مراجعات

أنّوون بلجرز | جوي ديفيجن

هلا مصطفى ۲۱/۰۷/۲۰۱۸

قد لا يكون تعبير “سابق لأوانه” نادرًا لدى الحديث عن، أو توصيف ألبوم روك كلاسيكي. السنوات الذهبية للروك، بغزارة وتباين إنتاجها، كانت تأتينا في كل حين بالجديد والمختلف الذي يؤثر على ما حوله وما يليه بسخاء. في حالة آنّوون بليجرز، نحن نتحدث عن تجديد لم تكن حتى الفرقة التي أنتجته جاهزةً له كليًا. في الاستماع الأول الذي تلا انتهاء التسجيل والمزج، تضاربت مشاعر جوي ديفيجن تجاه ألبومهم الطويل الأول. تبادلوا المخاوف من أن النتيجة النهائية لتفاعل موسيقاهم مع هذا التوزيع التجريبي جاءت أكثر عمقًا وسوداوية وأقرب للخيال العلمي من أن يحتملوها هم، فكيف بالجمهور الذي يعرفهم بالكاد. على كل حال، ليس من العدل أن نتوقع من موسيقيين لم يتجاوز أي منهم الثالثة والعشرين أن يكونوا واثقين بتجربتهم التسجيلية الجدية الأولى، لكن في مدة قصيرة تبعت حفلات الألبوم الأولى، تلاشى كل ما لديهم من قلق. بعد أربعين عامًا تقريبًا، لدينا اليوم المسافة اللازمة لتحليل الألبوم ومجموعة العوامل والصدف التي أكسبته مكانته اليوم.

وفي اليوم السادس …

بعد حضورهما لحفل فرقة سكس بيستولز عام ١٩٧٦ في مدينتهما مانشستر، قرر عازفا البايس والجيتار بيتر هُوك وبيرنارد سَمنر أنهما سيؤسسان فرقة ويشقان طريقهما في البَنك روك. من السهل تصور أن كثيرًا من شباب السبعينيات اتخذوا قرارًا كهذا في مرحلة ما، كلٌّ منهم مدفوعٌ بحماسة ما بعد حضور حفل لفرقته المفضلة. لكن التسجيل القصير الأول للفرقة باسم جوي ديفيجن (١٩٧٨)، والذي صدر إلى جانب ستيفن موريس على الإيقاع وإيان كيرتس كمغنٍ وكاتب، كان بدايةً لمحاولات أكثر جدية على الرغم من افتقار أغنياته الأربعة لرؤية موحدة، وتخبطها بين صوت البَنك وأصوات أخرى لم تتضح بعد للفرقة. في حديثه عن بدايات الفرقة، يقول بيتر هوك: “أردت للفرقة صوتًا كصوت سكس بيستولز، وفي رأسي تخيلت أن جوي ديفيجن ستكون ذات صوت بأهمية ذ كلاش، وفي النهاية صنعنا موسيقى لا تشبه هذه ولا تلك.”

كشف الظهور التلفزيوني الأول للفرقة في بث حيّ خلال العام نفسه عن موهبة ومهارة لم يكن التسجيل السابق كافيًا لكشفها، حيث قدموا للمرة الأولى أغنية شادوبلاي التي ظهرت لاحقًا في ألبومهم الأوّل. لم يكن الصوت الذي خرجت به الأغنية لحنًا واحدًا تقدمه مجموعة عازفين مهرة ألفوه مسبقًا، بل كان كل منهم يقدم تصوره عن هذا اللحن، وبأفضل أسلوب ممكن. على البايس والجيتار، كان كل من هوك وسمنر يتدافعان لإخراج أفضل ما لدى أحدهما الآخر في أسطر وترية قصيرة ومكثفة مختلفة الطبقات، يصمت واحدها ليتابع الآخر. على خلاف المتوقع من ثبات واستمرارية الإيقاع في الخلفية، كان موريس يسرق الأضواء بإيقاعات أكثر لحنية من أن يتم تجاهلها، وبدرجات صخب متفاوتة تصعّب تحديد صنف الأغنية. في الواجهة، كان إيان كيرتس بعيدًا عن الصورة التقليدية لمغني الروك أو البَنك، يقف بقميص رسمي وشعر قصير ووجه مهذب ليغني كلماته بهدوء: “كنت أتجه عبر الصمت ودون حركة لأنتظرك / وفي غرفة ذات شباك في الزاوية وجدت الحقيقة.”

تم كل ذلك تحت أنظار وسمع مقدم البرنامج توني ويلسون، صاحب شركة التسجيلات المستقلة فاكتوري ريكوردز. استطاع ويلسون حينها رؤية إمكانيات الفرقة، فوقّع معهم عقد تسجيل ألبومهم الطويل الأول، وعرّفهم لهذه الغاية على شريكه المنتج مارتن هانِت. التزام أفراد الفرقة الأربعة بوظائفهم كعمال أو موظفين حكوميين لم يتح لهم سوى العطل الأسبوعية للعمل على موسيقاهم، وبعد ثلاث عطل  متتالية (ستة أيام) كانت تجربة جوي ديفيجن الأولى في الاستديو مع منتج محترف، وتم تسجيل أنّوون بليجرز ثم مزجه.

