.
هذا المقال جزء من سلسلة حتى إشعارٍ آخر.
لم يشاهد أحدٌ منا ما يكفي لإطلاق الأحكام التفضيلية النهائية، لكن يمكن القول أني شاهدتُ الكثير. هذه الأفلام ليست الأفضل ولا المظلومة ولا المبالغ في تقديرها، هذه عشر أفلام مهمة ومُجزية محورها الموسيقى، بين سيَر وغنائيات ودراما.
تقول الأسطورة إنه عام ١٩٨٦، وبعد قراءته مقالًا لـ سامِلا هاريس في صحيفة ذ أدفرتايزر عن عودة عازف بيانو خطير، سارع المخرج الثلاثيني سكوت هاريس إلى حضور عرض لذلك العازف، دايفد هِلفجوت، وقرر بالنتيجة أن يصنع فيلمًا عنه، اكتمل بعد ١٠ سنوات من العمل والبحث عن أكمل تجسيد. بنظرة على مسيرة هيكس يسهل تصديق القصة، فالمخرج الذي عُرِف بالميلودراما غير المضبوطة والأفلام المتوسطة فما دون، قدّم في هذه المرة الوحيدة فيلمًا استثنائيًا، يستحق تورطك العاطفي وانطباعه في ذاكرتك. هذا بلا شك مشروعُ شغف.
أثار الفيلم جدلًا واسعًا بين نقاد الموسيقى حول استحقاق بطله له. ذكر الفيلسوف الفني دنيس داتن أنه اضطر لإغماض عينيه في مقاطع العزف كي لا تضلله براعة الأداءات التمثيلية ويحكم على الموسيقى وحدها، وتأكد بذلك أن هِلفجوت ليس العازف الذي يظنه الفيلم. ربما كان داتن محقًا، لكن الفيلم ليس عن عازفٍ كبير، هو عن عازفٍ أحب الموسيقى أكثر مما استطاع.
ترتبط بهذا الفيلم قصص عظيمة، لكنه أعظم منها كلها. هو بين أفلام مارتن سكورسيزي المفضلة ويحتفظ له بالعديد من التذكارات، مثل زوج من الحذاء الأحمر موقّع من بطلة الفيلم مويرا شيرر، ونسخة من السيناريو موقّعة من كاتبَيه. كان أول فيلم يُستعان فيه برسّام لتصميم الإنتاج. هذا الفيلم الذي سمّاه مبدعو تقنية الفيلم الملوّن تكنيكلر كأفضل مثال على ما يمكن لتقنية التصوير ثلاثي الألوان تحقيقه، رغم تذمّرهم خلال صناعة الفيلم من طريقة عمل مدير التصوير غير المقيدة بتعليماتهم، والتي ساندها مايكل باول. عندما سمع كريستوفر تشاليس، الذي عمل مع المخرجَين كمشغّل كاميرا سابقًا وأصبح الآن مدير تصوير، أن باول وبرسبرجر يعملان على فيلم جديد مع جاك راديف مديرًا للتصوير، طلب أن يشارك في صناعة الفيلم حتى لو عاد كمشغّل كاميرا، فقط لنيل فرصة العمل معهما مجددًا. الفيلم أجمل من كل ما قد تتخيله بناءً على هذه المعلومات والقصص، وموسيقاه، سواءٌ ما ستسمعه منها وما ستراه، أجمل.
عندما قدم المخرج الصيني المحتفى به نقديًا والفائز بسعفة كانّ الذهبية، تشن كايجه، فيلمه الأمريكي الأوّل كيلينج مي سوفتلي، تحايل كثيرٌ من النقاد لدى هجومهم على الفيلم لتركيز اللوم على كل العناصر أكثر من الإخراج، ففي النهاية هذا كايجه، صانع الأفلام الكبيرة. كانوا على حق. أدرك كايجه أن حاجز اللغة أضخم مما تخيّل، وعاد إلى الصين لاستكمال مسيرته، لكن هذه المرة انتقل من ملاحمه التاريخية السابقة إلى فيلمٍ صغير يتوسط فيه الكمان قصة أبٍ وابن، بقلبٍ اتسع للجميع وأثبت أن كايجه ما زال على رأس حرفته.
من بين أفلام فرانسوا جيرار الروائية الطويلة الثمانية حتى الآن، تتمحور أربعة حول عازفٌ أو مغنٍّ أو آلة موسيقية. بالنسبة له “صنع فيلم هو صنع موسيقى”، وأصدق تصوير لرؤيته هذه فيلم ذَ رِد فايولين، الذي يتتبع رحلة كمان عبر أكثر من ثلاثة قرون، ببنية سردية تشبه فصول الأوبرا، ترافقها موسيقى المؤلف الكلاسيكي الكبير جون كوريجليانو، الفائزة بالأوسكار.
تحمل إحدى مراجعات الفيلم على آي إم دي بي عنوان: “لا يمكن للحقيقة أن تقف في وجه موهبة حقيقية.” الحقيقة أن بطلة الفيلم مارجريت دومون صاحبة صوت وأداء كارثيين، لكنها لا تعلم سوى حقيقة واحدة، هي تعشق الغناء والموسيقى وتريد أن تكون جزءًا منهما. هذا القدر من الشغف موهبة بالفعل، ندرك ذلك عند معرفة الأثر الذي تركته الشخصية الحقيقية التي اقتُبس منها الفيلم، فلورنس فوستر جنكينز، حيث كان موسيقيون مثل كول بورتر وجيان كارلو مينوتي وليلي بون والسير توماس بيتشام وإنريكو كاروسو من كبار معجبيها؛ ودون فيلمٍ كهذا سيكون من الصعب فهم موقفهم.
