.
في عام ٢٠٠٦ تعلمت التركس لعبة ورق رائجة في سوريا، تحتاج أربعة، وتستمر الجولة فيها حوالي ساعة. أتذكر الأيام التي قضيتها إلى جوار والدي وهو يلعب التركس على الحاسب، ليس بحنان لكن بكثيرٍ من التفاصيل. طاولة الحاسب السورية التقليدية، برحمٍ خشبي واسع لصندوق الحاسب، درج مدولب للوحة المفاتيح، وسطح مكتب بفتحة دائرية تهوي فيها الكابلات مضمومةً، عليه شاشة كنا نسميها – مراهقي سوريا – بالكارديشيان، مؤخرة هائلة وسطح زجاجي محدَّب بارز في الأمام. جلست إلى جوارها مطفأة سجائر، ثم جاءت كأس القهوة سريعة التحضير في السابعة مساءً. أخيرًا كان هناك مُكَبِّرا الصوت الأبيضان المصنوعان من البلاستيك المقوى، يُشغِّلان دائمًا نفس الأغنيتين لصباح فخري: قل للمليحة، وابعتلي جواب.
في وقتٍ ما من منتصف صيف ذلك العام، بينما كان الآباء حول العالم يخبرون أبناءهم بأنهم باتوا جاهزين لقيادة السيارة أو استخدام مسدس أو مصاحبة فتاة، غادر أبي طاولة الحاسب مصطحبًا قهوته ودخانه، وترك لي الشاشة مضاءة باللون الأخضر، عليها زر يقول: ابدأ لعبة جديدة. كان يخبرني بطريقته أنني بت جاهزًا للعب التركس بمفردي. لكن أيضًا أن أتحكم بالموسيقى التي تُشغَّل في غرفة الجلوس، عاصمة منزلنا المتواضع في حي الحمدانية.
لم أستمر في التركس، لكني حافظت على قائمة الأغاني كما هي. كل يوم من السابعة وحتى التاسعة مساءً، استمعت شقتنا وأقرب خمس شقق محمومة ومفتوحة النوافذ إلى قل للمليحة وابعتلي جواب، مرَّة ورا الثانية، مثل فرض الصلاة.
https://www.youtube.com/watch?v=s8lrs9Jt4w8
ضم حي الحمدانية أكاديمية الأسد العسكرية، وسكنه العديد من الضباط. في المدرسة الإعدادية القريبة التي دخلتها نهاية ذلك الصيف عرف كل أبناء الضباط صباح فخري، وكان واحد من كل ثلاثة منهم لديه صورة معه، المهتمون وغير المهتمين على حدٍ سواء. كانت الصورة مع صباح فخري إحدى الضيافات التي تحصل عليها عندما تصبح ضابطًا في سوريا، إلى جانب سيارة البيجو ٤٠٤ المهترئة اهتراء الزمن، والتي أخبرني صديقي، وهو ابن ضابط، أن آدم وحواء تعثرا عند نزولهما الأرض بسيارة بيجو للجيش السوري، مركونةً فيما سيصبح بعد آلاف السنين حي الحمدانية.
في نهاية الصف الأول الإعدادي لم أكن قد اكتسبت عادة الطلعة عالخط التسكع عند مدارس البنات، لكن صديقًا وجارًا قد اصطحباني بعد آخر امتحانٍ مدرسي إلى ساحة باب الفرج، حيث كانت تتم الإعدامات العلنية في حلب قديمًا، وحيث تزدحم الأحياء الخلفية ببيوت الدعارة. كل ذلك لم يمنع وزارة الثقافة من تنظيم مسرحيات للأطفال على ناصية شارع مطلة على الساحة نفسها. أخذتنا أمي إليها كل عام. في الشارع المؤدي إلى باب الفرج، بين ساحة سعد الله الجابري وعبَّارة الرياضة، تمتد واجهات عشرة محال معروفة ببيع الأفلام الإباحية. لم تكن الأفلام المعروضة على الواجهة إباحية فعلًا، بل أفلامًا مصرية بمشاهد عري يبلغ طولها بضع ثوانٍ، وعدد لا نهائي من نسخ حفل جار القمر لصباح فخري. أما البضاعة الثقيلة المخبأة “تحت المكتب” فكان عليك طلبها باستخدام كود: أفلام مجتمعية، وأن تبرز ما لا يقل عن عشرين شعرة توجد حيث ستنبت شواربك بعد بضع سنواتٍ بعد.