مارتن هانِت

بسبب انعدام خبرتهم فيما يخص التوزيع والتسجيل، لم يعرف أعضاء جوي ديفيجن ما الذي يتوقعونه من جانب هانِت، خاصةً أنه قدم لهم رؤية إنتاجية محددة، ومنح نفسه بناءً عليها نوعًا من الوصاية الفنية. قدموا له كل ما يحتاجه لإشباع هذه الرؤية، لم يتذمروا ولم يعترضوا، والمؤكد أنه لم يعطهم أي مجال لذلك مع إرشاداته الغريبة المتواصلة: “لنعد الكرّة وليكن العزف هذه المرة أشبه بحفلات الكوكتيل” أو “ليكن الصوت أكثر صفارًا” بل حتى “ليكن العزف هنا أبطأ لكن أسرع.” في اليوم الخامس، وقبل بدء عملية المزج النهائية، قرر هانِت أن عدد الأغنيات غير كافي، وطالب الفرقة بأغنيتين إضافيتين. متزودين بنتاج كيرتس الشعري الذي احتفظ به جاهزًا ومحدّثًا في “صندوق الكلمات” كما أسماه الرفاق، اتجه هوك وموريس لتنفيذ أوامر هانِت، وعادا بعد ساعات قليلة بلحنين جديدين، إحداهما كان لأغنية كانديديت التي ألحقها هارييت بالقسم الأول من الألبوم، ومنحها توزيعًا كثيفًا يملأ أي مساحات بينية أو فارغة بالسِّنثات.

جاءت وصاية هانِت لمصلحة الفرقة، إذ التقط نقاط القوة لدى جوي ديفيجن منذ اللحظة الأولى وأحسن استخدامها. شجع الفردية التي سعى إليها كل منهم في آلته بأن قام بفصلهم أثناء التسجيل ليؤدي كل منهم ما لديه على حدة. وفيما كان هانِت مولعًا بالإيقاع بشكل خاص، فقد وجد هذا الشغف ضالته في الحرفية العالية لدى ستيفن موريس: “إحدى الأسباب التي كانت تجعلني عادةً أهتم بالإيقاع بشكل خاص كان الأداء المروع لعازفيه. لكن ستيفن كان مذهلًا، ما منح الفرقة شرارة الانطلاق مباشرة.” بالفعل، كانت انطلاقة الألبوم مع جملة إيقاعية في الأغنية الافتتاحية ديسؤوردر، أنبأت بصوت الألبوم غير التقليدي. استبدل هانِت الإيقاعات الرتيبة المتواصلة بإيقاعات ديسكو، ساهم تناقضها مع مزاج أسطر البايس وصوت كيرتس العميق بمنح الألبوم سمة تجريبية غريبة، هذه السمة هي بالضبط ما خلع عن الألبوم أي تأطيرات قد يفرضها التأثر بصنف موسيقي معين، ومدت صلاحيته الزمنية.

تمامًا كما جيش كرات السخام الصغيرة التي ابتدعها ميازاكي في أوسع أفلامه خيالًا، كان لهانِت جيش من التفاصيل والمؤثرات والأصوات الداعمة، تخرج من العدم مع بداية كل أغنية لتثري لحنها الأساسي وتبرز فيه جماليات غير ملحوظة قبل أن تختفي، وتزود الأغاني بالكثير من الطبقات التي تظهر وتتوارى بحسب درجة رغبتك وتركيزك. أصوات أقفال وصرير أبواب لا تتوقف كما في إنسايت، صوت رش تنتجه أسطوانة رذاذ بدل ضربات الإيقاع في شي لُست كونترول، الصدى الممنوح للإيقاعات في أغنية وايلدنِس أو للبايس في نيو دون فايدز، أصوات تحطم الزجاج في آي ريميمبر ناثِنج، واقتراح أن يغني عازف البايس بيتر هُوك الأسطر الأساسية في إنترزون فيما يرافقه كيرتس مغنيًا الأسطر الثانوية.

