.
“السعوديون في الحقيقة لم يتميّزوا في إقراء القرآن إلا في العشرين سنة الأخيرة في التسعينيّات تقريباً“
القارئ ياسر الدوسري
“نحاول من خلال عملنا أن نرسّخ الأذان الحجازي الذي ينبغي أن يكون عليه الأذان في الحرم كما كان علي المؤذنون في السابق“
المؤذّن علي ملا
يمثّل لجيلي فترة الثمانينيات الميلادية، غير ضحايا الجهاديين الكرتونيين “الرجل الحديدي” و“غراندايزر” وسيلفر الماكر، والهوليوديين الوهابيين بن لادن والزرقاوي الحالمين بالحور العين من كابل إلى واشنطن، في تربية الذائقة السمعية صوتان من أجمل الأصوات المكيّة، وهما صوت طلال مدّاح (1940-2000) في الغناء، وصوت علي عبد الله جابر (1953-2005) في القراءة.
والمسألة تعتمد على الذائقة، غير أن ما تمكننا به آليات البحث العلمي للوصول إلى نتائج تبقى قائمة في المحاولات الشاهدة على العصر ومنجزاته المعرفية والنقدية ضمن العوامل الحضارية المختلفة.
تمكّن طلال مداح من تكريس نزعة جماليّة صوتيّة اتسمت بالأناقة والبراءة المقننة في ملامحها، مثلما اتسمت النزعة الجماليّة التجويديّة عند المقرئ علي عبد الله جابر بالخشوع والألفة والتلوين المحسوب في اقتدارها.
يشترك الصوتان في تفاصيل حياتهما كثيراً، مثل الأصل الحضرمي واليتم والموهبة. وبرغم الفجوة بين المجالين: الغناء والقراءة، فما يجمع الصوتين بأنهما يلمعان في الخاطر بمقام الرست (أو الرصد)، والدواوين الصوتية العفوية في تهذيبها وثقافتها الواضحة، والخبرة في الأداء، والمنجز الثقافي بحسب المجال فرق الدرجة لا النوع.
ليس مقام الدراسة الكلام عن طلال مداح، فقد أعددت فصلاً كاملاً عن تجربته في كتابي “تغنّي الأرض: أرشيف النهضة وذاكرة الحداثة” (2010)، لكن هنا لن يكون الكلام أيضاً عن القارئ علي عبد الله جابر برغم أنه لا زال يَعْمُر ذاكرة الثمانينيّات التلفزيونية التي تحتفظ بنقل الصلوات المفروضة وصلوات التراويح بين عامي 1980-1982، ثم عودته مكلفاً بالإمامة في شهر رمضان بين عامي 1986-1989. بالإضافة إلى تداول تسجيله القرآن الكريم كاملاً في كندا عام 1985.
ولكن تنشغل هذه الدراسة في أكثر من مسألة عن عنصر النغم (أو الموسيقى) في الشعائر الإسلاميّة المرتبطة ببعض الأركان الخمسة من الصوم والصلاة والحج – التي يتوجب تحديدها–، وعن الالتزام بها عنصراً أو إلغائها ومنعها بتبديعها بالفتاوى، وعن مسار قرّاء القرآن الكريم وتحوّلاتهم من مسألة القراءة الطوعية والتكليف الرسمي إلى نجوم المواسم الدينيّة كليالي رمضان والمآتم، تتاجر بهم المساجد خارج الحدود، وتجدولهم الفضائيات في عروضها الرمضانية.
وسندرك أن احتكار أو تنازع رأسمال أداء الشعائر والأركان داخل في تكريس جسد الدين في أوعية الذهن وأدوات السلوك والمخيال الإنساني من الأصل: أي الدين، ومن تحريكه مفهوماً في البعد الذهني بصورة تديّن أو في البعد السلوكي بصورة مظاهر تديّن. بل ينطوي هذا الأداء على ممارسات متمايزة بين تديّن رسمي وتديّن شعبي وتديّن سياسي بحسب عزمي بشارة (دياب، 2007، الأهرام).
ومن سياق هذه الدراسة سنلحظ الصراع الإقليمي (حيازة الرأسمال الثقافي والاجتماعي) بين نجد والحجاز، واختلاف الجذور الثقافيّة بينهما في التراث المعنوي مثل نموذج مصطلح أداء الشعر المغنّى عند نجد (الطّرْق)، وأمّا عند الحجاز فهو (الجَسّ). فكيف بقراءة القرآن الكريم التي تختلف بين المنطقتين، وبين محاولات الإدماج الإكراهية والطوعية في بعض التقاليد المشتركة وأداء الشعائر، والتباين في أدائها الذي يجعل من الحجاز تلميذاً مباشراً لمنجزات أو مكتسبات الحضارة العربية الإسلامية مع تطورات العهود الفاطميّة والمملوكيّة والعثمانيّة. أي أن الحجاز مدينة إلى نسيجها الاجتماعي والثقافي باعتبارها تحت رعاية العواصم بغداد ودمشق والقاهرة وصنعاء واسطنبول –محامل الحج وأعطياتها–، ومن ثم الوفود البشرية إليها حاجة أو مقيمة إما من الشرق الأقصى وإما من الشمال الأبعد.
كما يتوجب معرفة أن أداء الشعائر غير المفروضة أي: المتعلقة بالإسلام الشعبي والمتصلة بالطقوس الواجبة، وأخص: الصوم والصلاة والحج، المستمدة من أركان الإسلام الخمسة اتخذت صيغ تطوّر إما في أدائها، كالأذان والأذكار وقراءة القرآن الكريم، وإما التهيئة لها كالحج. بالإضافة إلى ظهور مناسبات دينيّة عدة، ليست مفروضة وإنما تعلقت بطائفة إسلامية، أو بصيغة أرحب تتعلق بمراحل من مسيرة الإسلام الحضاري (أو التثاقفي أو التوفيقي تاريخياً) كالمولد النبوي وعاشوراء والإسراء والمعراج أو بقرار سياسي لأحد الحكام والسلاطين، كالمحامل الأربعة المسيّرة في ظاهر قوافل الحجيج من مصر واليمن والشام والعراق.
يرجى العلم أن هذا جزء من دراسة مطولة ستصدر ضمن كتاب لاحقاً تمثل إحدى فصوله، وأضطر إلى حذف المصادر والمراجع والروابط لاعتبارات تحريرية. وأما موضوعها فالمقاومة الثقافية للفنون والآداب إزاء الصراع الاجتماعي– الاقتصادي الذي يلبس لبوسات مختلفة: سياسيّة مرة وأخرى دينيّة: ضجيج مصيره الخرس ويبقى صوت الثقافة انتصار الإنسان الأبدي.
(1) الفَلْس يقهر هبل:
الأذان الحجازي والإمامة النجديّة
إذا كان كبير آلهة الحجاز، أي الحمس، هو هبل على هيئة إنسان، فإن كبير آلهة نجد: الفَلْس، على هيئة إنسان أيضاً. فبالرغم تأكيد المؤرخين أن تركة هذه الآلهة من الحضارة الثموديّة، إلا أن اقتسام كل إقليم لإله عن الآخر ملفت بشكل كبير.
فهبل مصنوع من عقيق أحمر على صورة الإنسان مكسور اليد اليمنى (كدر، 2013، ص: 243)، وأما الفلس كان أنفاً أحمر في وسط جبل “أجأ أسود” كأنه تمثال إنسان (كدر، 2013، ص: 192).
وفي كل حضارة تخلف أخرى مهما دمرت مظاهرها من التراث المعنوي أو المادي ثقافية أو دينية أو اجتماعية، فإما يعاد تدويرها بحسب المعطيات لتبقى، وإما يبقى جرحها حاضراً في الذاكرة على صورة نزيف مستمر يعبر عنه بطرق مضمرة عدة.
وقد توصل الباحث زكريا محمد في كتابه “نخلة طيء” (2005) إلى نتيجة مثيرة للاهتمام عن كون شعب الهكسوس الذي حكم مصر ظهر من التكوينات الشعبيّة من الحضارة الثموديّة، بالإضافة إلى نتيجة تخص دراستنا عن الإله الفلس سنذكرها لاحقاً.
كانت قد تحولت رمزية ” بنات الله” (اللات والعزى ومناة) مع كبيرهم هبل الحجاز في صورة (الله) فإن الفلس بوصفه رمزاً نجديّاً. وبحسب المرويات الإسرائيلية، بأن نجد (قرن الشيطان) عبر معادلة الخير في الله ( المنحوت من اللات صوتياً)، وذلك بحسب كتاب ” آكام المرجان في أحكام الجان” ( 1908) للشبلي (ت. 1367م) الذي أورد المرويّة المنسوبة للنبي محمد بزيادة من البخاري، فتكشف خطاب التنازع الحضاري بين نجد والحجاز، فهو يبارك الشآم واليمن (اتحادهما لخدمة الحجاز ثقافيّاً واقتصاديّاً وسياسيّاً)، بينما يحمل على (نجد) بوصفها الخصم العنيف فيقول: “هناك الزلازل والفتن، ومنها يطلع قرن الشيطان” (الشبلي، 1908، ص: 187)، أي: أن الفلس سيتحول إلى رمزيّة الشر الدائمة عبر مفردة دخلت النص القرآني وهي (إبليس) أي بالانحراف الصوتي الذي يؤرّخ لنهاية نطق الباء المخففة المعادلة للحرف اللاتيني (P) عندما افترقت العربيّة الثموديّة عن الآراميّة البابليّة والكلدانيّة في تجلياتها النبطيّة – ما قبل عربيّة القرن الخامس والسادس الميلاديين– (محمد، 2005، 187-192).
ونوظّف هنا رمزيّة كل من الإلهين ضمن إطار التنازع الإقليمي بين الحلة والإله الفلس في نجد، والحمس والإله هبل في الحجاز، ولا ننسى اندغام الإله المقة الذي يمثل الطلس، والذي بقي بشكل صارخ في اسم مدينة مهد الإسلام أي: مكة المكرمة (القمني، 1993، ص: 127).