قلما وُجد فيلمٌ بهذا الزخم الفني وهذه الخفّة. بالإضافة إلى كونه من إخراج الأخوين كوِن، أراد القدر للفيلم أن يصل إلى الكمال الذي جعله اختيار العديد من النقاد كإحدى علامات الألفية. ذكر جوِل في مقابلة أن الفيلم كان خاليًا من أي حبكة، وأقلقهم ذلك بعض الشيء، فأضافوا القطة، التي لا يُمكن اليوم تخيّل الفيلم دونها. كان المخضرم جورج ديكنز مدير تصوير الأخوين المفضّل، لكنه كان مشغولًا بمشاريع أُخرى، فانضم الفرنسي برونو دلبونِل، الذي كان مدير تصوير التحفة الفرنسية آمِلي، إلى فريقهم. لا يُمكن بشكل عام تفضيل دِلبونِل على ديكنز، لكن – في اعتقادي – هذا الفيلم بالذات احتاج إلى حساسية دِلبونِل أكثر من حرفية ديكنز. حتى شقة البطل التي أضافت إلى حميمية الفيلم اختيرت بصدفة. كان الأخوان في تكسي علما من سائقه أنه يسكن في الشقة التي سكناها قبل عقود عندما كانوا طلابًا، واتضح أنها مثالية لـ دايفس، الموسيقي المغمور الذي حوّل الفيلم أسبوعًا من حياته إلى عناقٍ سينمائي موسيقي.
يأتي هذا الفيلم من القصص الملهمة عن المبدعين داخل السجون، نسخة عارية من هذه القصص. لا يحاول الفيلم أن يكون ملهمًا، يحاول أن يكون صادقًا بكل ما يتطلب ذلك من قسوة، والنتيجة إلهامٌ أكبر تأثيرًا. هناك كل العناصر المألوفة، موهوبة جامحة ومدرّسة صارمة وحارس سجن لئيم، لكن هناك أيضًا الإخراج غير المساوِم والأداءات البديعة، ومقطوعة بيانو لا تُنسى.
قبل هذا الفيلم، اختصّ رام جوبال فارما بأفلام الجريمة والأكشن، وبعده عاد إليها وصنع تحفته الفارقة ساتيا، التي جعلته أحد عرابي أفلام العصابات في السينما الهندية. تُذكّرنا سقطات فارما العديدة الأخيرة بالمصير المأساوي لـ فرانسس فورد كوبّولا، الذي لا يعلم أحد كيف انتقل من صانع العرّاب إلى مجرّد أحد المخرجين.
https://youtu.be/IxqB1xUX36s
كالجميع، نشأ فارما على الأفلام الهندية الغنائية المقياسية، وكان عليه في وقتٍ ما أخذ استراحة من أفلام الجريمة، وكتابة رسالة حب منه للأفلام الغنائية، فكتب وأخرج فيلم رانجيلا الذي يقدم قراءة جديدة لهذا النوع من الأفلام، لدرجة أن المخرج المهم شيخار كابور قال لدى مشاهدته إن هذا فيلم القرن الواحد والعشرين، موسيقيًا وبصريًا. شجعت رؤية فارما المختلفة إيه آر رحمان أن يسلك طريقًا مختلفة في وضع موسيقى وأغاني الفيلم، بشكلٍ جعل بطله أمير خان والمغنية الرئيسية آشا بهوسل يعبرون عن عدم حماسهم لتلك الموسيقى، والتي تصدرت لاحقًا قوائم الأكثر استماعًا ومبيعًا لقرابة العقد. موسيقى رحمان وتصميم الرقصات وإخراج فارما البديع لها كفيلون ليستحق الفيلم مكانته الأيقونية اليوم.
اقتباس روك غنائي ظلامي، لكلٍّ من أسطورة فاوست وروايتَي شبح الأوبرا لـ جاستون ليرو وصورة دوريان جراي لـ أوسكار وايلد، من إخراج برايان دي بالما. الفكرة جامحة بما يكفي للتنبؤ بجنون وازدحام النتيجة، لكن دي بالما لا يكتفي، ويحول الفيلم إلى مهرجان أسلوبي يجمع أكثر ما جعله معلمًا لحرفة الإثارة، مع الاحتفاءات الذكية بتُحف معلميه، من ذ كابينِت أُف دكتور كاليجاري إلى تتش أُف إيفل وسايكو. بالإضافة إلى ذلك، ينسب الكثيرون من مهووسي الفيلم نصف الفضل لمؤلف الموسيقى بول ويليامز، ومن الصعب محاججتهم في ذلك.
هذا الفيلم من النوع الذي تتعاطاه أكثر من أن تشاهده. لا شيء عدا الحظ – أو جرعة آسيد – يجهزك للتجربة، للتناغم معها بما يكفي لاستيعاب الملحمة الحسية والأسلوبية الوحيدة من نوعها. أبطال الفيلم مراهقون يجمعهم نادٍ على الإنترنت لعشاق المغنية ليلي شو-شو، التي يهربون إليها من واقعٍ شاحبٍ سوداوي، ودمويّ أحيانًا. يمكن للفيلم أن يكون أفضل مدخل لفهم ظاهرة مثل بيلي آيليش، فهمٌ لا يقصر الموضوع بتحاذق بائس على كونه ثقافة المراهق الحزين. هذا الفيلم يفهمك، أو يفهم ما شعرت به ذات مرّة.