مائة طيف من السواد

لم يكن توزيع هانِت عمومًا المؤثر الوحيد في الصوت النهائي للألبوم؛ استمرت العوامل والظروف بإكساب أنّوون بليجرز أبعادًا جديدة حتى بعد صدوره. غلاف الألبوم [Mtooltip description=” وجد سامنر الصورة المستخدمة على غلاف موسوعة كامبريدج العلمية وقدمها للمصمم بيتر سافيل من تسجيلات فاكتوري، والذي أعدّ الغلاف” /] مثلًا كان تقليليًا بسيطًا داكنًا، لا ينتمي إلى حقبة أغلفة الروك الملونة البراقة التي جاء منها. سياسة تسجيلات فاكتوري الترويجية تركت لأعضاء جوي ديفيجن حرية فيما يتعلق بالتعامل مع التسويق الإعلامي، ما أكسب الفرقة والألبوم غموضًا، خصوصًا بسبب امتناعهم عن اللقاءات الصحفية، وقرارهم بألا يتم نشر كلمات الأغنيات مع الألبوم: “قد تحمل كلمات أغنياتنا معاني تختلف كليًا من شخص لآخر”، وضّح هوك: “نحن لا نود قول أي شيء، لا نوّد التأثير في الناس ولا أن نعلمهم بما نفكر.”

كانت كلمات كيرتس بالفعل ذات مزاجٍ شعري يحمل العديد من المعاني ويقبل الكثير من التفسيرات. كما أن أسلوب كيرتس في غناء هذه الكلمات أثناء التسجيل لم يهدف لاستعراض مهارات صوتية فذّة، ولا تقديم أداء تعبيري يعزز شعورًا معينًا، بل غنى بأسلوبٍ هادئٍ وعميق وغير مبالٍ، وجاء صوته في مرات قوطيًا كما في داي أُف ذ لوردز، ثم حزينًا في نيو دون فايدز، أو ليثير إحساسًا بالرهبة في آي ريميمبر ناثِنج. لكن سلسلة الأحداث التي تتابعت في حياته الشخصية، سواء مرضه أو فشل زواجه في سن صغير أو غيرها، أزالت الفاصل بين شخص كيرتس وقصائده الحزينة، وأثّرت في أسلوبه الغنائي أو حتى حركته على المسرح. لذا، جاء انتحاره بعد عامٍ على صدور أنّوون بليجرز وقبل شهر من صدور ألبوم الفرقة الثاني كلوسر، وفي الليلة التي سبقت انطلاقة الفرقة في جولة حول الولايات المتحدة، ليضفي على أغنيات الألبوم بمزاجها السوداوي مزيدًا من القتامة.

بعد موت كيرتس، بدا أن الجميع كان يستمع إلى كلماته ويحيط بمعانيها وأبعادها للمرة الأولى. يقول كيرتس في إنسايت: “أعتقد أن الأحلام تنتهي دومًا / إنها لا تصعد وإنما تنحدر فقط / ولكني لم أعد أهتم / لقد فقدت الرغبة بطلب المزيد / لست خائفًا على الإطلاق / أراقب الأحلام فيما تتساقط / ولكني فقط أتذكر / حينما كنا صغارًا.” من الصعب تخيل شاب في العشرين من عمره يجلس بين جمع من الناس ويحدثهم عن مرارته تجاه سنواته الماضية دون أن يقابل باستهزاء من يكبره سنًا، لكن أسلوب كيرتس في الكتابة كان مثقلًا بما يبدو كروح قديمة لشاعر يتلقى كل ما حوله بدرجات مضاعفة من الحساسية والعاطفة قياسًا بالشخص الطبيعي، الأمر الذي ربما دفعه لكتابة أغنية شي لوست كونترول حين تعرّف على فتاة مصابة بالصرع أثناء عمله كموظف في مكتب تشغيل للعمال، تلقى لاحقًا خبر وفاتها في إحدى النوبات: “صرخت وبدأت تركل ما بجانبها وقالت / لقد فقدت السيطرة مجددًا / شيء ما استولى عليها على الأرض حتى ظننت أنها ستموت / وقالت: فقدت السيطرة.” بعد كتابة إيان للأغنية وتسجيلها للألبوم والشعبية الكبيرة التي حظيت بها مع إطلاقه، كانت سخريةً قاسيةً من القدر أن يتم تشخيص كيرتس بالمرض نفسه بعد أقل من عام، ما تركه يعاني من نوبات صرع شديدة أفقدته السيطرة على نفسه وأسلوب حياته، وتزايدت مع مرور الوقت حتى انتحاره.

استمرت القصص والحكايات عن كواليس صناعة أنّوون بليجرز بالانتشار لأعوام تبعت صدوره، وثّقت ارتباط المستمعين بالألبوم، وبنت حوله هالة أسطوريّة. جميع العناصر التي ساهمت في تشكيل الألبوم، دون تقسيم أو استثناء، أكسبت أنّوون بليجرز روحًا سمحت له بأن يخرج عن جميع من اشترك بصناعته، ويتطور على نحوٍ مستقل ومستمر طوال سنوات، ليستقر نهايةً في موقعه بين كلاسيكيات الروك، مع التأثير الهائل الذي خلّفه في المشهد الموسيقي لمدينة مانشستر، تيَّار البوست بنك، وكمِّ فرق الروك المعاصرة التي ما زالت تتخذ أنّوون بليجر نقطة انطلاق ومرجع في صناعة موسيقاها.

المزيـــد علــى معـــازف