وهذا الفرش التاريخي هو تعزيز لإرث التنازع الحضاري الدائم الذي مهما تلوّنت الأزمنة السياسيّة فهو شاهد على ما تموج به تحوّلات العناصر الحضاريّة وتمثلاتها الثقافيّة والدينيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة.
يحدّد الشيخ أحمد الطويل في كتابه التجميعي “فن الترتيل وعلومه” (1999) مراتب القراءة القرآنيّة، فيذكر مرتبة التحقيق أي: المبالغة في المدود (تمثّلها القراءة الحجازية) المنسوبة إلى ورش عن نافع بن عبد الرحمن (الطويل،199،ص: 126)، ومرتبة الترتيل/ أي إتقان الوقوف (تمثلها القراءة الكوفيّة) المنسوبة إلى حفص عن عاصم بن أبي النجود (الطويل، 1999، ص: 127)، ومرتبة الحدر أي السريعة (القراءة الحجازيّة) المنسوبة إلى قالون عن ورش، وهي تقترب من (القراءة البصريّة) أي: قراءة احتراز بالدرجة الأولى (الطويل، 1999، ص: 128).
ويتحدث الطويل بكثير من الادعاء دون من الأخذ بأسباب تنامي الإسلام الشعبي حين يقول: “كانت قراءة السلف تحقيقاً وترتيلاً وحدراً ثم طرأ عليها ما يعرف بالتلحين والتطريب، ويقصد بالتلحين: القراءة وفق الألحان، بما يوافق النغمة والهوى، وإعجاب السامعين” (الطويل، 1999، ص: 150). ويضع أكثر من وصف لسمات أداء القراءة بالألحان بقوله: الترعيد والترقيص والتطريب والتحزين.
وهذا بالنص منقول من السخاوي في كتاب “جمال القراء وكمال الإقراء” من رسالة بعنوان ” منهاج التوفيق إلى معرفة التجويد والتحقيق“، برغم أن السخاوي يعد ذلك من الابتداع في القراءة، أي أنه يكشف عن أزمة استيعاب لمكاسب الإٍسلام الشعبي بالرغم من أنّه يلفت إلى القراءة الجماعيّة: أي الترديد لأواخر فواصل القرآن بين المقرئ المنفرد وجماعة من المقرئين المردّدين (السخاوي،1997، ص: 641-642).
ويصف القراءة التنغيميّة للقرآن الكريم بتعنيف لفظي– يحمل المنقصة والتهمة والمحاكمة المباشرة-: “وكان العرب من يقرأ على هيئة إنشاد الشعر – وهو لا يجوز في التلاوة– ولعلّه الأصل في الخروج بالقراءة، من تلاوة السلف إلى هيئة الإنشاد، ثم إلى هيئة التلحين، كما ينشد الزنادقة بالألحان، فيطربون ويرقصون ويرهجون“.
وهذا بالنص منقول من الرافعي الذي يقف بشكل سلبي من الإسلام الشعبي، بالإضافة إلى عدم التزامه بالإحالة إلى مصادره ومراجعه، وهي سمة تكشف ممثلي “السلفيّة الثقافيّة” في القرن العشرين الفائت، إما بالموقف الاستخفافي بالتراث العربي، وإما الجهل بمنطق التاريخ وانعكاسه على الإسلام الحضاري (الرافعي، 2005، ص: ص: 45).
ومن ذلك – بحسب الطويل– يعتمد على حديث نبوي منكر بقوله عن القراءة على “ألحان الروافض في نياحاتهم يوم عاشورا، فهي ألحان أعجمية محرمة من باب النوح، ومنها الترانيم الكنائسية، والأنغام اليهوديّة، فإن التشبه بها حرام” (الطويل، 1999، ص: 153). وهنا ينقل من السخاوي بشكل مباشر من دون الإحالة إليه، لكن توصل المحققان في الهامش، بعد مراجعة متون الحديث النبوية بما يخص القراءة، إلى تهافت هذا الحديث الذي لم يسم راويه (السخاوي،1997، ص: 637).
ورغم أنه أقر بإجازة المذهبين الحنفي والشافعي للقراءة التنغيميّة بالاستدلال بمآثير نبويّة وردت في صحيح مسلم “ما أذن الله لشيء كأذنه لنبي، يتغنى بالقرآن، يجهر به“، أو بآراء إقراريّة بأفضليّة التنغيم من حنجرة ذات موهبة ودربة من محدثين وفقهاء حنابلة – أي: مراجع الوهابيّة المفضّلة– مثل الحافظ بن حجر في ” فتح الباري“، وابن القيّم في “زاد المعاد” – على كراهة المؤلف– فهو يسوق كلام يناقضه بقوله “ومعلوم أن السلف كانوا يقرؤون القرآن بالتحزين والتطريب، ويحسنون أصواتهم بشجى تارة، وبشوق تارة، وبطرب تارة، وهذا أمر مركوز في الطباع” (الطويل، 1999، ص: 158).
إلا أنّه يسوق الموقف المذهبي السلبي من تنغيم القراءة (أو القراءة بالألحان)، فيذكر بأنه “يكرهه المالكيّة والحنابلة، وغيرهم من السلف والخلف، كراهة التحريم“، ويعتمد على مجموعة من الأحاديث الموضوعة والضعيفة، ويقرنها بآراء مزاجيّة لكل من الإمام مالك الذي اتخذ موقفه المضاد من دافع اقتصادي بقوله “إنما هو غناء يتغنون به ليأخذوا عليه الدراهم“، والإمام أحمد بن حنبل الذي يبرر موقفه الذوقي من تحويل مناداة (يا محمد) إلى (يا مو حامد) بينما تراه يذكر كلمة (مدهمتان) المدونة في نص آية مستقلة رقمها (64) من سورة الرحمن على هذا النحو (مُدْهَامَّتَانِ)، وهي كناية عن خضرة الجنتين.
وهنا لا يعنينا مسألة الدفاع عن الإسلام الشعبي من خلال نوبات قراءة القرآن الكريم، خارج إطار الصلاة، إلى مناسبات دينيّة عدة سواء في الأماكن العامة أو المجالس أو البيوت، فصلة العابدين بربّهم لا تحجبها أحاديث موضوعة أو ضعيفة أو آراء مزاجية لهذا الإمام أو ذاك.
وأما مسألة أن يسوق موقفه الحاد من المذهب الشيعي (الروافض بحسب قوله) في مجالس العزاء لاستذكار يوم عاشوراء، فقد وضحنا قضية التنازع السياسي بين أجنحة قريش المستمرة في تحالفاتها عبر التاريخ السياسي وما تضمره من الطوائف الدينيّة السابقة من الحمس والحلة والطلس ومصالحها تحالفاتها. وأمّا مسألة (نياحاتهم، باب النوح) فهو ذكر في وصف التلحين وبيان طرقه ومنها طريقة (التحزين)، ويمكن التذكير بأن قراءة قُرّاء نجد عرفت بالـ“تحزين” لسببين، معلوم وخاف، فالمعلوم أي: التبرير بالمأثور النبوي “إن هذا القرآن نزل بحزن قاقرأوه بحزن” برواية ابن ماجه، ويذكر عبد الله آل دريس” وممّا قيل في معناه: يقرأونه بطريقة أبي موسى الأشعري آخذاً من قوله (لحبّرته لك تَحْبيراً) أي: يحزّنه. قال ذلك الإمام أحمد بن حنبل” (آل دريس، 2008، جريدة الرياض).
ولنا كنموذج قراءة القارئ النجدي عبد الله الخليفي الذي كان قارئاً حزّاناً، والحزّان هو القارئ بالعبريّة وهي إحدى وظائف الحاخام (الكلمة مشتقة من مفردة حوخما أي: حكمة)، اتخذ من الكلمة الآرامية الحازي المرادفة للعراف والحكيم والساحر.
عبد الله الخليفي دعاء الختم، 1987
وهنا نصل إلى مسألة (النياحة عند الروافض –بحسب تعبيره-) المرادفة للتحزين، والتحزين يأخذنا إلى الأنغام اليهودية، وأما الترانيم الكنسيّة سنرجئها قليلاً.
ترجع ظاهرة التحزين، التي ينسبها آل دريس إلى تقارب قُرّاء نجد وصفة التحزين عند أبي موسى الأشعري أحد رموز مدرسة القراءة البصريّة بينما انتخاب قراءة حفص عن عاصم (تمثل القراءة الكوفية) ومزجها مع القراءة البصرية، إلى عناصر منسجمة أظهرها في القراءة الكوفيّة التحقيق (تحقيق الهمز) وأيسرها في القراءة البصريّة الحدر (أي بمستوى صوتي واحد سريع).
هذا المزيج الكوفي والبصري يرجع إلى السبب الخافي في قضيّة التحالفات ضد اتّباع أو اتخاذ القراءة الحجازيّة نموذجاً عند القراء النجديين، باتباع القراءة العراقيّة باعتبار أن نجد العمق الجغرافي للهلال الخصيب من خلال بوابتيها: حائل والقصيم.
وبتذكّر ما قاله المؤرخ عبد الرحمن الرويشد عن القارئ صالح العييري (ت.1932)، بالإضافة إلى تلميذيه القارئ عبد الرحمن القويز والقارئ محمد بن أحمد بن سعيد المتأثرين بالقراء العراقيين، لعله أكّد اتخاذهما الطريقة من فن المقام العراقي عند محمد القبانجي، غير أنّه لم يشر إلى المقرئين العراقيين الذين عرفوا بين أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، ومنهم ملا خليل (ت. 1902)، وملا عمر الخضيري (ت. 1912) وعبد السلام آل الخفاف (ت. 1935) وسواهم (العزاوي، 2012، ص: 100).
وتغيب عن بعض المؤرخين مسألة التفاعل الحضاري، أو بالقرابة والمصاهرة، تلك الصلات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية المستمرة، عند طائفة العقيلات (قوافل التجارة النجدية) أو بوصف المؤرخ عبد الغني إبراهيم في عنوان كتابه “نجديون وراء الحدود” (1991) من أهالي نجد والقصيم وحائل التي تجوب القوس الجغرافي من الأحساء حتى السودان.