لا أعرف إذا كان صباخ فخري سيغتاظ أو يبتسم لو عرف أن جيشًا من سميعته السوريين قد تعرفوا عليه عبر حفلة جار القمر المصورة، حيث الراقصات وحيث كؤوس العرق، وحيث أخيرًا وليس دائمًا صباح فخري نفسه، إذا استمع البعض للحفل أحيانًا دون الصوت. اقتنى نسخة من هذا الحفل كل طالب إعدادية وكل من أخذت الخدمة العسكرية حصتها من حياته. عندما انتشرت الهواتف الجوالة ذات الشاشات الملونة، كان حفل جار القمر أول ما انشغلت محلات الموبايلات بتحويله إلى كافة صيغ ولواحق الفيديو التي قد يطلبها نظام تشغيل أي جوال.
اقتنيت نسخةً من الحفل بدوري، كانت موجودة في مجلد الفيديو في دي ڨي دي أربعة ونصف جيجا مدروز لآخره: قدود، موشحات، أندلسيات، طقاطيق، حفلات كاملة تمتد لساعات. صوت فقط، وصوت وصورة. كيف كان لي أنا، الذي اتخذ من عمر بن الخطاب وخالد بن الوليد شخصيتيه التاريخيتين المفضلتين، أن أتقبل أن مطربي المفضل صباح فخري، الذي بدأ حياته المهنية كمؤذن في جوامع حلب القديمة، والذي سجل نسخته المنفعلة من طلع البدر علينا، تلك التي أصبحت رنة هاتفي الجوال فور اقتنائه، كيف كان لي أن أتقبل أن صباح هذا يغني برفقة الراقصات وكؤوس العرق؟
في نهاية الصف الثاني الإعدادي نشب نزاعٌ شخصي بين أسرة صباح فخري وأسرة زوج عمتي، الذين كانوا جيرانه، وكان انحيازي غير المعلن لصالح صاحب الصوت الأجمل. أصبح هوسي بموسيقى صباح فخري أضخم من أن يترك هامشًا للتساؤلات والتناقضات الإيديولوجية أو حتى الأسرية. خلص الزلمة عارف شو عم يعمل. في صيف ذلك العام، ٢٠٠٧، بات هدفي الأكبر في الحياة أن أحضر حفلًا لصباح فخري، راقصات، بدون راقصات، مشروب، بدون مشروب، الله يتفهم ويسامح. وفي صيف ذلك العام أعلن صباح عن حفل، مجاني، في ملعب الحمدانية. أبوس الله.
سألت أهلي لو بإمكاني الذهاب. “ببلاش كيف يعني؟” وأريتهم إعلان الحفل في الصحيفة التجارية الأسبوعية: “بمناسبة تجديد البيعة للرئيس القائد بشار الأسد، ترعى شركة ألفا للصناعات الدوائية و…” كان لدى أهلي وقفة وتأمل إزاء القائد والبيعة وتجديدها، ومنذ ذلك اليوم إزاء صباح فخري نفسه. “لو طلعت الأوَّل على صفك منبعتك.” قالوا طارحين حلهم الوسط. ذهبت إلى المدرسة بعد بضعة أيام، يوم إعلان النتائج، وكانت المنافسة بيني وبين فتىً يدعى عمرو، اسمه مدرج في قوائم الطلاب خطأً قبل اسمي تمامًا، وآخر نودي له بـ عمَّار القصير، تمييزًا عني أنا، عمَّار الطويل. تدخَّل أهل عمرو بكل طريقة ممكنة لتجليس درجاته، بينما لم يتدخل أهلي في المدرسة إلا عند احتجازي بعد عراك. دخل الموجه وبيده قائمة الدرجات، كان انتماؤه لحزب البعث واضحًا من تصفيفة شعره المفروقة الأيقونية. هو هزيل وعابس، يرتدي سروال بيج وقميص واسع مدكوك ومتكوم حول الخصر، اللباس الموحد للطبقة الوسطى الموظفة في حلب. مر على الأسماء ووصل إلى حارتنا: عمَّار (القصير) ٢٧٣، عمرو… ٢٨١ الأوَّل عالصف، عمَّار (الطويل)… ٢٨١ كمان الأوَّل عالصف.
