fbpx .
جوليوس إيستمان

جوليوس إيستمان | الخاشع في غيظه

علي لطيف ۲۰۱۷/۰۲/۰۷

في عام ١٩٧٩ نشرت مجلة إير بياناً لجوليوس إيستمان بعنوان الملحن كواهِن The Composer as Weakling, Volume 5, Issue 1, April/May 1979، جادل فيه أن الملحن قد فصل نفسه عن العازف، وغرق في التراث، وعلق في نظريات موسيقية متراكمة تاريخياً، مما جعله غير قادر على الابتكار أو التجديد. الطريقة الوحيدة لتصويب ذلك، حسب إيستمان، هي أن يدمج الملحن نفسه مع الموسيقى، أن يكون موسيقياً، وهكذا، أن يكون منفتحاً على رؤى جديدة.

حينها كانت قد بدأت الموسيقى التقليلية هناك نقاش عن من الذي استخدم هذا المصطلح أولا، إما توم جونسون ناقد موسيقى في الڤيلج ڤويس عام ١٩٦٨ أو مايكل نايمان - ملحن بريطاني - عام ١٩٧١. Minimalism تلقى رواجاً رغم استهجان الأكاديمية الموسيقية ورواد الكلاسيكية لها: “استعمال أقل قدر من الأصوات أو الألحان أو الكلمات أو الأدوات، التكرار، البساطة، الوضوح؛ الموسيقى التقليلية نتجت عن انحطاط الموسيقى الكلاسيكية بسبب الجمود الذي تكوّن لاتساع الفجوة بينها وبين المستمعين. يشرح من كتاب غان American Music in The Twentieth Century الذي يقتبس فيه ماير الملحن والفيلسوف ليونارد ماير أن لكل نوع من الموسيقى دورة حياة تنقسم إلى ثلاثة مراحل : ١- قبل الكلاسيكية، أي موسيقى جديدة وبسيطة وواضحة حتى السذاجة. ٢- الكلاسيكية ، أي نضوج هذا النوع من الموسيقى إلى الحد الكافي لتكون التعقيدات وتحمل الزيادات المعرفية في إطار متزن. ٣- تكلّف النوع: وهي مرحلة انحطاط النوع الموسيقي باستحالة التعقيدات والإضافات المعرفية والجمود.

انضم إلى صفوف التقليلية لامونت يونغ وتيري رايلي وميرديث مونك وستيڤ رايش وفيليب غلاس وكان لهم تأثير كبير على المستمعين، والأهم من ذلك على الملحنين الجدد أيضاً. جوليوس إيستمان، أحد الملحنين الجدد حينها، لم يسر على خطى هؤلاء. فهم مثلوا له القدرة على الرفض وتحقيق الشهرة في الآن ذاته، ولكنه فاقهم في الانحراف عن المسار، لأن التقليلية فقط لم تكن كافية بالنسبة له. ما كان مهماً لإيستمان هو أن يبني في مؤلفاته أجزاء جديدة تشمل على كل أنغام الجزء الذي سبقها، ولا تسمح بخروج نغمة من هذا التكتل إلا أحياناً وبشكل تدريجي ومنظم.

يجادل كايل غان أن إيستمان كان أحد رواد مابعدالتقليلية، ولكن إيستمان نفسه فضل تسمية المبدأالعضوي، وعنى بذلك أن المؤلفة لا يمكن أن تستمر في العيش دون جزئها الأول الذي ولدها. يقول غان في مقاله عن المبدأ العضوي لإيستمان: “أنا لم أسمع في حياتي شخصاً آخر استطاع الاستمرار في إضافة أنغام جديدة صعّدت كثافة الصوت باستمرار إلى النقطة التي يمكن سماع فيها الاثنيّ عشرة نغمة في آنٍ واحد.” بُني مبدأ إيستمان على استحالة فصل الزمن إلى كياناته الثلاثة، أي أن النغمة الجديدة تضاف إلى الجزء القديم دون تلاشي مكونات الأخير، بحيث تصبح المؤلفة نتاجاً تراكمياً لكل النغمات المضافة.

زنوج إيستمان

وفقاً لمبدئه العضوي، أعطى إيستمان عناوين جدلية لأبرز مؤلفاته: الزنجي الشرير، الزنجي المجنون، الغوريلا الشاذ أراد إيستمان استخدام الكلمة بما حملته ن إساءة في ذلك الوقت ولذلك لم نترجمها كـ مثلي. كانت هذه الأسماء امتداداً للحالة السياسية والاجتماعية للزنوج والمثليين في الولايات المتحدة، الأمرين اللذين تمحورت حولهما شخصيته. يتمثل مبدأ إيستمان العضوي في هذه التسميات من خلال رؤيته للحال الزنجية في تاريخ الولايات المتحدة كتسلسل يشمل الزنجي الأول (زنجي الحقول) إلى أن تصل إلى زنجي اليوم.