وما يهمنا هنا ليس المعلوم والخافي من سبب انتشار القراءة الكوفية والبصرية الممزوجتين مقابل عدم الأخذ بالقراءة الحجازية بممثليها (ورش وقالون) وانتشارها في مصر وشمال أفريقيا. وإنّما يهمنا معرفة الترابط العميق الجذور بين فن الغناء وفن الترتيل (بديلاً عن القراءة التنغيميّة للقرآن والتباس ضبط النطق الصرفي والنحوي المسمى: التجويد)، فإذا ازدهر أحدهم انعكس على الآخر. فخاصيّة التكرار الزمني أو التزمين (في النظم والإيقاع)، وخاصيّة الصنعة البنيويّة أو الإتقان (في الشكل والأداء)، وخاصيّة التشكيل أو الزخرفة (في النغم واللون) هي ما يعتمد عليه القراء في ترتيلهم، وأظهرها بحكم التقيّد بالنص القرآني (الخواص الأدبيّة في بناء السور ومعانيها ووظائفها)، خاصية التكرار الزمني وخاصية التشكيل لاعتبار أن خاصيّة الصنعة تعارضها ظاهرة الارتجال النغمي الذي هو أساس الترتيل.
ونلاحظ الترابط العميق بين فن الغناء وفن الترتيل، في حالتي الازدهار والانحسار، يعود إلى المراحل التاريخيّة بين علو الشأن السياسي في فترات مختلفة من الحكم العربي سواء في الممالك العربيّة من مدنها الحيرة وجرها ونجران واليمامة وكندة ويثرب ومكة وبصرى وبترا والحجر، أو في الخلافات العربيّة من عواصمها دمشق أو بغداد أو قرطبة أو القاهرة أو صنعاء، أو انحدار الشأن السياسي في فترات الاستعمار القديم الساساني (آخر الحكام الفرس لإيران) في القرن الثالث الميلادي، أو البيزنطي (الرومان والإغريق) في القرن الثاني الميلادي، أو الاحتلال والحكم الأجنبي من المماليك الأيوبيين (الأكراد) بين القرن الثاني عشر والثالث عشر، أو المماليك (الأتراك والشراكسة) بين القرن الثالث عشر والسادس عشر، أو المغول (الصينيون والأتراك) في القرن الثالث عشر، أو العثمانيين (الأتراك) بين القرن السادس عشر والقرن العشرين.
وقد ذكرنا شهادة الهيثم العلاف – سنكررها لاحقاً– عن الازدهار الثقافي الذي ينعكس على منقولات التراث المعنوي والمادي، ومن المعنوي فن الغناء واستتباع فن الترتيل له أو توظيف عناصره الأدائيّة والنغميّة وخواصه الجماليّة والذوقيّة، فإننا نلفت أيضاً إلى شهادة المؤرّخ المعاصر الرويشد حين يشير صراحة إلى اعتماد القراءة الكوفيّة في صورتها النجديّة طريقة أداء فن المقام العراقي، أو تلوين على أسلوبها ومزاياه، كذلك شهادة شيخ مقرئي المدينة المنورة إبراهيم الخضر الذي يقر بمسألة الاستتباع بين فن الغناء وفن الترتيل من خلال الاختلاف في الطرق الأدائية للترتيل بين بلد عربي وآخر فيقول:
“ففي المغرب مثلاً تجد القراءة متأثرة بالجوار الإسباني، فموسيقاهم قريبة من الإسبان وكذلك قراءاتهم وكذا الحال في السودان حيث إنهم لم يكتسبوا الصوت العربي ولم يوظفوه لذا تجد أن أهل السودان عندما يقرأ قارئ بالطريقة المشرقية فإنهم يطالبونه بقراءتهم المحلية القديمة، وهذا أمر صحيح، حيث إن القراءة القديمة تلك هي نتاج تلاقح الوافدين من دول الجوار الأفريقي” (إدريس، 2011، جريدة الشرق الأوسط).
ويعزز من هذا الكلام مقولة استنتاجية كنا أرجأناها عن أثر “الترانيم الكنسيّة” بحسب تعبير الشيخ الطويل، فقد ذكر أحد الباحثين عن نشأة الإنشاد الإسلامي في مصر: “وقد اختلف المؤرخون في نشأة فن الابتهالات، فمنهم من أرجع أصلها إلى العصر الفرعوني ومنهم من أرجعه إلى عهد الدولة الفاطمية. والمستمع المدقّق لترتيل الكنيسة القبطية سوف يجد خيطاً يربط بين ما نسمعه من ابتهالات وتراتيل“. (النمر، 2014، جريدة الأهرام).
فإذا أدركنا الازدهار الثقافي في مملكة المناذرة والغساسنة ومملكة كندة وامتداده حتى العصر الأموي والعباسي، كما يكشف لنا الكتاب العمدة “الأغاني” للأصفاني ( توفي في القرن العاشر)، ندرك أيضاً انتقاله إلى العصر الأندلسي في عواصمه الحمراء وقرطبة وغرناطة، كما يكشف لنا كتاب “الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة” لابن بسام (توفي القرن الثاني عشر)، ثم فترة استقلال الأقضية أي: بعض الأقطار العربيّة عن السلطنة العثمانيّة في بغداد وحلب والقاهرة، كما تكشف لنا بعض مدوّنات التراجم لمشايخ الطرق الصوفيّة أو السفن الأدبية (المخصصة لأورادهم وأذكارهم وأشعارهم) كالقادريّة في العراق والشام، والشاذليّة والنقشبنديّة في مصر، والتيجانيّة في الجزائر والمغرب، والختميّة في موريتانيا، أو كتاب فريد بعنوان “بلوغ المنى في تراجم أهل الغنا” لمحمد الكنجي في القرن الثامن عشر.
غير أن فترات الانحسار الحضاري تقوم لأسباب ماثلة في المتغيرات الاقتصاديّة والسياسيّة وعناصرها الفاعلة كالتجارة والأمن. ويمكن التدليل على كلامنا بمقولة تاريخيّة: “لم تعرف القاهرة في عهديها: الأول والوسيط من المغنين والغناء ما عرفته بغداد وقرطبة، والعلة واضحة، هي تزمّت الفاطميين وتظاهرهم بالورع لرواج دعوتهم الشيعيّة، وجهل أكثر الأيوبيين وعامة المماليك باللغة العربيّة وانشغالهم بالحروب الصليبية ومقاومة التتار. ولا بد للفن من تشجيع ليزدهر ويترعرع، وهو إن لم يقم عليه: الحكام والمترفون من الأغنياء بالتعهد، ذبل وصُوّحتْ أوراقه وأدركه الموت” (محفوظ، 2009، ص: 104).
ونذكر هنا شهادات المؤرخين، فقد عرفنا أن المؤرخ الجبرتي لم يحصر سوى اسم مقرئين اثنين من غزة بفلسطين عرفا في مصر في القرن الثامن عشر، حتى أن المؤرخ العزاوي لم يجد سوى مقرئ واحد في القرن التاسع عشر، كذلك آل إدريس لم يحصر سوى اسم واحد في نجد في القن التاسع عشر.
ولكن حين تنامى الازدهار الثقافي في فن الغناء، ما بين القرن التاسع عشر والعشرين، من خلال الزوايا الصوفيّة ظهر معلمون وتلامذة: في العراق الملا عثمان الموصلي، وفي الشام صالح الجذبة، وفي اليمن محمد العمري، وفي مصر محمد عبد الرحيم المسلوب، وغيرهم. ثم الجماعات الغنائيّة المتخصصة مثل أصحاب الحضرة في العراق والشام، والعدة في الخليج العربي، والصهبجية في مصر، والبشكة في الحجاز، ما انعكس على تنامي المقرئين والمنشدين والمؤذنين والمدّاحين في تلك الأقطار.
وما يهمّنا هنا بعد أن عرفنا مسار خطاب التنازع ما بين القراءة الكوفيّة والقراءة الحجازيّة، وانضواء القراءة البصريّة في إحداهما، متمثلة في الصراع على حيازة الرأسمال الثقافي لإدارة الوظائف الدينيّة، كالإفتاء والتفقيه والإمامة والأذان، في القرن العشرين أو من لحظة انضواء الحجاز ممثلاً في مدينتيه المقدستين: المدينة المنورة ومكة المكرمة تحت لواء الحكم النجدي الممثل في المملكة العربية السعودية منذ عام 1932 أي عام إعلانها السياسي.
ويمكن الانطلاق من لحظة تاريخية مهمة، وهي التي ذكرناها تختص بالجانب التنظيمي والإداري، ولا يخفى لدور خطاب التغالب في فرض النفوذ السياسي سواء في التشنيع أو المنع أو الاعتداء على أداء شعائر الإسلام الشعبي من الموالد النبويّة ومحامل قوافل الحج ومنع زيارة الأضرحة بهدمها، ولكن لدينا حدث رمزي شديد الصلة بخطاب التنازع النجدي – الحجازي الذي أدى إلى خطاب التوافق بين الأذان الحجازي والإمامة النجديّة، والذي بدوره يكشف عن العمق الثقافي والاجتماعي لخطاب التنازع بين القراءة الكوفيّة والقراءة الحجازيّة، أو بصورة أبعد الصراع الجاري في العمق الحضاري بين الحمس والحلة.
هذا الحدث هو ما ذكرناه بإلغاء تعدد الصلوات والأئمة في المسجد الحرام، ولا بأس من تكراره مرة أخرى: “ففي شهر ربيع الثاني 1345 هـ (1925م) اجتمع فريق من العلماء الحجازيين والنجديين وقرّروا أن تكون صلاة الجماعة التي تقام في المسجد الحرام جماعة واحدة، وانتخبا من كل مذاهب ثلاثة أئمة يتناوبون في أوقات الصلوات الخمس، فكان من الحنابلة الشيخ عبد الظاهر أبو السمح والشيخ حمد الخطيب، ومن الشافعية الشيخ عبد الرحمن الزواوي والشيخ محمد علي خوقير، والشيخ عمر فقي، ومن الحنفية الشيخ عباس عبد الجبار والشيخ عبد الله بن ميرداد، ومن المالكية الشيخ أمين فودة والشيخ عبد الله حمدوه والشيخ عباس مالكي. وقد وافق جلالة الملك عبد العزيز على هذا الترتيب وجرى العمل بموجبه وأصبحت الجماعة واحدة في المسجد الحرام” (الزهراني، 2002، ص: 84-85).