ذهبت إلى حفل صباح فخري ذلك الصيف، برفقتي جاري وشطيرة برجر حلبية بدينة لساعات الانتظار. كان هناك منطقة ڨي آي پي ممنوعة عن العوام في منتصف مدرجات الملعب، لم يكن لي شغل معها ولا هي وروادها لهم شغل معي. ثم كان هناك ملعب الحمدانية، حيث يلعب ويفوز ويخسر ويرفع طموح أهل حلب ويخيبها فريق الاتحاد، أو كما ناداه الحلبيون باسمه القديم أما الاسم الجديد والرسمي فقد قرره حزب البعث: الأهلي، أو الأهلاوي. دخلنا المدرج قبل خمس ساعاتٍ من الحفل، وكان يدخل معنا ويدعس على أقدامنا شباب هم طلبة وعاملوا بناء وسائقو تكاسي ارتدوا القمصان الحمراء للأهلي ودخلوا الملعب دخلتهم لمباراة، بحناجر مستعدة للتشجيع أخبرني أهلي بأن صوتها وصل منزلنا الذي يبعد ستة أو سبعة كيلومترات عن الملعب. “بالبداية طلعت عالبلكون فكرت صوت عاصفة مع إنو الدنيا صيف” أخبرتني أمي، “بعدين نزلنا تمشينا واكتشفنا إنو الصوت جاي من الملعب.”
كان ملعب الحمدانية مظللًا بأخيه الأكبر، استاد حلب الدولي. مبنىً رهيب. استغرق بناؤه بلا داعٍ نصف قرن، قيل إنها كانت كافية لاختلاسات ورشاوٍ كافية لبناء حلب مرتين. كذلك قصة المبنى الشقيق له، القصر البلدي، المبنى الطويل جدًا في الجميلية والذي استغرق بناؤه مدة مماثلة ثم نشب به حريق خلال الشهر الأوَّل من عمله. اندلع الحريق في إحدى الطوابق المرتفعة، مرتفعة بما فيه الكفاية لترى حلب أين وكيف تُصرَفُ أموال الضرائب.
دخل صباح فخري الملعب بسيارة، متأخرًا ساعتين. مرت السيارة على مضامير السباق المحيطة بالملعب ثم على العشب الأخضر نفسه. الرجل لا يمشي. ينزل أمام المنصة التي أعطت وجهها لقسم الڨي آي پي، وحيث انتظره كافة الموسيقيين. قال صباح مقدمة سريعة نقلتها إلينا مكبرات صوت رديئة ولهجة حلبية كسولة تتداعى فيها الكلمات على بعضها. كان الحديث عن الرئيس وكنت سعيدًا بأنني لم أفهم كلمتين متتاليتين منه. ثم غنى صباح فخري، الهَرِم كقلعة حلب والعظيم مثلها، غنى لثلاث ساعاتٍ توجه خلال معظمها نحونا نحن، الذين يصيحون ويبدو صياحهم على قولة أمي كعاصفة. شبابًا وأسراً، كتفًا بكتف وخصرًا بخصر. غنينا بصخبٍ لدرجة أننا كنا معظم الوقت نسمع أصواتنا نحن لا صوت صباح. لم يأمر الرجال نساءهم بالاحتشام ولا بناتهم بالضبضبة، حارتنا ضيقة ومنعرف بعض. غنينا خلال الأغاني، وهتفنا لصباح والأهلي في الاستراحات. حمل أحد ذوي القمصان الحمر بجانبي منظارًا، بينما كانت أمي قد قلدتني مطمورة مياه حافظة للحرارة بلون عسكري. تبادلنا ميزاتنا اللوجستية للحظة، ونظرت عبر منظاره البلاستيكي القرقوع الذي اشتراه على الأغلب بعشر ليرات من السويقة سوق جملة على مشارف حلب القديمة، تباع فيه الكثير من البلاستيكيات الرخيصة نظرت إلى صباح حين كان يغني بطربٍ محموم “والقلب ما يهوى الاثنين. بدو وحدة حلبية! اييه! اي والله طعماني، القراصية، طعميته طعماني، القراصية.” تخيلت للحظة هذه العلاقة الحلبية للغاية والغرائبية، حيث لا يتبادل العشاق القُبل بل لقم الطعام. هي صورة منفرة ولا بد، لكنها لم تكن كذلك لنسختي ذات الأربعة عشر عامًا. أمسكت المنظار بيدين ترتجفان من الإعياء والرهبة، ولم أعتز بحلبيتي يومًا كما فعلت ذلك اليوم.
في السنة التالية بدأ أبي بمنع صباح فخري في البيت تدريجياً، ليس لأسبابٍ سياسية بل لسأمٍ ولرغبةٍ بمشاكستي. بعد ذلك نشب خلافٌ بيننا ولم يعد صباح يغني في منزلنا على مكبرات الصوت. تشاركتُ مشاكلي الأسرية مع ثلاثةٍ من أصدقائي، اثنان أكراد لم يكترثا لصباح فخري، استمع أحدهما لآيكون والثاني لإيڨانسنز، أما الثالث فكان مصدومًا ومستنكرًا حدَّ الغثيان حين أخبرته بأنني رقصت في حفلٍ لصباح فخري بمناسبة تجديد بيعة الرئيس. نظرت لحظتها إلى ساعده المكشوف والذي وَشَم عليه ببلاهة وبقلم حبرٍ أزرق ناشف رمز السواتسيكا. لم أعرف كيف أشرح لأسعد أنني أحب صباح فخري حبه لهتلر. لم أرد إخباره بأن حفلة جار القمر كانت تشغل عندي نفس المكانة التي يشغلها عنده كفاحي، فسكتُّ.