عنوان الزنجي الشرير انبثق مما روجت له المؤسسة السياسية والدينية والاقتصادية البيضاء ضد الزنوج المطالبين بحقوقهم على مدار التاريخ: لا بد على الزنجي أن يكون شريراً ليواجههم. أما الزنجي المجنون فهذا كان تصريحاً مفاده أن كل زنجي في الولايات المتحدة يفكر فهو مجنون.

أما الغوريلا الشاذ، وهو تعبير عنى الكثير بالنسبة إليه لكونه مثلياً معلناً في وقت صعب وفي مجال أبيض (الموسيقى الكلاسيكية)، قصد به إيستمان أن حقوق المثليين لن تؤخذ إلا بالقوة والدماء. آمن إيستمان أنه قد حان وقت إسقاط زيف الرقي وتسمية الأمور كما هي.

 

استغل إيستمان موسيقاه التجريبية لهذا الغرض، وأصدر بياناته الحادة والمباشرة ضد ما كان يرفضه. في السادس عشر من يناير من عام ١٩٨٠ وقف فوق مسرح بيك – ستايجر في جامعة نورث ويسترن أمام جمهور من الطلبة والأساتذة البيض ووراءه ثلاثة رجال وأربع آلات بيانو. كان الحضور كله من البيض ما عدا مبعوث واحد من اتحاد الطلبة السود الذين رفضوا الحضور احتجاجاً على عناوين المؤلفات المستفزة. قبل العرض، تحدث إيستمان عن مؤلفاته الثلاثة التي لم تُسجل إلا مرة واحدة فوق ذلك المسرح. يقول إيستمان: “هذه المؤلفات هي محاولة لصناعة موسيقى عضوية … الجزء الثالث من أي جزء، يجب أن يحوي كل معرفة الجزئين قبله، وهكذا.” ثم تطرق إلى التسميات التي أغضبت الكثيرين “الآن، هناك هذه المسألة حول عناوين المؤلفات، بعض من الطلبة وأعضاء هيئة التدريس شعروا أن العناوين تنتقص من قيمة الإنسان بشكل ما، وذلك لوجود كلمة زنجي في العناوين. هذه العناوين بالذات، السبب الذي دفعني إلى استعمال الكلمة هو لأنني أستعملها في حياتي، هناك سلسلة كاملة من هذه القطع. اسمها سلسلة الزنوج. الآن، السبب الذي دفعني إلى استعمال هذه الكلمة بالذات بالنسبة لي هو ما أسميه الأساسية التي بها، أي أنني أريد أن أقول إن الزنوج الأوائل هم زنوج الحقول بالطبع والذين كانوا أساس الاقتصاد الأمريكي في الحقيقة، بدون زنوج الحقول كان لن يكون لدينا هذا الاقتصاد الرائع والعظيم. وهؤلاء ما أسميهم الزنوج العظماء الأوائل، زنوج الحقول، وما أقصده باستخدام مصطلح زنوج هو الشيء الجوهري، ذلك الشخص أو الشيء الذي يتملك أساساً، جوهراً، ويتحاشى ذلك الشيء الذي هو سطحي أو يمكننا القول: راقي.”

هذه المؤلفة تذكير،كتب إيستمان، للذين يعتقدون أنهم يستطيعون القضاء على المحرَرين بأفعال الخيانة، والأذى، والجريمة مثل كل المؤسسات خاصةً الحكومية والدينية، إنهم يضهدون الآخر لأجل ديمومتهم.”

هذه فقرة من النص الذي طبع في برنامج مسرح الكيتشن فضاء موسيقى وفني غير ربحي ملتزم بتقديم الفنون التجريبية في مانهاتن نيويورك من الأول إلى الخامس من ابريل عام ١٩٨١، كوصف لـ جان دارك، آخر مؤلفة سُجلت لإيستمان.

تبدأ هذه المؤلفة بصوت إيستمان القوي يغني بشكل تقليلي، مردداً ومكرراً أسماء قديسين يعظون القديسة جان دارك ليختم كل جزء بأعلى طبقات صوته: “جان، تكلمِ بجرأة، عندما يستجوبونك.”يستمر ذلك لاثني عشر دقيقة ناقصة، لتفتح بعدها فرقة التشيلو المؤلفة: “الحضور المقدس لجان دارك.” يمكن ملاحظة الاستمرارية المذهلة للحن في الخلفية مع تدفق النغمات المضافة تباعاً، وبدون انبعاث أي ملل جراء ذلك. في هذه المؤلفة تتبدى جماليّة موسيقى إيستمان ومبدئه العضوي.