وتثبت موافقة الملك عبد العزيز الدعم والدفع بخطاب التوافق الذي جرى حيث ستكشف وظيفة المؤذن والإمام في الحرم المكي خطاب التنازع مضمراً مقابل ظهور خطاب التوافق بينهما.
وما يعنينا هنا مسار التحول في فن الترتيل من خلال القراءات القرآنيّة الثلاث وحضورها المتفاوت بين مقرئين برزوا بشكل كبير ولا يمكن إنكار الحضور والفعالية الرمزي في الذاكرة الثقافية.
لكن يمكن إضافة الحدث الثاني الذي يكرس من خطاب التوافق، وهو إنشاء إذاعة استوديو مكة المكرمة العام 1951 (اشتهرت باسم إذاعة جبل هندي)، قبل إطلاق إذاعة أخرى أطلق عليها “صوت الإسلام” العام 1961، ثم نقلت الأولى إلى جدة باسم “البرنامج الثاني“، وخصصت من الرياض “إذاعة القرآن الكريم” (1972).
وما يهم هو الاعتماد على إمامة الحرم المكي بشكل مبكّر من خلال ممثل المذهب الحنبلي من مصر عبد الظاهر أبو السمح (1880-1950) سوى أنه اعتمد القراءة الكوفية أي روابة حفص عن عاصم منذ عين للإمامة والخطابة بالحرم المكي تاعام 1925، وتبعه أخوه عبد المهيمن أبو السمح (1890-1979) الذي عيِّن بين ( 1949-1968)، وزاحمهما في الإمامة والخطابة المقرئ الحجازي عبد الله خياط (1908-1995) الذي عين إماماً منذ 1926 ثم خطيباً عام 1953.
هذا على الرغم من أن المقرئين الحجازيين توالوا عبر أثير إذاعة مكة المكرمة منذ إنشائها عام 1951 بصوت المقرئ الحجازي عباس مقادمي (1921-1990): زكي داغستاني، وسراج قاروت، وزيني بويان، وجميل آسي، وجعفر شيخ.
عباس مقادمي، سورة مريم
إذ عدّت قراءة بعض المقرئين المصريين مرجعيّات مباشرة للقراءة الكوفيّة برواية حفص عن عاصم. مثل محمود خليل الحصري (1917-1980) (أول من سجل القرآن الكريم برواية حفص عن عاصم عام 1961 وعممت من إذاعة القرآن الكريم المصرية حتى عام 1981 رغم تسجيله رواية ورش عن نافع 1964 ورواية قالون عن نافع عام 1968) والذي تعتبر تسجيلاته للقرآن الكريم تعليمية فهو أقرب إلى مرتبة التحقيق (الطويل، 1999، ص: 130)، ومحمد صديق المنشاوي ( 1920-1969) الملقب بـ“الصوت الباكي” ( المفضل بشكل كبير عند قراء نجد) إذ وصفت قراءته بمرتبة الترتيل أو ” المصحف المرتل بتوسط المنفصل” ( الطويل، 1999، ص: 127)، وسضاف إليهما – منسياً ومهمشاً–المقرئ السوداني سعيد محمد نور (أطلق صوته في إذاعة جدة عام 1968).
سورة مريم للشيخ سعيد محمد نور
وإنما ما يهمنا تمثلات خطاب التنازع بين الإمامة النجديّة والتبليغ الحجازي ( الأذان والإقامة) حين بزغ نجم صوت مقرئ نجدي استعمر الذاكرة التلفزيونيّة والإذاعيّة بأسلوبه التحزيني في الحرم المكي، وهو عبد الله الخليفي (1912-1993) الذي عيّن خلفاً لأبي السمح الأخ الأكبر عام 1953 وكان يرافقه تبليغاً أكثر من مؤذن محمد خليل رمل (1938-2004) المولود في جاوة وعبد اللطيف ملا (ت. 1992)، وصالح فيده، ثم مقرئ نجدي آخر محمد بن سبيل (1924-2012) الذي عيِّن إماماً وخطيباً ومدرساً في الحرم المكي منذ العام 1965 حتى 1999. غير أنه سيخترقهما صوت يمثل القراءة البصريّة، هو علي عبد الله جابر (1953-2005) في فترة قصيرة وبلّغ معه المؤذن علي معمر (1925-1999) وعلي ملا (مواليد 1946). بينما واصل وراثة القراءة النجديّة عبد الرحمن السديس (مواليد 1963) منذ عام 1983 وبلّغ معه المؤذن فاروق حضراوي ثم سعود الشريم (مواليد عام 1966) منذ عام 1991 وبلّغ معه المؤذن حسان زبيدي.
ولم يسلم الأئمة النجديون من النقد، من الجانب الحجازي، فإذا كان الكاتب زهير كتبي بوصفه ابن مكة يجادل في نقده كل إمام ممن ذكرنا سابقاً، فهو يرى لكل من الأخوين أبو السمح وبعد الله الخليفي بصمة في الذاكرة “أئمة تركوا [بصمات أصواتهم]، في أروقة المسجد الحرام، وأصواتهم ما زالت ترن في أذان المسلمين“. وأما محمد بن سبيل “كان هذا الرجل مميز في كثير من أخلاقه وصفاته وأعماله، وتميز وتفرد صوته الحنون [بالبحة]، صوته فيه حنان، وخطبه رائعة ومفيدة“.
“وأما عبدالرحمن السديس “يعاب عليه ارتفاع صوته والصراخ الدائم أثناء القراءة رغم أن صوته جميل، وله سلبيات شديدة الملاحظة والنفور من كثير من الناس فهو من أوائل أئمة المسجد الحرام الذين عملوا على [تسييس الخطبة] وهو أول من أدخل في خطبة [دعاء] صلاة الجمعة والتراويح والتهجد والوتر والدعاء لولي الأمر بالأسماء. ففي بعض خطبه يدعو للأسرة الحاكمة بالتسلسل الوظيفي ابتداءً من الملك فهد بن عبدالعزيز ـ رحمه الله ـ ثم الملك عبدالله ثم الأمير سلطان ثم الأمير نايف ــ رحمهما الله ــ وفي هذا العام أضاف الملك المؤسس عبد العزيز بن عبد الرحمن، وأعتقد أنه في قادم الأيام سوف يضيف للمجموعة الشيخ محمد بن عبدالوهاب ــ رحمه الله ــ وأمير منطقة مكة المكرمة ووزير الداخلية ومدير الأمن العام ومدير عام المباحث العامة. وهذا أسلوب لا يليق في الخطبة لانه يفقدها هيبتها ووقارها ويخرجها من صفات الخطبة لكي تصبح [خطاباً سياسيً]، وهذه “بدعة” ابتدعها الشيخ السديس يتحمل إزرها وإزر من يعمل بها. فكان يفترض ان يكون الدعاء عاماً بالدعاء [لولي أمرنا] بصفة عامة. أما التعامل مع الأسماء فهو أمر مرفوض ولا يليق بمنبر المسجد الحرام. وأعتقد أنه يكفي الشيخ السديس قد حصل على مرتبة (وزير) بتوليه رئاسة المسجد الحرام والمسجد النبوي. الغريب في الأمر أن علماءنا وفقهاءنا لم أسمع أحدهم يستنكر ذلك باعتباره (بدعة) وخاصة أن كثير من علماءنا يعتبرون كل ما يستجد (بدعة)”.
“وأما سعود الشريم صاحب صوت جهوري، صوته حنون، ويجذب المصلين ويجعلنا نعيش الخشوع والطمأنينة. وخطبه هادئة وجيدة ومفيدة وتوعوية وعصرية فلا أشعر أن لديه كلمات الانفعال والغضب. ومن خلال تغريداته الأخيرة في (تويتر) تبين لي أنه (أخواني الهوى)، ويرفض تسييس خطبة الجمعة” (كتبي، 2013، مدونة زهير كتبي).
عبد الرحمن السديس، سورة يوسف
ولنستطيع الوقوف على خطاب التوافق المضمر لخطاب التنازع بين القراءة النجديّة والحجازيّة من ناحية المدرسة النغميّة كما تبيّن لنا من سيطرة رواية حفص عن عاصم ممثلة للمدرسة الكوفية التي تتبع إليها القراءة النجديّة، بينما ستتمظهر مدرسة القراءة الحجازية من خلال صوت المؤذنين ودورهم في الأذان والإقامة والتبليغ (ترديد التكبير وتكبير العيد ونداء القيام ونداء صلاة الميت) من دون إغفال توارث المهنة من بيوتات مكية لثلاثة قرون، وهي: عائلة شاكر، وعائلة بصنوي، وعائلة بدر، وعائلة جودة، وعائلة بصمجي وأما من اختصت بالتوقيت بالمسجد الحرام فهي عائلة الريس (الكردي، 2000، 139). فإنّه يتوجب الإصغاء إلى المرجعيّات الثقافيّة التي تستند إليها مدرسة القراءة الحجازيّة. ولا ننسى أن لكل مذهب مقام يطلق الأذان منه رغم توحّد الصلاة في جماعة منذ عام 1925، إلا أن الأذان ظل يطلق من المقامات الأربعة حتى عام 1979 بحسب رواية المؤذن علي ملا.
ولعل الإشارة إلى مسألة توارث المهنة في بيت من البيوتات المكية راد إلى مسألة الإثنيّات الإسلاميّة التي تعظّم من شأن أي مهنة دينيّة، ليس القراءة والتبليغ فقط، بل الطوافة والسقاية وسواها من الخدمات الدينية ذات التبرك، رغم أن ضمان توظيف المؤذنين ليس بشرط التوارث وإنما شرط الكفاءة وإن انتسب معظمهم إلى بيوت معروفة (الداني، 2009، جريدة عكاظ).
هنا نذكر الرحالة الهولندي ك. سنوك هرخورنيه (1875-1936) الذي زار جدة ومكة بين عامي 1884-1885 ليضع دراسة عن “مناسك الحج” بالإضافة إلى تكليفه بمهمة دبلوماسية لوضع تقرير عن الجاويين بوصفهم من رعايا هولندا زمن استعمارها جزيرتهم.