استمعت مع رفاقي الجدد للراب الأقرب منَّا ومن مشاكلنا وقتها، شكلنا فرقة سميناها ذ سَن-جلاسز لأن كل شيء يبدو بنظرنا سوداويًا، مزيج من النخب الثالث بين الراب والإيمو. أنا (الذي كنت أسمع لآيس كيوب بشرهٍ وقتها) وأسعد (النازي) كنَّا إيمو… أحيانًا، نسمع لآشلي سيمبسون ونتنمر على من يشكك برجولتنا. أما صباح فخري فبات موسيقى مناسبات، للمزرعة مع العيلة في الصيف، للسهرات الصيفية الصباحية المخمورة بالإرهاق، لطريق سفر حلب دمشق حين دخلت الجامعة.
بدأت الثورة في سوريا، ثم الحرب. لم أعد أدندن صباح فخري ولا حتى في الساعات الصعبة. حشرت السماعات في أذني واستمعت للبيتلز وبوب ديلان، أصحابي الهيبيون الجدد. احتجت لأغانٍ عن الوجودية والتمرد والإنسانوية، لا “القلب ما يهوى الاثنين، بده وحدة حلبية”، لم أحب حلبيةً في حياتي. في العام التالي انتقلت إلى مصر. في مصر، في الشهور الأولى على التحديد، كان لصباح فخري حصَّة الأسد من أذني. ردة فعل مذعورة لإدراك متأخر وغير معلن بأنني فقدت مدينتي، والتي حاولت إقناع نفسي لأربع سنواتٍ لاحقة بأنني لم أحبها من الأساس. حاولت، بدرجةٍ مماثلة من الإنكار، التمسك بحلب عبر يا ربة الوجه الصبوح وهات كاس الراح، حتى هالله هالله يا جملو، متجاهلا تساؤلي الأزلي: من الأهبل الذي يسمي ابنته جملو، والأكثر هبلًا الذي يحب جملو هذه ويتوله بها عبر الأغنية: “وقفت جملو بباب الدار، ولما شفتـ(ه)ـا قلبي احتار.”
تابعت أخبار حلب التي كانت تتحول يومًا تلو الآخر إلى أكثر المدن دمارًا منذ الحرب العالمية الثانية، واحتار قلبي أيضًا. في الصيف الأول بعد وصولي مصر نزلت إلى سوريا لأسبوعين للعمل كمراسل حرب. بحثت كمفجوعٍ في بسطات الرقة، المدينة التي كانت تتحول وقتها – قسرًا – يومًا بيوم إلى عاصمة داعش، بحثت عن دي ڨي دي الأربعة جيجا القديم الكفو لصباح فخري. عثرت عليه. حملته معي غنيمةً تُدمع العينين بهجة إلى تركيا ثم عودةً إلى القاهرة. لم أحصل على الدي ڨي دي من حلب، لكن مجموعةً شبه كاملة لأعمال صباح فخري، من أينما حصلتَ عليها، هي شيءٌ حلبي بقدر ما تعد أحجار قلعة حلب حلبيةً، بالنسبة لي على الأقل .
لم يغادر صباح فخري حياتي ولا أظن أنه سيفعل. في علاقتي الأخيرة، وحين اختفيت يومين عن الانترنت، أرسلت لي صاحبتي مازحة: ابعتلي جواب وطمني، ثم أرسلت لي في غير يوم أغنية عالروزانا من تسجيل سناء موسى. أحببت البادرة، احتفلت بها صراحةً، لكنني لم أكترث لنسخة سناء من الأغنية، ولكي لا أظلمها، لو الرب بنفسه سجّل نسخة من عالروزانا لن أكون أكثر اكتراثًا. كانت حلب التي ولدت وشببت فيها حلب صباح فخري، وكذلك كان مُلكًا له – بالنسبة لي – كل ما غناه من التراث. حين تَصِل عالروزانا إلى حيث يغني صباح ويصيح الجمهور بهستيريا معه: “يا رايحين ع حلب، حبي معاكم راح” أعلم أن حلب قد راحت، وأن الأمور ليست على ما يرام، لكن أعلم أيضًا أن صوت صباح فخري باقٍ، وأن هذا سيساعد دائمًا.