.
شاهد الكثيرون حلقة برنامج المذيع طوني خليفة “أجرأ الكلام” التي استضاف فيها أوكا وأورتيجا – من أبرز أيقونات “المهرجانات” – وشعبان عبد الرحيم (شعبولّا) والملحّن حلمي بكر.
اتّخذ حلمي بكر، كالعادة، موقع المدفع الذي ينتظر لحظة الإطلاق لينسف من يجلسون أمامه. والفرصة جاءته عندما طلب منه المذيع التعليق على فقرة سابقة قدّمها أوكا وأورتيجا. وبالسؤال السحريّ الموجّه لأورتيجا: “تعرف إيه عن الراب؟“، بدأت جلسة الاستتابة التي امتدّت لـ 45 دقيقة. لكن، هل لو نجح أورتيجا في الإجابة، وقدّم معلومات دقيقة عن نشأة الراب وأصوله وكيفيّة انتقاله لأميركا، هل سيرضى الأستاذ عما قدّمه من “مهرجانات“؟ وما هي نوعيّة المعرفة التي يمكنها فعلاً الحكم على العمل الفنّي، أو المنتج الثقافي؟
إذ استخدم حلمي بكر كافة أشكال الإدانة، بداية من الحكم على المستوى الفنّي (الرطانة التقليديّة حول استخدام البرامج المحوسبة، وخاصة الـ Auto- Tune)، وحتى الحكم على أهليّة البشر (يقول لأورتيجا: أنا آسف إنّي بكلّمك الكلام ده، أنا لازم أقلب الورقة وأتكلم عشان تفهمنى). لتنتهي الحلقة وأنا لا أفهم – وكنت أريد أن أفهم – ما الذي لا يعجب حلمي بكر تحديداً في “المهرجانات“.
ذكّرتني الحلقة هذه بمسلسل معاد وممل شاهدناه في نهاية الثمانينيّات، وتحديداً عند ظهور أغنية “لولاكي” وبداية إنتاج الملحّن والموزّع حميد الشاعري. حينها صكّ حلمي بكر مصطلحات مثل: الأغنية الشبابيّة والهبابيّة والمهلبيّة – كأنّه كان يبحث عن جسد لينهال عليه بالضرب والسباب، وكان لا بدّ من منح إسم لهذا الجسد.
بنفس التكرار والملل، استمعنا لآلاف النسخ من هذه الحلقة تلفزيونيّاً وإذاعيّاً كلّما ظهر “لون جديد” – كما وصف شعبولا أوكا وأورتيجا ومهرجاناتهم. فلا الرجل ملّ الدور، ولا البرامج ملّت الرجل.
المسرحيّة، إذن، مكتوبة مسبقاً، وكلٌّ يعرف دوره فيها: سيجلس الأستاذ المتسلّح بالمعرفة (أو العلم كما يحلو له أن يردّد) لـ“يسلخ” ضحيّته. وستجلس “الضحية” وهي تعلم تماماً أنّها تؤدي دورها الاعتذاريّ الاستنكاريّ، وتقول: “أنا مؤدّي مش مغنّي“. و“إحنا ما بنشربش خمرة ولا حشيش“. و“إحنا ما كنّاش نعرف إن الرقص على مديح الحسن والحسين غلط” – (في إشارة لأغنيتهما المثيرة للجدل في فيلم “عبده موتة“). و“إحنا ما نعرفش يعني إيه العلبة الذهبيّة” – (في إشارة لإعلان استعمل أحد أغنياتهما عن منشط جنسيّ باسم العلبة الذهبيّة)”. وسيجلس بعض المتحمّسين في المنازل بحالة “أورغازم” فكري، وهياج لطاقة العنف المكبوتة، سعيدين بالأستاذ الذي يأخذ بثأر النسخة المقبولة من الفن كما يعرفونها، أمام هؤلاء الذين يقومون بطعنها في صميم تكوينها.