وأقول عمد إلى تسجيل نماذج صوتية مختلفة، سواء من فنون الأداء الديني كالقراءة والأذان والمدائح النبويّة، بالإضافة إلى نماذج من فنون الأداء الدنيويّة وثق منها المؤذن والجسيس جابر أحمد رزق (من صنعاء اليمن)، وقد حفظت التسجيلات بعض المسامرات والأحاديث بلهجات تسكن مكة من بلدان مختلفة كالحضرمية والزنجبارية والجاوية (الواصل، 2013، ص: 143).
ويعرف أن المؤذن الشهير محمد خليل رمل من مواليد جاوة ثم انتقل مع عائلته إلى مكة المكرمة وتربى بها حتى ذاع صيته وكلف بشكل رسمي بالأذان في الحرم المكي.
محمد خليل رمل، الأذان الحجازي
ولدينا هنا سيرة المؤذن علي ملا (مواليد 1946) الملقب بـ“بلال الحرم” من مكة المكرمة، الذي يحمل شهادة في الدراسات العليا متخصصة في التربية الفنيّة، وهو حفيد للمؤذن علي عبد الرحمن ملا كذلك جده لوالدته عبد الله خوج، ولم يكن وحده وإنما أعمامه وأخواله توارثوا الأذان في الحرم المكي (الذبياني، 2006، جريدة عكاظ).
علي ملا، الأذان الحجازي لصلاة الفجر
وهو يردّ تعلمه إلى مطربين كبيرين، هما: عبد الرحمن بصمجي (الشهير بالأبلتين) وحسن لبني، وقد عين منذ العام 1975 في الحرم المكي، ويؤكد مزايا الأذان المكي الذي بحاجة إلى صوت ذو مدى متسع وقوة أسر، بينما يتطلّب الأذان المدني رطوبة في الصوت. ويختلف الأذان المكي عن الأذان المصري والسوري، غير أنها كلها تنتمي إلى المدرسة الحجازية وإنما بدرجات مختلفة.
ويحدّد السلم النغمي – بحسب تقاليد شفوية متوارثة– بعبارة مختصرة “بحمر دسج” ترمز إلى أوائل حروف الدرجات الصوتية المشكلة للسلالم النغمية (أي: المقامات)، وهي البنجكاه، والحراب والماية والدوكاه والركبي والسيكا والجهاركاه. ويخصّص كل مقام لمناسبة مثل الماية والبنجكاه للأعياد والجمع، بينما يخصص مقام الماهور لأيام الغيم والمطر.
ويرى الشيخ محمد مغربي أن الإمامين السديس والشريم – والمقرئ علي عبد الله جابر أيضاً– يقرآن من مقام الرست، لكن تلزمهما الطبقة الصوتية لكل منهما تبليغ يتباين بينهما، فالتبليغ مع السديس يناسبه تبليغ من مقامات الحراب والحجاز والجهاركاه ويماني الحجاز بينما يناسب الشريم التبليغ من مقام الرست والحسيني والحجاز كار (مغربي، 2010، ملتقى القبلة).
صلاة المغرب للشيخ عبدالرحمن السديس، تبليغ الشيخ فاروق حضراوي
صلاة المغرب للشيخ سعود الشريم، تبليغ الشيخ فاروق حضراوي
ويعرف أن بعض المؤذنين يتخصّص بمقام لا يفارقه، مثل المؤذن عبد الملك ملا الذي يتخصّص بمقام الحسيني، بينما اقتصر على عدد محدود منها كالمؤذنين أحمد بصنوي وإبراهيم عباس وعلي معمر. بينما أدى التبليغ بأغلب المقامات المؤذنون حسان زبيدي وفاروق حضراوي وعلي ملا ومحمد رمل ونايف فيده ومحمد شاكر (مغربي، 2010، ملتقى القبلة).
ويؤكد شيخ مقرئي المدينة المنورة إبراهيم الخضر تلك الصلة من خلال حديثه عن محاولة التأزيم بين فن الغناء وفن الترتيل حيث يعتمد الثاني في أصول الأداء وخواصه على الأول، فيعلق: “وأمر الحلال والحرام في القراءة بالموسيقى والمقامات ليست هي القضية، فالقضية أن لدي معالم محددة جداً لا ينبغي تخطيها بتاتاً لجعل صوتي مسرحاً للقرآن الكريم، والمعالم تترز في قوانين التجويد، وأحكاه التجويد، والوقف والابتداء والالتزام بهذه القوانين” (إدريس، 2011، الشرق الأوسط).
ويعزز من الدور الدعوي والتربوي للقارئ فيقول: “المطلوب القارئ الذي يأخذ الأحاسيس التي يحملها القرآن، لينقلها إلى أذن المستمع وتنتقل إلى روحه، لتحدث التأثير المطلوب” (إدريس، 2011، الشرق الأوسط).
بينما حين نطالع مزايا القراءة النجدية القرآنية، فهي كالآتي:
* ترك العناية بغالب أحكام التجويد.
* القراءة بالفطرة دون تكلف والسرعة أي ما يشبه الحدر
* إهمال الحركة الإعرابية في الفواصل، وإحلال الكسرة لأجل التقاء الساكنين غالباً.
* غلبة الصوت الشجي الحزين، الحسن النغمة.(آل إدريس، 2008، جريدة الرياض).
سورة المزمل للشيخ محمد بن سبيل
ويضيف الباحث عبد الله آل دريس بأنه يمكن وصف قراءة القراء النجديين وفق علوم النغم، فهو يذكر التالي: “أما محاولة خلع وصف المقامات الشيهرة على قراء ةالنجديين، فإن مقام أهل نجد من خلال ما سبق من تلمس للصفات والسمات مقام يسمى مقام الركباني ذات المقام له إيقاع مثل إيقاع الجمل، ومسماه من رمز الطبيعة النجدية الصحراوية لأهل نجد، وهو يقارب صوت الشيخ محمد بن سبيل إمام الحرم المكي“( آل دريس، 2008، جريدة الرياض).
هذا الاعتراف يؤكد أنه لا مفر من استخدام علوم النغم حتى إن فارقت شخصية الأداء وظلال البيئة في نجد عنها في الحجاز، وهي تتوازى متوافقة مع مقولات عدة سيقت سابقاً: فلا نفاذ للقراءة دون علم النغم. إذن يلزم رفع العقيرة خطّاً نغميّاً يختلف عن خط الكلام، ويدرك ذلك من تعلمه أو من وهب صوتاً يعرف مكامن قدرته ويصيب به في القراءة.
ويمكن إضافة معلومة تكرس العلاقة العميقة ما بين قراء نجد وقراء العراق ممثلي القراءة الكوفية والبصرية، فالعوّاد نصير شمة يذكر: “مقام الركباني جزء من مقام السيكا [الدرجة الثالثة من السلم النغمي] وله خصوصية وعمق، والركباني شكل مرتبط بالصحراء في العراق والجزيرة العربية، وأعتقد أن له تأثير كبير على كائنات أخرى غير بشرية مثل الجمال لذلك حين يقود حادي الإبل [الهجّان] مجموعته يردد هذا النغم” ( البعلاو، 2005، جريدة الفرات).
أذان على مقام الركباني، ضاري العاصي
إذن، فالتعارض بين القراءتين واضح جداً، غير أن خطاب التوافق بين تولي الإمامة للقرءاة النجدية والأذان للقراءة الحجازية لا يحقق التوازن بل يكرس مضمراً خطاب التنازع على مستويات عدة لا تقف عند فارق نغمي بصورة كمية أو نوعية، بل هو ما يتشكل عبر إرث طويل ومستمر من التنازع الإقليمي والتاريخي والثقافي والاجتماعي.
وإذا كانت مسألة تحليل الترتيل من عدمه تتورط في مجادلة مفرغة، كما عرفنا في مقولات غير متماسكة دليلها أحاديث ضعيفة ومعدومة الرواية، تقف موقفاً سلبياً من الترتيل يتناقلها بعض الباحثين في علم القراءات سواء من عصر سابق كالسخاوي أو معاصر كالطويل، فإن المسألة تتبع المزاج الشخصي والمستوى الإدراكي من نصوص ظنية لا تقيم قياسها أو إجماعها.
ونستعرض هنا محاولة متهافتة لنماذج المواقف السلبية من الإسلام الشعبي المغروسة ضمن أجندات مذاهب تدعي امتلاك الحقيقة المطلقة. ففي كتيب بعنوان “البيان لحكم قراءة القرآن الكريم بالألحان” (1990) وضعه أيمن رشدي سويد وطبعته الجماعة الخيرية لتحفيظ القرآن الكريم بجدة يعدّ مسبق الحكم في هدفه ومقصده كعادة الكتب الموجهة التي نشطت “زمن الصحوة” في الربع الأخير من القرن العشرين موجهة إلى الفضاء العام وحقوله الثقافية والاجتماعية والاقتصادية باستخدام استراتيجية “الوصمة” مع تقوية الموقف بخطاب التخادع، إما بتحريف التفسير اللغوي والمجازي للنص القرآني وإما الاعتماد على أحاديث معتلة وإما بحشد نصوص فقهية توافق المقصد.
وهو ما فعله المؤلف الذي أباح طباعة كتيبه طوعاً، فقد وضع محاولة شرح موضوعه عبر مادة معجمية منتقاة بموافقة مقصده، وانتقل إلى انتخاب نصوص فقهاء – معظمهم حنبلي أو تحنبل– يوافقون المقصد أيضاً يمثلون عن مأزق مع “الإسلام الشعبي” وتفهم عجلة التاريخ.
وبعد لعبة تعديد أسماء الفقهاء الموافقين لمقصده فبعض منهم مجهول لا يكاد يذكر أو ممن الصعب الاعتداد برأيه ومن ينقل عنهم أو ممن عرف عنه التطرف والتحريض مثل أبو بكر الخلال وأبو بكر الآجري والقرطبي والنووي وابن تيمية وابن كثير والخطيب الشربيني والأشموني وسواهم.
