أكثر سلبية من ذلك المقابل العربي التقريبي.

الدخيل

بسحنتي التي لدخيل

ليهودي تائه وراع إغريقي

وبشعري المتطاير في الرياح الأربع

بعيني الدامعتين

اللتين تمنحاني هيئة حالم

أنا الذي لا يحلم غالبًا

بيديَّ اللتين لسرّاق

لموسيقيّ وصعلوك

اللتين طالما نهبتا الحدائق

وبفمي الذي تجرّع

وقبَّل والتهم

دون أن يروي أبداً ظمأه

بسحنتي التي لدخيل

ليهودي تائه وراع إغريقي

التي للصٍّ ومتشرد

ببشرتي التي تحرشت

بشمس جميع الأصياف

وبكلّ شيء يرتدي تنورة

بقلبي الذي استطاع

أن يعذِبَ بقدر ما تَعذبَ

دون أن يثير أدنى صخب

بروحي التي لن تستطيع

تجنُب المطهر

وليس لها أدنى فرصة للخلاص

بسحنتي التي لدخيل

ليهودي تائه وراع أغريقي

وبشعري المتطاير في الرياح الأربع

سأجيء يا فريستي الحلوة

يا رفيقة روحي ونبع حياتي

سأجيء لأشرب أعوامك العشرين

وسوف أكون أميرًا بالدم

حالماً أو مراهقاً

لتنتقِ ما يطيب لك

وسنجعل من كل يوم

أبديةً خالصةً للحب

نعيش فيها حتى الموت

وسنجعل من كل يوم

أبديةً خالصةً للحب

نعيش فيها حتى الموت

قدر الدخيل

في عام ٢٠٠٤، واحتفالاً بعيد ميلاده السبعين، زار موستاكي مصر وأحيا بها حفلين: واحدًا بالقاهرة في مسرح القلعة، والآخر بمكتبة الاسكندرية، مدينته الأم. كنتُ وقتها أعمل في قناة النيل للمنوعات التابعة للتلفزيون المصري وكُلفت بتغطية رحلته وحفله بالقاهرة لصالح القناة. ذهبت للقاء الدخيل في فندق النيل هيلتون البائد. كان الرجل سعيدًا للغاية بتواجده في مصر، يبتسم للجميع ويداعبهم، وغازل مساعدة المخرج التي معنا بكلمات مصرية من معجم الأربعينيات. أجريت معه حوارًا من خلف الكاميرا. فحكى بالطبع عن الإسكندرية، ورفاق طفولته المصريين الذين كانوا يسمّونه موستافا، وعن عمله في مكتبة أبيه، ثم سفره إلى باريس فور حصوله على البكالوريا في سن السابعة عشرة. حيث أقام مع شقيقته التي كان زوجها يدير مكتبةً بدوره، فعمل معه موزعًا للكتب، لا سيما كتيبات الشعر. كما صار يراسل الجرائد المصرية الفرانكفونية (وكانت كثيرة آنذاك في القاهرة والإسكندرية) ويكتب لها مراجعات عن الحياة الفنية في باريس. حتى احترف الموسيقى والغناء، كعازف ومؤلف بدايةً، ثم كمغن لاحقًا. سألته بالطبع عن علاقته بالموسيقى المصرية والعربية عمومًا. قال إنه يعرف أم كلثوم ويسمعها منذ كان طفلاً وإنها Incomparable أي لا تقارَن. قال إنه صديق شخصي لوردة، وإن أحب الأصوات الرجالية له هو صوت عبد الحليم حافظ ومحمد حمام! اندهشت من أنه يعرف حمام مطرب الهامش الذي يجهله معظم المصريين نفسهم. وعرفت فيما بعد أنه قدّم معه عرضًا مشتركًا في إحدى زيارته السابقة لمصر.

في مساء اليوم التالي، كُنّا بفريق تلفزيوني كامل بوحدة إذاعة خارجية في مسرح القلعة لنغطي الحفل، وجمهور من فرنسيي القاهرة ومحبي تلك اللغة ومنتسبيها قد ملأ الكراسي تحت ظلال جامع محمد علي باشا بمآذنه السامقة، والشمس تغرب على القاهرة العجوز التي تتمدد في الأسفل ببيوتها القديمة المتاخمة لقلعة الجبل، فيما تبرز في الأفق وفي ضوء الغسق الرمادي أبراج القاهرة الجديدة في الطرف الغربي للفضاء حول النيل وما بعده. كان عمال وحدة البث الخارجي التابعين لاتحاد الإذاعة والتلفزيون يفردون كابلاتهم وينصبون الكاميرات على المنصات المرتفعة في حالة من التذمر لم أفهمها، ويكيلون سبابًا فاحشًا لذلك الخواجةالمسن الذي تكبدوا من أجله المشوار. لم أعرف أبدًا سبب ذلك، ولا أعتقد أنهم عرفوا أنه يهودي الأصل فيشتمونه على تلك الخلفية، ولم تكن قصص الكاريكاتور الدنماركي أو شارلي إبدو قد حدثت بعد. قدرت أنه قَدَُر الدخيل، وأن موستاكي غير مرحب به في مسقط رأسه من قبل الجميع.

عند وفاته في ٢٣ مايو/ آيار عام ٢٠١٣، نعته فرانس ٢٤ بعنوان غليظ مقتبس من أغنيته نفسها، أُريد له أن يكون فكاهيًا في غير مقامه: “لن نرى سحنة الدخيل جورج موستاكي مرةً أخرى!”. ثمة فرق بين تهكمك على ذاتك وتهكم الآخرين عليها، لاسيما في حالة نعيك.

المزيـــد علــى معـــازف