هؤلاء المتحمسين الذين اعتادوا على تسمية بلادتهم الفنيّة بـ“عيشة“، وبالمقابل، تسمية طموح الغير للخروج عن “النسخة“: جنون، و“مش عارف مصلحته“. المتحمّسون أيضاً هم جزء من الجمهور الذي يستمع إلى المهرجانات في كل مكان، ولا يستطيع أن يمنع جسمه من الرقص على الإيقاع. وهم من يطلب لعب المهرجانات في الأفراح والمناسبات. ولكنهم يعرفون، من خلال الاستماع إلى “الملحّن صاحب العلم” أنه سيأخذ دوره أيضاً في الترحّم على “زمن الفن الجميل” و“مصر الريادة“.
لا أحد يريد أن يشرح لنا هذا التناقض؛ أغانٍ نسمعها جميعاً ونلعنها جميعاً: ذوقنا الذي نختاره، واللغة التي فرض علينا أن نتحدّث بها.
هذه اللغة التي تم خلقها من قاموس مكرور يستخدم المصطلحات الرنّانة، ومفردات العلم والجهل باستسهال شديد وعنف مطلق. خالقاً، بذلك، تراتبيّة متسلّطة تصادر الحق في التجربة – التي لولاها لما عرفنا الطريق للابتكار.
لا تصلح المزايدة بسلاح العلم في بلادنا – كما أنّها لا تصحّ في بلاد أخرى أيضاً: لأن من يتعلّم فعلاً يعرف أنه لم يتعلم شيئاً – ولكن، نحن نتعامل هنا مع حالة خاصة.
فإذا سلكنا طريق المزايدة، نجد أننا نتساءل: متى انتهى حلمي بكر من تعليمه في الموسيقى؟ وفي أي نوع من المعاهد والأكاديميّات؟ وماذا كان موقعها وتصنيفها ضمن أكاديميّات العالم؟ بأي مستوىً وتقدير علميّ تخرّج منها؟ وماذا فعل لتجديد معرفته الموسيقيّة في الثلاثين سنة الأخيرة، أم أن “علم الموسيقى” لم يجدّ عليه جديد؟ ماذا أضاف للمكتبة اللحنيّة العربيّة منذ أربعين عاماً؟ في أي نوع من الموسيقى كان تخصّصه؟ وهل جمع بينها كلّها؟ وأيها يجيد النقد فيه أكثر؟
مع الانتهاء من فاصل المزايدة: تتجدّد معرفة الأكاديميّات الموسيقيّة بتجدّد الإنتاج الفنّي. حين ذلك تنفتح المعرفة على الإنتاج المباشر، وتغيّر من مناهج النقد، وتنتقد ما كانت تجزم به من قبل. ففي علم الدراسات الثقافيّة، لا يُنظر إلى الموسيقى ككيان مجرّد يتم إنتاجه بمعزل عن التطوّر الاجتماعيّ.
لا أريد أن يبدو المقال – في مجرى تعبيره عن الغضب – إستماتة في الدفاع عن أوكا وأورتيجا. الحديث هنا ليس عن الظاهرة الفنيّة التي ادّعت الحلقة أنها تناقشها، بقدر ما يرتبط بهذا الإطار المجتمعيّ الزائف والملتحف بحجج معرفيّة من قبيل “تعرف إيه عن الراب؟” – الذي تدفع الظاهرة الفنيّة لتناقش من خلاله. الحديث هنا هو عن ربط الفن، الذي لا نتذوّقه بالعشوائيّات، ليظهر أكثر من “ناقد” في تقرير تم بثّه بالحلقة ليقول أن ما أسماه “المهرجانات الشعبيّة” هي موسيقى للناس التي تعيش في “العشوائيّات” يرقصون عليها في “الأفراح الشعبيّة“.