ومن بعد ذلك يورد فتاوى منتقاة توافق هوى المؤلف، والفتوى اجتهاد غير ملزم فهي ليست بدليل صريح من الأصول الإسلامية وإنما رأي شخصي لصاحبها، لمجموعة من المقرئين مثل حسين خطاب وأحمد الزيات، وعبد الفتاح المرصفي ومحيي الدين الكردي، ومحمد سكر، وأساتذة تدريس القراءات والتجويد في الجامعات مثل سعيد العبد الله وعبد الغفار الدروبي.
ونخلص إلى أنها مجموعة من التقاريظ المجاملة للمؤلف، وهو دأب تشجيع طالب العلم على مبدأ للمجتهد نصيب في أحد الأجرين. والملفت أنه نال تقريظ الشيخ عبد العزيز بن باز، غير أنه أثبت بشكل قاطع خواص القراءة النجدية بقوله: “وإنما المشروع تحسين الصوت باقراءة والتحزن فيها “(سويد، 1990، ص: 65).
وإنه لأمر جلي أن النصوص تأكل بعضها بين هوى أصحابها وأثر زمانهم ومكانهم على مواقفهم وآرائهم ومستويات تعلمهم وتفقههم واستيعابهم للمستويات المختلفة بين الإسلام الرسمي والإسلام الشعبي والإسلام الحضاري. غير أن مقولة ابن باز– في وعيه ولا وعيه– تععيدنا إلى مقولة آل دريس عن خاصية قراء نجد: “وربما كانت بمجملها أقرب إلى التحزين” (آل دريس، 2008، جريدة الرياض).
كذلك يعيدنا إلى مقولة أبو زهرة حين يعلق مستعيباً القراءة الحجازية عند قراء مصر، فيصفها بـ “بدعة القرآن بألحان الأعاجم“، وهم هنا يضيّقون فهم مكتسبات الإسلام الحضاري التي وعاها أحد القراء، ومن يشهد إلا من أهلها، الذي اعترف بأن كل قطر يعتمد الموروث الثقافي في فنون الأداء ونعيد إيرادها –وهي للمقرئ الهيثم– : “إن أهل الحجاز قرأؤا على النصب غناء العرب، وأهل الشآم قرأؤا على قراءة الرهبان، وأهل الكوفة قراؤا على قراءة النبط، والبصرة على الخسرواني غناء فارس“.
ويدعم ذلك الموقف الحضاري الواعي عند شيخ مقرئي المدينة المنورة إبراهيم الخضر ونعيد التذكير بكلامه: “ففي المغرب مثلاً تجد القراءة متأثرة بالجوار الإسباني، فموسيقاهم قريبة من الإسبان وكذلك قراءاتهم وكذا الحال في السودان حيث إنهم لم يكتسبوا الصوت العربي ولم يوظفوه لذا تجد أن أهل السودان عندما يقرأ قارئ بالطريقة المشرقية فإنهم يطالبونه بقراءتهم المحلية القديمة، وهذا أمر صحيح، حيث إن القراءة القديمة تلك هي نتاج تلاقح الوافدين من دول الجوار الأفريقي” (إدريس، 2011، جريدة الشرق الأوسط).
ما يلفت هنا أكثر من أمر هو الاتفاق عند فقهاء وباحثين حول القراءة النجدية بخاصية “التحزين” مقابل الاعتماد المطلق في القراءة الحجازية على الخزينة النغمية المتعددة في السلالم النغمية المتصلة بشكل مباشر بفن الغناء واعتمادها أصولاً ومرجعيةً في أداء الأذان والقراءة.
إذ تكمن في تمثلات خطاب التوافق خواص التفجر بخطاب التنازع المضمر، وهي لعبة “تكسير رؤوس” بين خصوم في لعبة “حرب منائر” بين أذان حجازي وقراءة نجدية. تكشف عن صراع متعدد يلعب بكثير من الأسلحة الخطرة التي تقتل صاحبها قبل خصمها.
ولكن رغم تعميم قراءة حفص عن عاصم عمّا سواها من القراءات لأسباب عدة، تعليمية ومناسباتية واستملاك إرث واستعراض نفوذ، بالإضافة إلى تجليات القراءة النجدية المتمثلة في الإمامة والقراءة والقطيعة مع القراءة الحجازية التي تكدست في منفذ الأذان والتبليغ، فإن التحول في شخصية المقرئ ما يتجاوز مسألة التبليغ أو الإمامة.
ترى من أحدث هذا التحول؟ وما الذي قاد إليه؟
(2) القرّاء نجوم الجماهير:
علمنة التجويد القرآني
ضمن مادة كتبت عن خارطة توزيع “الإمامة والأذان في المسجد الحرام” عام 2004، فقد ذكر أن للحرم 6 أئمة، وهم: محمد بن سبيل (عضو هيئة كبار العلماء ورئيس العام لشؤون المسجد الحرام)، وصالح بن حميد (رئيس مجلس الشورى وعضو هيئة كبار العلماء ومدرس بالمسجد الحرام) وأسامة خياط (عضو مجلس الشورى)، وعبد الرحمن السديس (عضو هيئة التدريس بجامعة أم القرى وإمام وخطيب مسجد الفرقان بمكة المكرمة)، وسعود الشريم ( عضو هيئة التدريس بجامعة أم القرى بمكة المكرمة)، وصالح آل طالب (قاضي بالمحكمة الكبرى بمكة المكرمة).
توزعت على هؤلاء الأئمة الصلوات الخمس أربعة نجديون وحجازيان واحد له صلاة والآخر ينوب عمن يغيب. وخطبة الجمعة مقررة بحسب الفئة العمرية الأصغر فالأكبر أي ما بين السديس والشريم بينما تخصص خطبة عيد الفطر والأضحى وصلاة الاستسقاء للرئيس ابن سبيل.
وأما صلاة التراويح منذ العام 1994 حتى العام 2002 فخصصت بالتناصف بين السديس والشريم، وأما صلاة القيام، في تاريخ يسبق العام 1994، فقد تعددت بين أكثر من إمام – مرتبط بالتكليف الرسمي إداريّاً أو من الملك مباشرة– سواء من الحرم المكي مثل ابن سبيل أو علي عبد الله جابر أو من النبوي عبد الباري الثبيتي أو علي الحذيفي، بينما اختص بختم القرآن الكريم عبد الله الحذيفي حتى خلفه عبد الرحمن السديس.
وأما بالنسبة للمؤذنين، فهم 16 مؤذناً، فيخصّص لكل فرض ثلاثة مؤذنين لتولي الأذان والإقامة والتبليغ في مكبرية الحرم. وأما في صلاة التراويح يتواجد ثلاثة أيضاً أي تقسم بينهم مهمات الأذان والإقامة والتبليغ للمؤذن الأساسي. وأما المؤذن الملازم (المؤذن الثاني) فيختص بالنداء لصلاة الميت والتكبير للجنائز. وأما المؤذن الاحتياطي (المؤذن الثالث) فدوره الإنابة في حال غاب أحد المؤذنين الأول والثاني (الداني، 2009، عكاظ). وأما في صلاة التراويح فيتعاقبون بالتكبير بعد الإمام, وأما في ليلة ختم القرآن يتواجد ثمانية مؤذنين يتوازعون التكبيرات أربعاً أربعاً (الحبيب، 2005، منتديات لك النسائية).
وقد ظهر صوت وقف ضد الرأسمال الثقافي للقراءة الحجازية في الحرم فقال: “فكرة “التبليغ” كانت متبعة منذ فجر الإسلام وسرت هذه الظاهرة على الحرمين الشريفين قبل ظهور المؤثرات التقنية الصوتية وحان الوقت لإلغائها فلم يعد لها حاجة نهائياً، بل إنها مزعجة ومشوشة وتشتت ذهن الإمام والمأمومين (الحمادي، 2012، جريدة الشرق).
وقد ادعى الكاتب بقوله: “وقد تحدثت مع بعض المؤذنين في الحرم المكي الشريف وبعض المسؤولين في شؤون الحرمين ووجدت تأييداً لفكرة إلغاء “التبليغ” من البعض والبعض أشار إلى أن الحجاج والمعتمرين تعودوا على سماع هذه الأصوات ويتلذذون بها” (الحمادي، 2012، جريدة الشرق).
تبدي مثل هذه الكتابات، بغض النظر عن كونها تبدي رأياً تعززه ببعض المسوغات، أمثلة على باب المناكدة بين إقليم وآخر لكون الكاتب لو كان حجازياً لما قال ما قال فهو بهذا الكلام يدفع إلى خسارة رأسمال ثقافي قال عنه المؤذن علي ملا: “ونحن نحاول من خلال عملنا أن نرسّخ الأذان الحجازي الذي ينبغي أن يكون عليه الأذان في الحرم كما كان عليه المؤذنون في السابق” ( الداني، 2009، جريدة عكاظ).
بل يقف كاتب حجازي بكل ما أوتي من أساليب المجادلة الفزعة، أو المحيلة إلى اختلال خطاب التوافق الذي ينفجر منه خطاب التنازع المضمر الجاهز للخروج في حال تماس مع الرأسمال الثقافي الذي يعد ملكية حجازية مطلقة، فكيف يمكن التفريط بحسب أحد مؤرخي مهنة المؤذن المتوارثة لقرون ثلاثة في عوائل مكية خمسة. وقد كان الدافع وراء ما كتب قرار تعيين مؤذن من خارج تلك البيوتات المكية أي من خارج مكة المكرمة.