إيستمان الغامض

بدأ إيستمان مسيرته كموسيقى ومغني وراقص، والأهم من ذلك، لاحقاً، كملحن. كان أول عمل معروف شارك فيه هو ثمانية أغاني لملك مجنون في عام ١٩٧٣ لبيتر ماكسويل دافيس، والذي استخدم كلمات الملك جورج الثالث. رُشّح إيستمان لجائزة غرامي على غنائه المنفرد في هذا العمل. بعد ذلك عمل مع مجموعة الملحنة ميريديث مونك في ألبومي موسيقى دولمن ١٩٨١ وأحلام سلحفاة ١٩٨٣، وكان أيضاً مؤسسي مجموعة S.E.M مع الملحن التشيكي بيتر كوتيك. عمل إيستمان أيضاً مع آرثر راسل، منتج وملحن موسيقى له أثر كبير على الموسيقى الالكترونية والبوب اليوم، في موسيقى ٢٤٢٤ عام ١٩٨٢. كان إيستمان من أبرز الفنانين في الداون تاون، المنطقة الأهم للموسيقى التجريبية في سبعينات نيويورك. هناك عرف عنه صداميّته وغرائبيته في كل ظهور.

اختفى إيستمان ما بين عاميّ ١٩٨٣ و١٩٨٠. كان من المعروف أنه طُرد من شقته بسبب تأخره عن دفع مستحقاته، ولم يُعرف إلا لاحقاً بعد أعوام أنه في ذلك اليوم، قامت الشرطة وصاحب العقار برميّ كل ممتلكاته التي بقيت في الشقة، بما ذلك كل أوراق مؤلفاته. تذكر إيلي هيساما في ورقتها الغوص في الأرض، العالم الموسيقى لجوليوس إيستمان، أن طرد إيستمان ورميّ ممتلكاته كان شبيهاً بـ المشهد الذي ظهر في وثائقي توماس ريشمان عن عازف الجاز الأسطوري تشارلز مينغس، عندما طردته الشرطة من شقته مع ابنته الصغيرة ثم اعتقلته عندما وجدت غليون كراك كوكايّن بين أغراضه، فرمت وصادرت كل ممتلكاته بما في ذلك أوراق مؤلفاته.

يُعتقد أن إيستمان عاش حياة المتشرد بعدها، وعاش لفترات متقطعة في منتزه تومبكنز بنيويورك، وفي ملجأ في بافالو أيضاً. تزامنت هزيمة الحركة السوداء والحركة المثلية في نصف الثمانينات مع سوء وضع إيستمان، حيث أنه عاش في تلك الفترة ما بين الشوارع والأسرة الإضافية في شقق أصدقائه. كان من المعروف لدى المقربين إليه أنه مصاب بالايدز – رغم إنكار عائلته بالإضافة إلى إدمانه الكحول، وربما الكراك كوكايين.

يمتد الغموض حول حياة إيستمان إلى أوراق مؤلفاته التي وُجدت عند محاولة إعادة إحياء أعماله في نهاية التسعينات، وهي محاولات بدأتها الكاتبة والملحنة ماري جاين ليش التي بذلت جهد كبيرا في بحثها. أوراق المؤلفات القليلة التي عُثر عليها عند أصدقائه كانت مشفرة كما جرت عادة الملحنين الذين ظهروا في مشهد الداونتاون، الذين كتبوا ألحانهم بشيفرات لا يمكن فكها إلا من قبلهم لألا تسرق ألحانهم. عدى عن ذلك لم يكن هناك إلا تسجيلات مؤلفاته التي نشرت والتي لا تتعدى السبعة، آخرها فيمنن من عام ١٩٧٤ والتي نشرت فقط في ٢٠١٦. هناك أيضاً الحضور المقدس لجان دارك التي لم يجدوا لها إلا تسجيلاً قديماً عند أرشيف الكيتشن. لكن بفضل جهود ماري جاين ليش وكايل غان وعدد من أصدقاء إيستمان، صدرت مجموعة صغيرة من مؤلفاته في ألبوم أنجست مالايز عام ٢٠٠٥، ولا تزال جهود إعادة إحياء أعماله مستمرة.

مات ايستمان في مايو ١٩٩٠، ولم ينتشر خبر وفاته إلا بعد ثمانية أشهر إثر ظهور نعي نشره كايل غان في مجلة ذ ڤيلج ڤويس. ترك إيستمان أعمالاً قليلة متفرقة ولكن تأثيره على الموسيقى بشتى أنواعها كان هائلاً، فقد كان من الأوائل الذين مزجوا ألحان البوب مع مؤلفة تقيليلة Stay on it 1973، أي أنه من القلائل الذين تصوروا موسيقى جديدة. لا أحد يعرف كيف مات – تختلف الآراء ويرى البعض أنه مات بسكتة قلبية – ولكني أود أن أعتقد أنه مات مغتاظاً، خاشعاً، كما تخيلته عندما سمعت مقطوعة جان دارك لأول مرة. خاشعاً في حضرة الكنائسية والكلاسيكية وقوانينها، وفي أشد اغتياظ منها، يحاول نخرها من الداخل وتفكيكها لتتسع له.

المزيـــد علــى معـــازف