ألم يرقص هؤلاء النقّاد بالأمس على موسيقى المهرجانات في حفل زفاف بأحد فنادق القاهرة الخمس نجوم؟ ألم يلاحظون العشوائيّات في قلب حي المهندسين “الراقي“؟ وفي قيادة السيارات؟ وفي استحلال الفساد واستخدام البلطجة والخروج على القوانين؟ ألم ينتبهون في أي يوم إلى أصحاب الياقات البيضاء الذين يسكنون “العشوائيات” ونسبتهم؟ هل العشوائيّات مكان بعينه؟ طبقة بعينها؟ زمان بعينه؟
يجلس اليوم ممثّل هذا الخطاب المتعالي نيابة عنكم ليقول أننا ننهار. يجلس ليدفع “الضحية” للاعتراف بأنها تغنّي لطبقة بعينها، وأنّها تحاول أن تطوّر نفسها لتغني لبقية الناس. وبأنّها ستذهب للتعاون مع الموزع الموسيقيّ الذي يصنع أغانٍ مثل التي يسمعها بقية الناس. وسنصدقّهم جميعاً، لأنّ بداخلنا رغبة حارقة لرؤية كل الناس تشبه كل الناس. وللمفارقة، قال شعبولا في معرض الكلام، أنه عندما صنع أغنية لم يستخدم فيها لازمته التقليديّة المعروفة التي تنتهي بـ“إيييييييييه” لم يحبّها الجمهور، وأنه حاول أن “يتطوّر” ويغنّي “الطرب“، ولكن الجمهور رفضه.
هذه الحلقة هي معكوس لخطاب الحفاوة الزائدة بالمهرجانات، وكل ما يحب المثقفون أن يميّزوه باسم “الشعبيّ“. المعكوس الذي يعبّر تقريباً عن نفس الموقف المتعالي. هؤلاء الذين يعتبرون أن المهرجانات صرخة المهمّشين الذين يعبّرون عن أنفسهم في مواجهة أصحاب السلطة (الرمزيّة طبعاً) من طبقة وسطى وغيرها. أو “تمرّد الهامش على المتن” كما يتثاقفون.
لكن، متى كان الغناء “الشعبيّ” على الهامش، بالمعنى الفنّي والاقتصاديّ والاجتماعيّ؟ ومتى لم تكن له قاعدة جماهيريّة واسعة؟ متى لم يكتسح جميع الطبقات الاجتماعيّة ويسمعه الجميع؟ وبعدسة أكبر قليلاً: ماذا يسمّى غناء أم كلثوم إلا بالغناء الشعبيّ (يمتد عبر التاريخ والجغرافيا، ويتجاوز لحظة إنتاجه واستقباله، ليتحوّل إلى ظاهرة فنيّة لم تستوعب بعد كل ملامحها)؟
كثير من هذا الخطاب هو قشرة، يتجادل بها الجميع في معركة وهميّة على السطح. فلا أحد يُجهد نفسه، ولا يستثمر علمه الذي يعايرنا به، لتحليل مضمون الظواهر الفنيّة، ولا قياس حجم انتشارها الفعلي، ومدى قدرتها على الاستمرار. ولا حتى الجديد الذي أتت به ومكامن قبحها وجمالها، وأيضاً دلالاتها في سياق حركة المجتمع الذي ظهرت فيه.
وهذا في النهاية، وللأسف، يصبّ لصالح ملء ساعات العرض وصفحات الصحف، بلا فائدة ترجى ولا معرفة تُضاف.
السأم من هذا الخطاب يدفعنا في اتجاه مزيد من “المهرجانات” يا أستاذ بكر. فإن ظلّت المعرفة مضَلِّلة هكذا – لا تستخدم إلا في التسلّط على الآخرين، والاسترزاق عليهم، فلن تقابل إلا من يسعى لتفكيكها، وابتذالها، والنيل منها بعنف مضاد.
لقد أضعتم جوهر المعرفة، وهو التساؤل، من حيث تدّعون الدفاع عنها.