إذ أشار الكاتب كتبي إلى الشروط التعجيزية في تعيين المؤذنين: حفظ القرآن الكريم، وعدم التركيز على التبليغ الحجازي، والتمييز الإقليمي في تعيين المؤذنين. ويجادل كتبي على شكل مرافعة يستخدم فيها المعلومات التاريخية والتحيز أو الدفاع المناطقي، والتمييز الحاد بين الإرث الثقافي النجدي والحجازي بقوله: “هناك وجهة نظر طرحها بعض المؤذنين بالحرمين الشريفين تخص الأذان المكي والمدني موضحا لنا بقوله أن اللهجة الحجازية تختلف عن لهجات مناطق المملكة لا يجيد نطقها غير أهلها ويمكن اختلافها في اللكنة ونبرة الصوت واللهجة، فكيف يكون أن من يؤذن الأذان المكي أو المديني هو ليس من أهلها ؟ ولهجته تختلف عنها كلياً وبعيدة كل البعد عن فهم ومعرفة مقام الحجاز وطبقات الصوت الذي لا يتقنه أو يفهمه غير أهل مكة. فهل سيشهد الحرمين الشريفين تغيرا مع قادم الأيام في رفع الأذان والإقامة والتكبيرات عن ما تعودنا عليه وألفناه وألفته معنا مسامع العرب والمسلمين؟ وصفة الأذان بمكة المكرمة لها [خصوصيتها]، بل تفرّدها وتميّزها. فالأذان المكي يتميز أنه ليس به توقف فهو [رجولي]، واقف يستقيم بالحسن والجمال لأن بيئة مكة المكرمة جبال شامخة مثل أذان سيدنا بلال بن رباح رضي الله عنه الجهوري والقوى. أما الأذان في المدينة المنورة فله تفرد وتميز ففيه حنان وفيه تطريب وترعيش من رعشة وترغيب. وما أجمل أصوات أبناء المدينة المنورة وهم يرفعون الأذان من المسجد النبوي الشريف . وما أجمل صوت سيدنا أبو مخدروه مؤذن سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم. أما الأذان في مدينة الرياض فيه خشونة الصحراء ورفع الصوت، وفيه بوح حزن لا يتلاءم مع الأذان في مكة المكرمة، وهذا سيتضح تمام مع الاخ حمد الدغريري. لذلك كنت أتمنى على لجنة اختيار المؤذنين مراعاة هذه المزايا والمواصفات وذلك باشراك المختصين في هذا العلم” (كتبي، 2013، مدونة زهير كتبي).
رغم أن هذه المقالة تثبت الموقف الحجازي بالدفاع، إلا أن القرار الإداري يأخذ مجراه لاعتبارات مسوغة ذات الأسباب التي وراء تكليف يمكن أن تكون وراء الإعفاء، وهي ما تكشفه الأيام.
وما يهم هنا أن مجرد عرض رأي حيال شعيرة ثبتت بالتقادم تفزع بدوافعها التفسيرات المختلفة وجهوزية الظنون حيال إرث التنازع الحاضر في خطاب التوافق المدعوم إدارياً، رغم أن لطائفة المؤذنين شكاواهم ليس من سلم الرواتب المنخفض لأن منهم من يجمع بين وظيفتين، غالباً يعمل بعضهم في التعليم، وإنما من أن كاميرات الإعلام تتجاهلهم أي: لا تهتم بتاريخ طائفة المؤذنين رغم ارتباط الأذان بالركن الثاني من أركان الإسلام، وأن الكتابات الصحفية تعتمد على مرويات من غير أهل الطائفة فلا يتوجه إلى أصحاب الشأن ومصدر المعلومات وشهودها (الداني، 2009، جريدة عكاظ).
غير أن التاريخ لفن الترتيل– عكس ما يراه المؤذن علي ملا– انحاز إلى القارئ وصناعة نجوميته، ولا يمكن تجاهل إرث القراء المصريين الذين ذاع صيتهم شكلوا الإرث الأساسي للقراءة. ولأسباب عدة منها: أولاً لتراكم تجربة القراءة التاريخيّة (منذ القرن العاشر في الخلافة الفاطمية) سواء في الإمامة والمآتم والمولد النبوي وأيام الجمع وليالي رمضان وسواها، وثانياً اقتران القراءة بفنون أداء دينيّة موزاية كالإنشاد الصوفي المتعلقة مرجعياتها بفن الغناء وأنواعه الأدائية البادئة من الموال وغير المنتهية عند القصيدة. وثالثاً توفر وسائل التسجيل (كالاسطوانات أول القرن العشرين)، والبث والنقل كالإذاعة (منذ ثلاثينيّات لقرن العشرين) والتلفزيون (منذ ستينيّات القرن العشرين).
وقد دعمت شخصية القارئ تلبية دعوات القراءة في الدول الإسلامية، إما بالمشاركة في مناسبات دينيّة وإما للتسجيل في الإذاعة والتلفزيون بشكل مبكر، منهم عبد الباسط عبد الصمد ومحمد خليل الحصري ومحمد صديق المنشاوي.
يقول القارئ السعودي ياسر الدوسري من الجيل الثالث من القراء النجديين: “السعوديون في الحقيقة لم يتميزوا في إقراء القرآن إلا في العشرين سنة الأخيرة في التسعينيّات تقريباً والله أعلم، أما المقرؤون الذين يعتبرون قبلة الإقراء في العالم فأغلبهم وإن كانوا يعيشون في السعودية، إلا أنهم من مصر ومن سورية ومن باكستان ومن غيرها، لذلك تجد عندنا أن الإقراء أصبح على شكل مدارس أمثال المدرسة المصرية والمدرسة الشامية والمدرسة الباكستانية، وأكثر الذين تميّزوا من السعوديين؛ إن لم يكن كلهم قد درسوا وتعلموا على أيدي تلك المدارس” (الصالح، 2014، جريدة الاقتصادية).
ياسر الدوسري، سورة الزمر
يعبّر هنا الدوسري عن جيله والصراع على الرأسمال الثقافي ضمن الفضاء النجدي الواحد باعتباره ينتمي إلى مدينة الخرج المهمشة، وهي لا تمثل المدن التي صدرت أئمة الحرم النجديين من القصيم (البكيرية تنتمي إليها عوائل الخليفي والسبيل والسديس) وأما الشريم (شقراء). فالدوسري لم ينل حظوة التعيين أو التكليف في الإمامة في الحرم المكي، ويظل يتطلع إليها هو وسواه ممن صنعوا مجد قراءتهم بجهدهم الشخصي من خلال فرض أصواتهم في مساجد مدنهم، الدوسري في الرياض وأحمد العجمي في الخبر.
إذا كان عادل الكلباني، الذي عرف إماماً لمسجد الملك خالد (حي أم الحمام) لأكثر من ربع قرن، فكأنه خليفة للإمام علي عبد الله جابر، منح فرصة الإمامة في الحرم المكي تكليفاً في رمضان العام 2008 لكن سرعان ما خسر التعيين الحرم المكي والعودة إلى الإمامة في مسجد الملك خالد، وصار إماماً لجامع المحيسن بحي إشبيلية بالرياض.
وقد عرف الكلباني في الإعلام من خلال آراء فقهية تخالف المؤسسة الوهابية في موقفه الإيجابي من المذاهب الإسلامية ومن تحليل الغناء العام 2010 فعادته الترسانة الوهابية ممثلة بأئمة الحرم، مثل عبد الرحمن السديس وسعود الشريم. ولعلنا نسوق نموذج اختراق النفوذ النجدي في إمامة الحرم المكي والأذان الحجازي أيضاً من خلال “قيثارة اليمن” الصادحة أو صوت الطلس الغائر أو وريث مزامير داوود علي عبد الله جابر.
علي عبد الله جابر، سورة النمل
جاء علي عبد الله جابر (1953-2005) إلى إمامة الحرم مصادفة، فتلقّى القراءات على يد المقرئ المدني خليل عبد الرحمن قاري في معهد القرآن الكريم بالمدينة المنورة ثم عرف إماماً في بداياته أثناء دراسته الجامعية في مسجد الغمامة ثم مسجد السبق في المدينة المنورة بين عامي 1975-1977 ثم أتم دراساته العليا متخصصاً في الفقه المقارن العام 1980 حين اختاره الملك خالد إماماً في مسجده الخاص بقصره في الطائف، وانتقل معه في رمضان إلى مكة، فأدى صلاة التراويح بين عامي 1980-1982، وترك الإمامة في الحرم بعد وفاة الملك خالد إلى المدينة المنورة محاضراً وإماماً في مساجدها دون تعيين بالإضافة إلى أنه ابتعث إلى كندا ليدرس اللغة الإنجليزية فسجل المصحف كاملاً العام 1985. وقد صار يعود مكلفاً بالإمامة في الحرم المكي في شهر رمضان بين عامي 1986-1989. إذ أنه خلال تلك الفترة أنجز رسالة الدكتوراه في ذات التخصص الفقه المقارن عام 1987. ولم يعد جابر إماماً بعد عام 1990 رغم أنه في الفترة القصيرة كان ينافس قارئين من جيل سابق وهما الخليفي وبن سبيل بالإضافة إلى قارئين من جيل لاحق وهما السديس والشريم غير أنه ظهر عليهم وسطع نجمه.
تكشف مطالعة المحمولات المرئية والصوتية لتسجيلاته في موقع اليوتيوب بالإضافة إلى موقع خصصه حفيده له عن إرثه الصوتي المتميز. إذ استطاع جابر بما حبي به من صوت مميز صادح ومتقن التنقل بين النغم. فهو يتميز بالارتكاز على أبي المقامات النغمية: الرصد/ الرست، ويلونه بدرجات صوتيه بين العلو المتصاعد بتهذيب بين والهبوط النغمي المتأني في تسليم النغم. وقد شكل معه أكثر من مؤذن حالة تناغم صوتي رائع سواء المؤذن الكبير علي معمر أو مجايله المؤذن الصادح علي ملا، ومن هنا تتكشف لعبة التحالف بين جماعات الأداء وتنعكس مرجعيات الموروث الثقافي.
ويمكن التوسع بها من باب الاسترشاد بين فن الغناء والترتيل. وانعكاس معطيات “التحزب العرقي” الذي هو أحد مكونات المجتمع الحجازي من خلال التئام خاضع لنظام اجتماعي تراتبي لم يكن بعيداً عن مجموعة من ذوي الأصول السامية (يمنية/ حضارم)، والآرية (آسيوية / بخارية وهنود) عندما كونوا مجموعات فنية من خارج نخب الطبقة الاجتماعية العليا، حيث كون كل من لطفي زيني (1939-2000) شاعراً ومنتجاً شركة رياض فون والمغني والملحن طلال مداح [والده حضرمي ووالدته مصرية] ومعهما الشاعر المنتظر الأمير خالد بن تركي. ودعم كل من الشاعرين خالد زارع وأحمد صادق والملحن الصنعاني الأصل عبد الله محمد مقابل قيام مجموعة من عرقيات ذات أصول أفريقيّة مختلفة (حبشية وصومالية وكينية) بتأسيس شركة فنية خاصة كل من الإذاعي عباس غزاوي [فلسطيني الأصل] والشاعر طاهر زمخشري والملحن عمر كدرس وبدعم مباشر من الإذاعي الشهير حسين نجار، حيث تبنت هذه المجموعة محمد عبده مغنياً ناشئاً نهاية الستينيّات” ( الواصل، 2009، ص: 107-108).
كانت هذه المجموعة في إذاعة جدة وراء اختيار المقرئ السوداني سعيد محمد نور ليبث قراءاته القرآنية منها. ويمكن أن نلفت إلى تحالفات موازية وإنما في الكويت ضمن المكونات المضمرة في المجتمع الكويتي من ذوي أصول فارسية تحزبت لبعضها مثل أحمد باقر وعالية حسين وحسين عبد الرضا، وذات أصول زبيرية – عراقية (تعود إلى بلدات نجد) فعلت بشكل كبير في منجزات الأغنية الكويتية ما بين الستينيّات والسبعينيّات مثل عبد الرحمن البعيجان وصالح الحريبي ومبارك الحديبي وعبد الكريم عبد القادر، وذات أصول عمانية – زنجبارية نشطت في البحرين والكويت والأحساء مثل راشد سالم الصوري وأحمد الزنجباري.
ويمكن أن نرى توليفة التحالفات في مثلث (حساوي/ زبيراوي/ بدوي حجازي) بين شادي الخليج (عبد العزيز المفرج) وغنام الديكان وعبد الله العتيبي من جهة، ومثلث آخر (زبيراوي/ كويتي وافد/ يمني –صومالي ) بين عبد الكريم عبد القادر وبدر بورسلي وعبد الرب إدريس.
وما نقصده هنا من لعبة التجاذب بين موروث ثقافي يمثل الخليج أو شرق الجزيرة العربية وشمالها (عناصره نجديّة/ كويتيّة/ يمنيّة) مقابل موروث ثقافي يمثل الحجاز أو غرب الجزيرة وجنوبها (عناصره حجازيّة/ مكيّة/ يمنيّة).
هذه التحالفات هي انعكاسات مباشرة لمجمل الموروثات الثقافية والاجتماعية، فمهما تلونت مسمياتها وحقولها الثقافية تعبر عن ذات خطاب التنازع المضمر ضمن خطاب التوافق. ولعلنا بذكرنا نموذج علي عبد الله جابر الذي أسقط من حسابات كتبي حين نزع في كتاباته إلى ثنائية القطبية (نجدي/ حجازي)، فإننا سنعده آخر مدرسة القراءة الإدماجية بين القراءة الحجازية والكوفية مع اعتداد كبير بموهبة وثقافة نغمية عالية وحسن تصرف في التلوين والتعبير. وهذا يوازي ما يعد من منجزات الغناء التعبيري الذي هذب موروثاً ثقافياً نافراً تعددت منابعه الريفية والبدوية والشعبية بالإضافة إلى عناصر التثاقف العربي في تجربة طلال مداح.
ولو رصدنا التحولات في استخدام السلالم النغمية في أغنية الثمانينّيات الجانحة إلى السلالم النغمية اللاجندرية، وهو ما تجلى في منجزات الأغنية عند عبد الكريم عبد القادر ورباب التي قادتها بشكل مباشر ألحان سليمان الملا منتخبة السلالم النصفية أو المنزوعة الخوافض من سلالات العجم والحجاز والكرد والنهوند (الواصل، 2010، ص: 226). والذي قاد تلك التحولات الاجتماعية والاقتصادية المستجدة في ضمير الغناء وتعقد الموقف الذهني من تجارب الحب المأزوم خارج إطار المواضيع البسيطة كالشوق والهجر والغزل والرثاء نحو الخيانة والشكوك والانتقام والمواجهة والتحدي هو ما ألزم التغير في الصياغات الشعرية واللحنية.
ولا ننسى موجات التثاقف البارزة بين تكوينات البوب الغربي ومنعكساته على تكوين البوب العربي منتصف عقد ثمانينيّات القرن العشرين، وموجة الفلامنكو في عقد التسعينيّات من القرن العشرين.
مجمل هذه التحولات يتلقفها ويتأثر بها بحسب الحاجة إلى النغم ومجالاته التعبيرية والتلوينية وهو ما نراه ماثل في قراءات هذا الجيل من أمثال أحمد العجمي وياسر الدوسري وناصر القطامي.
إذ تتّخذ المزايا التقشفية في القراءة النجدية باعتبارها الفرع من القراءة الكوفية عناصرها مع عناصر أخرى من مقرئين سواء من الشآم أو مصر أو باكستان مثلما يعبر عن مرجعيات جيله من القراءة الذي يقطع تماماً مع الجيل السابق، سواء مع القراءة التحزينية عند الخليفي، أو الانفعالية عند السديس، أو التغننية عند ابن سبيل نحو مساحات مغايرة ليس في نوع النغم الموظف، بل في طرق الأداء التي تكسر لعبة الأداء الانفعالي واقتصاديات التعبير نحو توظيف الجانب الحواري في الخفض والرفع، والجرأة في التمثيل والتنويع الصوتي عند مقرئين لا تسلط عليهم أنظار وأسماع العالمين، فهم ليسوا في الحرم وإنما يبنون تجاربهم خارجه تماماً وهو ما يخفف القيود التي يضطر إليها كل إمام في الحرم لكونه يمثل إمام المسلمين لا جماعة المسجد من الحاضرين.
وعدم الارتباط بالإمامة في الحرم المكي برغم المكاسب المعنوية والرمزية من ذلك تتوفر في المقابل فرص أكبر للمقرئين كل عام في مساجد عربية مختلفة، هي فرص كسب أرضية التكريس من الفضاء العام وارتفاع أسهم التنافس والمفاضلة اقتصاديّاً.
ففي القرن الواحد والعشرين تكرست شخصية “المقرئ عابر الحدود“، فالشيخ ناصر القطامي في العام 2010 تنقل بين مساجد قطر والأردن والكويت والإمارات والبحرين فيما تنقل سعد الغامدي بين مساجد الإمارات والكويت والعراق. وأما إدريس أبكر تنقل بين مسجدين في الكويت، ومساجد دبي وعجمان وأبو ظبي في الإمارات خلال رمضان العام 2012.
ويمكن أن تعلن بعض الجهات المعنية في بعض الدول مثل وزارة الأوقاف في الكويت عن جدولة قراء مختارين سواء من الكويت أو من خارجها في الجوامع الكبرى. ومثال ذلك عام 2011 حين أعلن جامع الشيخ زايد في أبو ظبي جدول صلوات التراويح لمقرئين من السعودية، وهم عبد الولي الأركاني، وناصر القطامي وياسر الدوسري وعبد المحسن الحارثي.
ناصر القطامي، سورة يس
وضمن الإطار الإلكتروني يمكن صناعة المجد لأي قارئ، وهو ما حدث بالفعل لكل من القراء توفيق الصايغ وماهر المعيقلي وعادل ريان وإدريس بكر، فقد توفرت شعبية كبرى من خلال تداول حر لتسجيلاتهم الصوتية والمرئية التي تنتشر كمحمولات بأكثر من صيغة تتنقل بأزرار متكررة بين المنتديات وبرامج التحميل المرئية والصوتية، وبرامح العرض المتاحة كاليوتيوب.
تدرج مسار القراء ضمن فن الترتيل بمختلف مدارسهم المكرسة يعتمد النص القرآني وإمكانياته الأدبية المتنوعة من تعاويذ وتسابيح وحواريات وسرديات بالإضافة إلى الإمكانيات الصوتية المختلفة بين قارئ وآخر، وأثر المرجعيات الثقافية المنعكسة في طرق الأداء تشكل إرثاً واسعاً.
ويسهل عدم التقيد وانكشاف الضعف في الصوت لا النص القرآني، فإذا كانت من أساسيات التجويد التلقين الشفوي وتعلم رواية واحدة والاعتماد على القدرات الخاصة في تدريب الحنجرة وتحسين أدائها من خلال التدرب على سلالم نغمية واكتشاف المساحات الممكنة في التعبير والتمثيل في الأداء.
وما يحمي القراء أنفسهم بانعدام الإيقاع التناظري والدائري في آيات النص عدا إيقاع الفواصل القرآنية، وانعدام اللحن الواحد لما يمكن أن تتيحه طاقة حروف المد والانسجامات الصوتية المعوضة عن تراكيب لحنية مرتبطة بالنص وإنما يتم الارتجال النغمي على المعنى ويترك للقارئ كل مرة يعيد فيها قراءة الآية اكتشاف طاقة الصوت لا المعنى.
إذ أن فن الترتيل بكل ما يمر بتاريخه، هو فن اللحظة الزمانية والمكانية ذاتها هي التي تصعد بنجم قاري كما يمكن أن تحبسه في محراب لا يسمع إلا نفسه حتى إن حضر مع من المأمومين فهو سيبقى فرد بين جماعة. وهكذا في فن الغناء بعيداً عن كل ترسانة القوالب الغنائية التي تموت وتحيى بحسب الحاجة المجتمعية والوظيفة التأثيرية فإن النص الشعري والنص اللحني لا يغدوان سوى حالة صوتية تتلاشى قوتها في صوت لا يقدم من خلالها تجربته الإنسانية. وإذا راعينا المستوى التعبدي والتقديسي للنص فإن الصوت يكسب من ذلك المستوى أسهماً تتأرجح بين إمكانيات الخاصة النافذة وبين إطار النص ومستواه الديني. لكن تبقى حقيقة دائمة بأن الإنسان بكل حواسه وأعضائه مسؤول عن حضاراته.
فن الغناء والترتيل حياتهما ومماتهما الصوت لا النص.
إشارة:
تعتمد الدراسة على نسخ رقميّة للمصادر الأساسية عن علم القراءات وتراجم القراء في موقعين: ملتقى أهل الحديث والمجلس العلمي –الألوكة، وأمّا ما توصلت إليه الدراسة فهي مسؤوليّة الباحث.